fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل (٢)… عن ميلا التي قتلوها فلم تمت وميرا التي لم يقتلوها فماتت! 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ابتداء من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة ستة أيام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي من مجموعات مسلّحة محسوبة على الحكومة المؤقتة في دمشق، راح ضحيته أكثر من ألف مدنيّ من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، من دون إعلان السلطات الرسميّة عن عدد القتلى.

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”.

لم يستطع البطل الخيّر أن ينتصر في قصص الأطفال هذه، لم يُنقذ بابا من الوحش، لم ينجح في إعادة الصغار إلى حضن ماما، ولم يُنه الحكاية كما تنتهي عادة في القصص التي تربّينا عليها، أن يعيشوا في سبات ونبات وسعادة. في القصص هذه لم يكن ثمة بطل خيّر أصلاً، الأبطال برمتهم متعطّشون للدم. شكل الحكاية الجديد هذا سيصنع حكايات أخرى لن ينتصر فيها إلا الوحوش، ينتصرون على ذاكرة ومخيال وقلوب جيل كامل من أطفال الساحل السوري.

سأحكي لكم أولى هذه القصص عن ميلا سلمان، طفلة عمرها 5 سنوات ونصف السنة، لديها ضفيرتان كستنائيتان وضحكة تشرق وسط العتمة، تماماً كضحكات باقي الأطفال في تلك البلاد. لكن ذلك الصباح لن يدفن ضحكتها فحسب، بل سيقلب حياتها كلها إلى الأبد، صباح يوم السبت 8 آذار/ مارس 2025. أصوات إطلاق الرصاص في حي القصور بمدينة بانياس مخيفة، تصمّ الجو كما تصمّ الآذان. عائلة كميت سلمان 40 سنة، مهندس حواسيب في مستشفى بانياس، زوجته هبة العلي 38 سنة وابنه عليّ 7 سنوات وابنته ميلا، في بيت جيرانهم وأصدقائهم يزن الخليل وزوجته ألين شهلا وابنتهما الصغيرة قمر، التي لم تكن تتجاوز العامين، حين حصلت المجزرة.

قمر الصغيرة كنت حبّها كتير. 

تقول ميلا لخالتها. الأخيرة تحاول أن تغيّر الموضوع. 

فكّروني متت.

في ذلك الصباح الدموي كان الجميع يلبثون سوية في الصالون، الأخوان ميلا وعلي يرتجفان خوفاً من الأصوات في الخارج، ميلا في حضن والدتها وعليّ في حضن والده، أما الصغيرة قمر فتحملها أمها وتدور في الصالون لتهدئة بكائها الذي لا يتوقف. دقّ الباب فجأة وبقوة. راحت هبة تُطمئن ابنتها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، لا تخافي حبيبتي، لكن الصغيرة التصقت بحضن والدتها أكثر. دخلت مجموعة رجال مسلّحين ملثّمين وانتشروا في أرجاء البيت.

ما كان لهم وجوه… أخذوا بابا وعمو يزن معهم… ضربوا النار على ماما وخالتو ألين وضربوني على راسي بالبارودة.

تعود ميلا لسرد الحادثة من جديد. كلما أعادت الحكاية تذكّرت تفصيلاً جديداً.

حين دخل المسلحون البيت أخذوا كميت ويزن معهم، اقتادوهما إلى السطح وأطلقوا الرصاص عليهما. أما في البيت فقد أطلقوا الرصاص على هبة وألين والطفل علي وقمر، وضربوا ميلا على رأسها. ثمة شيء جعلهم لا يطلقون النار على رأسها! ربما كي تكون الشاهدة الوحيدة على المجزرة! أم لسبب آخر! أغمي عليها فلم تشعر بشيء.

لا… أنا نمت. علوش اللي غمي.

تصحّح ميلا المعلومة.

حين استيقظت ميلا كان كل شيء ساكناً، لم يعد هناك صراخ، صمت مطبق محيط. بدأت تكتشف محيطها: ماما بجانبها جثة على الأرض، شعرها الطويل وثيابها غارقان بالدم، إلى جانبها جثة أخيها علوش. هزّته ولم يتحرّك، كنزته الصوفية عليها سائل لزج لونه أحمر صبغ كفّيها. كنزة الصغيرة قمر الصفراء كانت ملطّخة كذلك بالأحمر وما زالت في حضن أمها القتيلة. 

قرّبت من قمر لأني حسّيت عيونها مفتوحة، لكنها ما فاقت. ماما ما فاقت كمان ولا علوش ولا خالتو ألين.

ميلا استيقظت لترى نفسها محاطة بالجثث التي لا تستيقظ. فما كان منها إلا أن عادت لتتمدّد بجانبهم، فلربما عاد المسلّحون فيعتقدونها قد ماتت، ويتركونها بحالها. هذا ما فكّرت فيه طفلة عمرها خمس سنوات ونصف السنة!

بعد وقت لا أعرفه جاءت خالتي لتأخذني معها، احتضنتني وهي تبكي، وحملتني معها فقلت لها أخذوا بابا.

بعد انتهاء المجزرة استطاعت خالة ميلا أن تصل الحي. البناية مليئة بالجثث، وهي لا تستطيع أن تهدئ من روعها ولا أن تُهدّئ من روع الصغيرة، فقد بدت مذهولة بجرح عميق في جبهتها وعينين تتحركان في الفراغ من دون أن تركّزا على صورة معينة وشحوب الموت في وجهها. كان عليهما أن تقطعا من فوق الجثث المنتشرة في طوابق البناية لتغادرا. في البيت المقابل سبع جثث لجيرانهم، الأب أمجد خزامي موظف في وزارة الزراعة والأم عبير حورية مدرسة لغة عربية، وخمسة أولاد، نور تدرس في الجامعة، مكوّمة تسبح بدمائها إلى جانب محمود 14 سنة، بانه 13 سنة، والتوأم آدم وأكرم 7 سنوات. وقفت ميلا ترمقهم بذهول.

آدم!!!

أسرعي أسرعي يا صغيرتي…

تشدّها الخالة من يدها. كل ما كانت تفكّر فيه في تلك اللحظة أن تخرج الصغيرة من هذا الجحيم. 

تنزلان الدرج فتلمح ميلا عبر باب شقة مفتوح، شعر جارتهم الأشقر وهي متكوّمة إلى جانب زوجها وابنها عليّ ذي الأعوام العشرة في الطابق الثالث. هي ممرضة اسمها رنا فياض، زوجها أيمن بلال موظف في مديرية الحراج. كانت نظارته إلى جانب رأسه، وابنهما يوسف ذو الأعوام السبعة يقف مذهولاً إلى جانب الجثث، فقد استطاع أن ينجو من المسلحين حين اختبأ داخل خزانة. يوسف شاهد آخر على مجزرة/ قصة لا تشبه قصص الأطفال المعتادة، سيعيد سردها بشكلها الجديد بعد نجاته. ولكن هل هي نجاة حقاً؟

يوسف… يوسف

أخذت الخالة ابنة أختها لتبقى معهم في مدينة طرطوس، تاركة جثة أختها وزوجها وابنها، فلم يُسمح لهم آنذاك بأخذ الجثث. أخرجتها من الجحيم، من دون أن تكون واثقة إن كان الجحيم سيخرج يوماً منها. ذاك الصباح كانت المرة الأخيرة التي سترى فيها ميلا أخاها علوش وبابا وماما وقمر الصغيرة أحياء، وحدها أشكال جثثهم المدمّاة ووجوههم المشوّهة هي التي ستنطبع ملتصقة بذاكرتها.

في ذلك اليوم ستأتي والدة يزن لتعثر عليه على السطح مع بقية الضحايا وما زال فيه نبض، لكنه سيُسلم الروح في المستشفى بعد ساعات قليلة. أما قمر الصغيرة فقد استطاعت جدتها أن تأخذ جثتها لتدفنها كما يليق بصغيرة جميلة ترتدي كنزة صفراء ملوّثة بالأحمر.

ميرا: “ماما قتلها الحرامي وعمل لها جورة في وجهها”

في ذلك الوقت وفي بيت قريب في الحي ذاته كانت طفلة أخرى، اسمها ميرا وعمرها ثلاث سنوات، تعيش قصة أخرى مشابهة، حين استيقظت من نومها على أصوات عالية في صالون البيت. لم تكن لميرا ضفيرتان، لكن ماما وضعت لها قبل أن تنام بكلتين للشعر على شكل وردتين بلون البيجاما الوردية التي ترتديها. حملت لعبة الدبدوب الأبيض وخرجت إلى الصالون وكان مليئاً برجال معهم أسلحة.

الحرامي قال للماما أعطيني المصاري، قالت له ما معنا مصاري ولا ذهب، أنا موظفة وما معي دهب.. دخيلك لا تقتلني منشان هالبنت. قصدها أنا… قوّصها بوجهها ودخل على الغرفة وأخذ للماما السيشوار وليس الشعر… قال لي فوتي نامي، قلت له بدي اقعد جنب الماما وما بدي نام… قال لي ادخلي نامي.

ميرا ربيب لم تُقتل. لم يُطلق عليها ذلك المسلّح النار. هل كانت لديه طفلة في عمرها! ربما. هل تركها شاهدة على مجزرة! ربما. ستظلّ أسئلة حائمة في الذاكرة لا تعثر على إجابات لتهدأ. لكن ميرا ستشهد مقتل والدها غسان ربيب، عامل في مصفاة بانياس وشيف في مطعم بيتزا، ستراه ملقىً على وجهه يسبح في بركة من الدماء والرصاصة في رأسه، وستضع بجانبه لعبة الدبدوب كي لا يبقى وحده، فهي ستجلس بجانب أمها فاتن إدريس، معلمة في مدرسة الصناعة، الممدّدة على السجادة والغارقة بدمها والفجوة التي صنعتها الرصاصة في وجهها تأكل معظمه.

ماما قتلها الحرامي وعمل لها جورة في وجهها، نايمة وما عم تفيق!

وبابا؟

بابا نايم كمان وبركة حمرا حوله. 

لا تخافي أنا قادم لآخذك. 

قالت ميرا لخالها على الهاتف. 

الخال الذي أراد الاطمئنان على أخته وزوجها وابنتها، محاصر في قريتهم حريصون التي هاجمها مسلحون اجتاحوا القرية، أطلقوا القذائف وحرقوا وسرقوا ليفرّ الكثير من أهلها إلى الأحراج والضيع المجاورة قبل أن يقتلوا ما قتلوا منها. كانت الأخبار تصل من بانياس والضيع المجاورة بأن ثمة مجازر ارتكبت هناك، وهو يأكله القلق على أخته وعائلتها. 

لحظتها سمع الخال حركة بجانب ميرا وأُغلق الهاتف. 

كان الخال قد تيقّن مما حدث بعدما أغلق شخص ما الهاتف في وجهه، يحاول طيلة الوقت أن يتصل بالجارة التي تسكن فوق بيت أخته، رجاها أن تنزل لتأخذ ميرا من البيت. كانت تبكي ويرتجف صوتها وهي تخبره أنهم محاصرون ولا يستطيعون الحركة خارج البيت، لكن حماتها ترتدي عادة لباساً يشبه لباس نساء البلد، جلباباً طويلاً وغطاء رأس أبيض، فاعتقدها المسلّحون من الطائفة السنية بسبب لباسها، وكانوا يلومونها قبل دقائق لأنها متزوجة من رجل علوي، ربما نجحت في إخراج ميرا من البيت. بالفعل حين وصلت الجارة إلى البيت في الطابق الأسفل كانت ميرا تجلس وحدها بجانب جثّتي والديها بصمت وهدوء وتنظر في الفراغ.

ماما ما عم تردّ عليّ! عم حاول فيّقها ما عم تفيق!

 قالت للجارة، قبل أن تغطّي الأخيرة جثة الأم فاتن ببطانية وتأخذ الصغيرة ميرا معها. بسبب من تلك المرأة أمكن لميرا الخروج لتبقى خمسة أيام معها، إلى اليوم الذي استطاع الخال فيه النزول إلى بانياس وأخذها إليه. 

ظلت جثتا غسان وفاتن على الأرض حتى بعد الظهر. لم يستطع أهلهما النزول من قريتهم حريصون ليستملوا جثمانيهما. ألبسهما متطوعو الهلال الأحمر أكياساً بيضاء كتبوا اسميهما عليها، قبل أن يأخذوهما مع جثث الضحايا الأخرى من الحي في سيارات الهلال ويدفنوهما في مقابر جماعية إلى جانب مقام الشيخ هلال. فوق رأس كل جثمان وضعوا قطعة بلوك مرتجلة عليها الاسم تشير إلى مكانه. هنا ثمة جثمان لشخص كانت لديه حياة، كما لديه عائلة وأحباب وذاكرة.

ميلا وميرا ناجيتان من مجزرتين شهدتاهما بأم عينيهما، كما كثيرون من أطفال الساحل السوري، نجتا فيزيائياً، لكن لم تنجيا كطفلتين ستكبران حاملتين معهما شعور الناجي، شعوراً مفخّخاً بذنب البقاء، صوراً بشعة، خوفاً دفيناً، ذاكرة ثقيلة ثقيلة مع أشباح فوق روحيهما، مع قصص جديدة انكتبت ستحكيانها في قادم الزمن عن آباء وأمهات وأخوة دفنوا في مقابر جماعية ولم يعودوا بسلام إلى البيت، قصص ليس فيها أبطال خيّرون نجحوا في إنقاذ الناس، بل وحدهم الوحوش هم الذين انتصروا!

نشرت الشهادة الأولى في هذا الرابط بعنوان: شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل (١): “لمن سأقول بعد اليوم صباح الخير!”

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”.

ابتداء من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة ستة أيام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي من مجموعات مسلّحة محسوبة على الحكومة المؤقتة في دمشق، راح ضحيته أكثر من ألف مدنيّ من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، من دون إعلان السلطات الرسميّة عن عدد القتلى.

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”.

لم يستطع البطل الخيّر أن ينتصر في قصص الأطفال هذه، لم يُنقذ بابا من الوحش، لم ينجح في إعادة الصغار إلى حضن ماما، ولم يُنه الحكاية كما تنتهي عادة في القصص التي تربّينا عليها، أن يعيشوا في سبات ونبات وسعادة. في القصص هذه لم يكن ثمة بطل خيّر أصلاً، الأبطال برمتهم متعطّشون للدم. شكل الحكاية الجديد هذا سيصنع حكايات أخرى لن ينتصر فيها إلا الوحوش، ينتصرون على ذاكرة ومخيال وقلوب جيل كامل من أطفال الساحل السوري.

سأحكي لكم أولى هذه القصص عن ميلا سلمان، طفلة عمرها 5 سنوات ونصف السنة، لديها ضفيرتان كستنائيتان وضحكة تشرق وسط العتمة، تماماً كضحكات باقي الأطفال في تلك البلاد. لكن ذلك الصباح لن يدفن ضحكتها فحسب، بل سيقلب حياتها كلها إلى الأبد، صباح يوم السبت 8 آذار/ مارس 2025. أصوات إطلاق الرصاص في حي القصور بمدينة بانياس مخيفة، تصمّ الجو كما تصمّ الآذان. عائلة كميت سلمان 40 سنة، مهندس حواسيب في مستشفى بانياس، زوجته هبة العلي 38 سنة وابنه عليّ 7 سنوات وابنته ميلا، في بيت جيرانهم وأصدقائهم يزن الخليل وزوجته ألين شهلا وابنتهما الصغيرة قمر، التي لم تكن تتجاوز العامين، حين حصلت المجزرة.

قمر الصغيرة كنت حبّها كتير. 

تقول ميلا لخالتها. الأخيرة تحاول أن تغيّر الموضوع. 

فكّروني متت.

في ذلك الصباح الدموي كان الجميع يلبثون سوية في الصالون، الأخوان ميلا وعلي يرتجفان خوفاً من الأصوات في الخارج، ميلا في حضن والدتها وعليّ في حضن والده، أما الصغيرة قمر فتحملها أمها وتدور في الصالون لتهدئة بكائها الذي لا يتوقف. دقّ الباب فجأة وبقوة. راحت هبة تُطمئن ابنتها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، لا تخافي حبيبتي، لكن الصغيرة التصقت بحضن والدتها أكثر. دخلت مجموعة رجال مسلّحين ملثّمين وانتشروا في أرجاء البيت.

ما كان لهم وجوه… أخذوا بابا وعمو يزن معهم… ضربوا النار على ماما وخالتو ألين وضربوني على راسي بالبارودة.

تعود ميلا لسرد الحادثة من جديد. كلما أعادت الحكاية تذكّرت تفصيلاً جديداً.

حين دخل المسلحون البيت أخذوا كميت ويزن معهم، اقتادوهما إلى السطح وأطلقوا الرصاص عليهما. أما في البيت فقد أطلقوا الرصاص على هبة وألين والطفل علي وقمر، وضربوا ميلا على رأسها. ثمة شيء جعلهم لا يطلقون النار على رأسها! ربما كي تكون الشاهدة الوحيدة على المجزرة! أم لسبب آخر! أغمي عليها فلم تشعر بشيء.

لا… أنا نمت. علوش اللي غمي.

تصحّح ميلا المعلومة.

حين استيقظت ميلا كان كل شيء ساكناً، لم يعد هناك صراخ، صمت مطبق محيط. بدأت تكتشف محيطها: ماما بجانبها جثة على الأرض، شعرها الطويل وثيابها غارقان بالدم، إلى جانبها جثة أخيها علوش. هزّته ولم يتحرّك، كنزته الصوفية عليها سائل لزج لونه أحمر صبغ كفّيها. كنزة الصغيرة قمر الصفراء كانت ملطّخة كذلك بالأحمر وما زالت في حضن أمها القتيلة. 

قرّبت من قمر لأني حسّيت عيونها مفتوحة، لكنها ما فاقت. ماما ما فاقت كمان ولا علوش ولا خالتو ألين.

ميلا استيقظت لترى نفسها محاطة بالجثث التي لا تستيقظ. فما كان منها إلا أن عادت لتتمدّد بجانبهم، فلربما عاد المسلّحون فيعتقدونها قد ماتت، ويتركونها بحالها. هذا ما فكّرت فيه طفلة عمرها خمس سنوات ونصف السنة!

بعد وقت لا أعرفه جاءت خالتي لتأخذني معها، احتضنتني وهي تبكي، وحملتني معها فقلت لها أخذوا بابا.

بعد انتهاء المجزرة استطاعت خالة ميلا أن تصل الحي. البناية مليئة بالجثث، وهي لا تستطيع أن تهدئ من روعها ولا أن تُهدّئ من روع الصغيرة، فقد بدت مذهولة بجرح عميق في جبهتها وعينين تتحركان في الفراغ من دون أن تركّزا على صورة معينة وشحوب الموت في وجهها. كان عليهما أن تقطعا من فوق الجثث المنتشرة في طوابق البناية لتغادرا. في البيت المقابل سبع جثث لجيرانهم، الأب أمجد خزامي موظف في وزارة الزراعة والأم عبير حورية مدرسة لغة عربية، وخمسة أولاد، نور تدرس في الجامعة، مكوّمة تسبح بدمائها إلى جانب محمود 14 سنة، بانه 13 سنة، والتوأم آدم وأكرم 7 سنوات. وقفت ميلا ترمقهم بذهول.

آدم!!!

أسرعي أسرعي يا صغيرتي…

تشدّها الخالة من يدها. كل ما كانت تفكّر فيه في تلك اللحظة أن تخرج الصغيرة من هذا الجحيم. 

تنزلان الدرج فتلمح ميلا عبر باب شقة مفتوح، شعر جارتهم الأشقر وهي متكوّمة إلى جانب زوجها وابنها عليّ ذي الأعوام العشرة في الطابق الثالث. هي ممرضة اسمها رنا فياض، زوجها أيمن بلال موظف في مديرية الحراج. كانت نظارته إلى جانب رأسه، وابنهما يوسف ذو الأعوام السبعة يقف مذهولاً إلى جانب الجثث، فقد استطاع أن ينجو من المسلحين حين اختبأ داخل خزانة. يوسف شاهد آخر على مجزرة/ قصة لا تشبه قصص الأطفال المعتادة، سيعيد سردها بشكلها الجديد بعد نجاته. ولكن هل هي نجاة حقاً؟

يوسف… يوسف

أخذت الخالة ابنة أختها لتبقى معهم في مدينة طرطوس، تاركة جثة أختها وزوجها وابنها، فلم يُسمح لهم آنذاك بأخذ الجثث. أخرجتها من الجحيم، من دون أن تكون واثقة إن كان الجحيم سيخرج يوماً منها. ذاك الصباح كانت المرة الأخيرة التي سترى فيها ميلا أخاها علوش وبابا وماما وقمر الصغيرة أحياء، وحدها أشكال جثثهم المدمّاة ووجوههم المشوّهة هي التي ستنطبع ملتصقة بذاكرتها.

في ذلك اليوم ستأتي والدة يزن لتعثر عليه على السطح مع بقية الضحايا وما زال فيه نبض، لكنه سيُسلم الروح في المستشفى بعد ساعات قليلة. أما قمر الصغيرة فقد استطاعت جدتها أن تأخذ جثتها لتدفنها كما يليق بصغيرة جميلة ترتدي كنزة صفراء ملوّثة بالأحمر.

ميرا: “ماما قتلها الحرامي وعمل لها جورة في وجهها”

في ذلك الوقت وفي بيت قريب في الحي ذاته كانت طفلة أخرى، اسمها ميرا وعمرها ثلاث سنوات، تعيش قصة أخرى مشابهة، حين استيقظت من نومها على أصوات عالية في صالون البيت. لم تكن لميرا ضفيرتان، لكن ماما وضعت لها قبل أن تنام بكلتين للشعر على شكل وردتين بلون البيجاما الوردية التي ترتديها. حملت لعبة الدبدوب الأبيض وخرجت إلى الصالون وكان مليئاً برجال معهم أسلحة.

الحرامي قال للماما أعطيني المصاري، قالت له ما معنا مصاري ولا ذهب، أنا موظفة وما معي دهب.. دخيلك لا تقتلني منشان هالبنت. قصدها أنا… قوّصها بوجهها ودخل على الغرفة وأخذ للماما السيشوار وليس الشعر… قال لي فوتي نامي، قلت له بدي اقعد جنب الماما وما بدي نام… قال لي ادخلي نامي.

ميرا ربيب لم تُقتل. لم يُطلق عليها ذلك المسلّح النار. هل كانت لديه طفلة في عمرها! ربما. هل تركها شاهدة على مجزرة! ربما. ستظلّ أسئلة حائمة في الذاكرة لا تعثر على إجابات لتهدأ. لكن ميرا ستشهد مقتل والدها غسان ربيب، عامل في مصفاة بانياس وشيف في مطعم بيتزا، ستراه ملقىً على وجهه يسبح في بركة من الدماء والرصاصة في رأسه، وستضع بجانبه لعبة الدبدوب كي لا يبقى وحده، فهي ستجلس بجانب أمها فاتن إدريس، معلمة في مدرسة الصناعة، الممدّدة على السجادة والغارقة بدمها والفجوة التي صنعتها الرصاصة في وجهها تأكل معظمه.

ماما قتلها الحرامي وعمل لها جورة في وجهها، نايمة وما عم تفيق!

وبابا؟

بابا نايم كمان وبركة حمرا حوله. 

لا تخافي أنا قادم لآخذك. 

قالت ميرا لخالها على الهاتف. 

الخال الذي أراد الاطمئنان على أخته وزوجها وابنتها، محاصر في قريتهم حريصون التي هاجمها مسلحون اجتاحوا القرية، أطلقوا القذائف وحرقوا وسرقوا ليفرّ الكثير من أهلها إلى الأحراج والضيع المجاورة قبل أن يقتلوا ما قتلوا منها. كانت الأخبار تصل من بانياس والضيع المجاورة بأن ثمة مجازر ارتكبت هناك، وهو يأكله القلق على أخته وعائلتها. 

لحظتها سمع الخال حركة بجانب ميرا وأُغلق الهاتف. 

كان الخال قد تيقّن مما حدث بعدما أغلق شخص ما الهاتف في وجهه، يحاول طيلة الوقت أن يتصل بالجارة التي تسكن فوق بيت أخته، رجاها أن تنزل لتأخذ ميرا من البيت. كانت تبكي ويرتجف صوتها وهي تخبره أنهم محاصرون ولا يستطيعون الحركة خارج البيت، لكن حماتها ترتدي عادة لباساً يشبه لباس نساء البلد، جلباباً طويلاً وغطاء رأس أبيض، فاعتقدها المسلّحون من الطائفة السنية بسبب لباسها، وكانوا يلومونها قبل دقائق لأنها متزوجة من رجل علوي، ربما نجحت في إخراج ميرا من البيت. بالفعل حين وصلت الجارة إلى البيت في الطابق الأسفل كانت ميرا تجلس وحدها بجانب جثّتي والديها بصمت وهدوء وتنظر في الفراغ.

ماما ما عم تردّ عليّ! عم حاول فيّقها ما عم تفيق!

 قالت للجارة، قبل أن تغطّي الأخيرة جثة الأم فاتن ببطانية وتأخذ الصغيرة ميرا معها. بسبب من تلك المرأة أمكن لميرا الخروج لتبقى خمسة أيام معها، إلى اليوم الذي استطاع الخال فيه النزول إلى بانياس وأخذها إليه. 

ظلت جثتا غسان وفاتن على الأرض حتى بعد الظهر. لم يستطع أهلهما النزول من قريتهم حريصون ليستملوا جثمانيهما. ألبسهما متطوعو الهلال الأحمر أكياساً بيضاء كتبوا اسميهما عليها، قبل أن يأخذوهما مع جثث الضحايا الأخرى من الحي في سيارات الهلال ويدفنوهما في مقابر جماعية إلى جانب مقام الشيخ هلال. فوق رأس كل جثمان وضعوا قطعة بلوك مرتجلة عليها الاسم تشير إلى مكانه. هنا ثمة جثمان لشخص كانت لديه حياة، كما لديه عائلة وأحباب وذاكرة.

ميلا وميرا ناجيتان من مجزرتين شهدتاهما بأم عينيهما، كما كثيرون من أطفال الساحل السوري، نجتا فيزيائياً، لكن لم تنجيا كطفلتين ستكبران حاملتين معهما شعور الناجي، شعوراً مفخّخاً بذنب البقاء، صوراً بشعة، خوفاً دفيناً، ذاكرة ثقيلة ثقيلة مع أشباح فوق روحيهما، مع قصص جديدة انكتبت ستحكيانها في قادم الزمن عن آباء وأمهات وأخوة دفنوا في مقابر جماعية ولم يعودوا بسلام إلى البيت، قصص ليس فيها أبطال خيّرون نجحوا في إنقاذ الناس، بل وحدهم الوحوش هم الذين انتصروا!

نشرت الشهادة الأولى في هذا الرابط بعنوان: شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل (١): “لمن سأقول بعد اليوم صباح الخير!”

|

اشترك بنشرتنا البريدية