ابتداءً من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدّة ستّة أيّام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري، إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي، من مجموعات مسلّحة محسوبة على الحكومة المؤقتة في دمشق، راح ضحيّته أكثر من ألف مدني من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، حسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، من دون إعلان السلطات الرسمية عن عدد القتلى.
“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً، بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتُنشر الشهادات بالإنكليزية بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”، هنا الشهادة السادسة، وثّقت فيها الكاتبة شهادات من حي الدعتور في اللاذقية وحي القصور في بانياس.
من مفرق الجامع وحتى حارة المزار في حي الدعتور في اللاذقية، كانت عمّة كنان إبراهيم تسير رفقة جارتها ووالدة خطيبته باحثات عن ابن أخيها وصديقه تراب محمد، الذي كان يبيت عنده ليلة الخميس 6 آذار/ مارس 2025، وانقطعت أخبارهما تماماً، الشهادة هنا بلسان عمّة كنان.
الطريق ملأى بالجثث المتكوّمة على جانبي طرقات الحي وأزقّته، والنسوة الثلاثة يقلّبن الجثث بحثاً عن كنان وتراب، فقد كانت فصائل من المسلّحين التابعة للحكومة المؤقتة، بالإضافة إلى مجموعات من المدنيين قد غادرت المنطقة لتوّها، بعد انتهاء اشتباكات خاضتها ضدّ مجموعات أطلقوا عليها (فلول النظام السابق) إثر ذلك ارتُكبت مجازر بحقّ المدنيين في البيوت بعد انسحاب أولئك (الفلول) من الحي وانتهاء الاشتباكات.
سيّارات تحترق، صراخ ونواح نسوة ورجال وأطفال خرجوا من بيوتهم، ليبحثوا عن جثامين أحباب أُخذوا من بيوتهم ورُموا قتلى في الطرقات، وأنا أبحث عن ابن أخي كنان إبراهيم، أدور وأبحث…
هناك جثة عبير إبراهيم أمام بيت أمّ يوسف الشيخ، وهي سيّدة عجوز تكاد تبلغ التسعين عاماً، رأيتها تحاول إدخال جثمان ابنها الكبير يوسف، المدرّس في مدرسة الدعتور ذو السمعة الطيبة، والأب لولدين، احترقت جثته أمام البيت، بعد أن قتله المسلّحون بسبب صراخه: لا إله إلا الله، وهو يرى أخويه يُقتلان أمامه: محمد وهو مدرّس أيضاً، وأحمد وهو عامل بناء.
قال له المسلّح: وهل تعرف الله أنت؟ قبل أن يُطلق الرصاص عليه ثم يُضرم النار في جثته، أمّه العجوز تحكي لمن يمرّ من أمامها وهي تبكي. الحائط والشجرة وباب البيت كلّها متفحّمة، أما الرائحة فلا يمكن وصفها، وأنا أريد أن أعثر على ابن أخي!
كنان كان يعمل سائقاً بالأجرة، ورفيقه تراب عازف أورغ، ويسكن مع أمّه وأخته وأخيه الصغير، الذين لم يكونوا في البيت ذاك اليوم المشؤوم، نزلت أمّ تراب هي الأخرى تبحث معي عن تراب وكنان. لم أرَ ابن أخي منذ يوم الخميس، حين قرّر أن يغادر بيتنا القريب، وينضمّ إلى صديقه كي لا يبقى وحده وسط الخوف والترقّب اللذين كانا يسودان الحي، ترجّيته وأمه ألا يذهب ويبقى في البيت، لكنه أصرّ على الذهاب، “لست أنا ما من يترك رفيقه وحيداً”، قال لأمّه.
بعد خروجه يوم الخميس ظهراً إلى الدعتور، اقتحمت مجموعة من المسلّحين الملثّمين بيت أخي وأخذوا الموبايلات وما نملك من نقود، لكنّهم لم يقتلوا أحداً منّا، لذلك فقد قلت في قلبي سيكون كنان وتراب في أمان، طالما أنهما لم يقترفا جرماً في حياتيهما. لكنّنا لم نرَ أياً منهما في بيت تراب! رأينا الأغطية الصوفية التي كانا يتدثّران بها على الصوفايات (الكنبات) يبدو أنهما أُخذا من البيت فور استيقاظهما، أو أنهما كانا لا يزالان نائمين حين اقتحم المسلّحون البيت.
جثّتا الأستاذ الجامعي طلال قسّوم وأخيه مهنّد قسّوم أمام باب بيتهما، رصاصات في الرأس. زوجتاهما تنوحان قرب الجثّتين والأطفال حولهما، زوجة الأستاذ طلال تندب وهي تُخاطب جثّته: “والله ما خلّونا نقرّب عليكم، أخذوهم من البيت وقتلوهم”، قالوا لنا “إذا قرّبتوا من الجثّتين أو صوّرتوهما سنقتلكم ونشلحكم بجانبهما”.
ولكن أين كنان وتراب؟
وجدت أمّ أولاد العطواني، كانت تنوح كذلك أمام جثث أبنائها: علي (28 سنة)، وغفّار (18 سنة) وهو طالب ثانوي، وجعفر (25 سنة) كانت هي الأخرى تشهق، وهي تخبر الناس من حولها كيف أخذوا الثلاثة من البيت، وكيف رأتهم من الشرفة وهم يُقتلون معاً في الحارة. طلبوا من غفّار أن يركع، لكنه لم يستجب لهم وهو يرى أمّه تُراقبه، لم يرضَ أن يركع فضربوا ساقه بالرصاص حتى ركع، حينها ضربوا رصاصة أخرى على رأسه فمات من فوره، ليقتلوا أخويه بجانبه برصاصات في الرأس كذلك.
بدت أمّ علي العطواني كأنها جُنّت وهي تعفّر رأسها بالتراب.
رأيت الكثير من القتلى، أعرف معظمهم، مدنيون لا علاقة لهم لا بالسلاح ولا بالحرب. كل شيء حولي ضبابي، رائحة الموت والعويل والجثث ودخان الحريق.
ثم رأيت كنان من بعيد، ابن أخي حبيبي، في فسحة ترابية متوارية بين بيتين. لمحت أولاً دماء تخرج من تحت باب غرفة صغيرة مدخلها من جهة الساحة، قالوا لي إنهم وجدوا فيها شاباً يافعاً مقتولاً. لم أرَ إلا جسد كنان ملقى على وجهه لكني عرفته، كيف لا أعرفه! بجانبه جثة صديقه تراب. لم أستطع أن أقترب، آخر شيء رأيته كان بقايا من دماغه على الجدار المقابل، عينه خارج محجرها وفكّه خارج من مكانه. كيف سأخبر أمّه بكلّ هذا؟!
كان كنان حبيبي قد قُتل منذ البارحة برصاصة في رأسه، وتراب بطلقة هشّمت ساعده وطلقة ثانية في رأسه.
لفّ رجال العائلة جثمان ابن أخي ببطانية، وأخذوه مع بقيّة جثامين الضحايا في الدعتور، حملها أهلها ملفوفة ببطانيات كذلك، ليُدفنوا في مقبرة جماعية، هي عبارة عن أرض بور بين الدعتور وبكسا، وهبها صاحبها للأهالي كي يدفنوا ضحاياهم فيها.
كنان قُتل بدون ذنب، دُفن بدون كفن ولا تابوت، وتركني وصورة وجهه المشوّه التي ستلاحقني حتى مماتي.
بانياس: أمّ ميتة على قيد الحياة
في مكان آخر، ومدينة أخرى، وفي الوقت ذاته، كانت أمّ يوسف سوزان محيي نعمان ( 48 سنة) في حي القصور في مدينة بانياس تعيش كارثة أخرى. فمنذ أن بدأ إطلاق الرصاص الكثيف يتناهى إلى مسامعهم يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025، وقرأوا عن حظر التجوّل في المدينة التزموا بيوتهم. كانت هي وزوجها مالك محمود شريف ( 49 عاماً) وهو مهندس مدني ومدير آثار بانياس، وابنها يوسف مالك شريف ( 18 سنة) وهو طالب متفوّق في السنة التحضيرية لكلية الطب، وابنها الثاني هادي مالك شريف طالب متفوّق أيضاً في الباكالوريا للثانوية النفطية، قد انتهوا للتوّ من وجبة السحور استعداداً لصيام الغد، وبعد أذان الفجر راحت مساجد المدينة تُعلن: حيّ على الجهاد.
الشهادة هنا بلسان أمّ يوسف:
“لم أفهم بداية ما كان هذا النفير، لكن لم يطل الأمر حتى استيقظنا يوم الجمعة صباحاً بعد ساعات قليلة على أصوات قصف قريب، ودخلت مجموعات من الرجال إلى الحارة يصرخون ويشتمون، وبما أن بيتنا عند دوّار القصور فقد رأيت كيف كانوا يحرقون السيّارات والمحلّات والمطاعم.
قرابة الساعة الواحدة ظهراً راح يُضرب على باب بيتنا بالأقدام والبواريد، وصراخ يصلنا من الخارج: افتحوا الباب يا علوية يا خنازير… أشهر اثنان من المسلّحين الملثّمين السلاح في وجه أبو يوسف حالما فتح الباب.
أول سؤال سأله: أنتو علوية؟
إي نحن علوية!
هاتوا الهوّيات والموبايلات.
أخذني أحدهما إلى غرفة داخلية تحت تهديد السلاح، وقال لي: أعطيني كل شي معك مصاري وذهب. صرت أحلف له الأيمان إنو والله ما معي مصاري ولا ذهب.
صار ينكش في الخزانة وعثر على مبلغ صغير كان هادي قد جمّعه من عمله في السوبرماركت، ليدفع لقاء دروس سيأخذها من أجل امتحان الباكالوريا، فأخذهم، وقال لي: إبقي هنا، وإذا خرجت إلى الصالون سأقتلهم أمامك.
والله يا خالتي نحن ما عاملين شي!
إنتو كفار… إنتو…
نحن مو كفار، نحن منصوم ومنصلّي ومنخاف الله، هات المصحف الشريف لأحلفلك.
إنتو قتلتونا نحن أهل السنة، وبدنا نقتلكم متل ما قتلتونا.
أحسست للحظة أنه يعيد الجملة ليُقنع نفسه، فقد كان كتاب القرآن خاصّتي أمامه على الطاولة، وجملة خطّها يوسف بخط الثلث “القرآن الكريم” على ورقة معلّقة على الحائط.
يا خالتي نحن مدنيين، ناس علم، ما نحن اللي قتلناكم وما إلنا علاقة، صارت أخطاء بالزمن مو نحن اللي مندفع ثمنها، روحوا حاسبوا اللي قتلكم واقتلوهم…
في هذه اللحظة وقف مسلّح آخر عند باب البيت، لكنه لم يكن ملثّماً، رأيت عينيه التي لن أنساها ما حييت وصاح: يالله… جيبهم. أخذوا زوجي وولديّ معهم. حينها لم يكن لدي أدنى شكّ في أنهم سيقتلونهم، قلت لنفسي سيأخذونهم إلى التحقيق ويرجعونهم فوراً إلى البيت، مَن مِن الممكن أن يقتل شابين جميلين كولديّ؟! طالبان متفوّقان لا يعرفان إلا العلم، ويوسف سيقدّم غداً السبت امتحان آخر مادة وهي الكيمياء.
بقيت أنتظرهم في البيت، أدور في مكاني كالمجنونة، أدعو ربي وأنا أسمع أصوات الرجال وخطواتهم على درج البناية وفوقي على السطح. كيف سأطمئن على يوسف وهادي وقد أخذوا الموبايلات؟ وحيدة خايفة مرعوبة، أصبّر نفسي وأقول كلّ دقيقة: سينتهي التحقيق ويعودون.
يوم السبت صباحاً عادت مجموعة أخرى من المسلّحين تطرق الباب بعنف، سألوني فور فتحي للباب: إنت علوية؟ ثم أردفوا: وين الزُلم؟
ببوس إيدك إنت قلّي وين الزلم؟ أنتو أخذتوهم من مبارح… وينهم؟!
نظر إليّ بخبث وقال بابتسامة: بالتحقيق، شوي وبيرجعوا.
تجدّد عندي الأمل، لكن لم أكن أتخيّل أن جثث زوجي وولديّ الاثنين كانت منذ البارحة فوقي تماماً على السطح، بالإضافة إلى جارنا في الطابق السفلي اسكندر حيدر وابنه مراد، الذي نجا بإعجوبة ولم تقتله رصاصات المجرمين. لم يخبرني أحد أن أحبابي قُتلوا، كلّ الجيران كانوا يعرفون أن ولديّ وزوجي قُتلوا إلا أنا! نساء الحارة أخرجنني بعد ظهر السبت معهن لنحتمي في مركز إيواء في مساكن مصفاية بانياس، وهناك نقل إليّ أخي الخبر.
عائلة شريف خسرت في ذلك اليوم 10 أفراد.
راح جنى عمري، أهل نور وعلم قتلهم جهلة وظلاميون. خسرت الدنيا كلّها. ناس أبرياء قُتلوا ظلماً على أيدي الكفّار. نعم هم الكفّار الذين كفّروني لأنني علوية! أنت يا من قتلتهم هل تعرف الله أكثر مني؟ هل تصوم أو تصلّي أكثر مني؟ أنا ربّيت أولادي على مخافة الله والدين وفي النهاية نُقتل باسم الدين؟!
لا أستطيع حتى اليوم أن أدخل البيت، كان ممتلئاً بالحياة، ممتلئاً بضحكاتهم وأصواتهم، والآن ليس فيه إلا رائحة الموت والفراغ. يوم الأحد أنزل أخوتي والجيران الجثامين من على السطح بمساعدة الهلال الأحمر، لم يسمحوا لنا بأخذهم لنواريهم كما يليق بهم في مقبرة الضيعة، وضعوهم في مقابر جماعية إلى جانب مئات الجثامين الأخرى من الحي.
أريد أن أحكي للدنيا كلّها ما حصل معنا، أريد أن أرفع صوتي، فلم يعد لدي ما أخسره، أنا ميتة على قيد الحياة”.