ماذا سأقول لك؟ يا ليت ذاك الصباح لم يأت، يا ليتني لم أكن اختصاصية نفسية ولا عاملة في الدعم النفسي، ولا استجبت لدعوات الخروج إلى الضيع المنكوبة في الساحل. كيف سأُشفى مما رأيته! كيف سأشفى من عيون الأطفال فارغة مبحلقة برعب، من بيجاماتهم الملوّثة بسبب التبوّل اللاإرادي، من صراخ النسوة وعويلهن ورائحة الدم والحرائق.
عملت طويلاً في مدينتي اللاذقية مع النازحين والنازحات من مجازر النظام السابق من إدلب وحلب، وعملت مع الناجين والناجيات من الزلزال الذي ضرب المنطقة عام 2023، ولم أستطع حتى اللحظة أن أبني حصانة نفسية ضد التورّط عاطفياً في مآسي الناس! الموت هنا أيضاً كان يجثم عليّ علقة تمتصّ روحي. يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً.
يومذاك كنّا، أعضاء فريقي الصغير العامل في الدعم النفسي وأنا، في قرية المختارية بريف اللاذقية بعد ثلاثة أيام من المجزرة. وصولنا إلى هناك كان مغامرة خطرة أعرف، خصوصاً على الطرقات التي كانت لا تزال مفتوحة على الموت، لكن كان ثمة شيء يشدّنا للذهاب لم نستطع مقاومته. كلّما اقتربت من المكان ازدادت أصوات صراخ النسوة ونواحهن حدّة. بدأت جثث الرجال المشلوحة على طرف الطريق تظهر، جثة جثتان، تتزايد، كومة من عشرات الجثث معظمها ببيجامات وألبسة البيت وشحّاطات وبعضها حفاة الأقدام. نساء يبحثّن في الجثث وينُحْنَ، امرأة تصرخ على جثة رجل ببيجاما سوداء: يا الله بيي وخيي… يا جعفر… جعفر جعفر يا الله. امرأة أخرى تنوح على جثة شاب: يا ريتهم قوصوني أنا يا أمي… قوّصوني أنا.
فيما جمع من أطفال الضيعة يقفون على الأطراف بجانب كومة الجثث ويراقبون بصمت.
الصراخ يصمّ الجو، العويل، والهواء البارد يحرّك الأغطية التي تستر بعض الجثث، فتبدو وجوههم مثقوبة بفجوات الرصاص. كان جلياً أن ثمة إعداماً ميدانياً حصل هنا لعشرات الرجال والشبان، فالجثث تتكئ على بعضها البعض عند حائط أحد بيوت القرية.
في 7 آذار/ مارس 2025 الساعة الثامنة والنص صباحاً، استيقظت المختارية على أصوات إطلاق رصاص كثيف وقذائف آر بي جي. الناس الذين كانوا في الشوارع وقتها أصيبوا بالرصاص وآخرون أصيبوا وهم في بيوتهم، المصابون في الشوارع ظلّوا ينزفون حتى الموت من دون أن يقدر أحد على إسعافهم.
“ثلاثة أيام ما سمحوا لنا بدفن أولادنا. كلما طلعنا نحن النسوان لنأخذ الجثث يطلقون النار علينا. ما كنت عم فكّر غير إني أدفن ابني حمودي وحيدي… حمودي وحيدي لا بعمره حمل سلاح ولا شي. والله طلعت وتحت الرصاص حملته وضمّيته ع صدري ويقتلوني… والله كنت اشتغل بالأراضي ليعيش ويلبس وياكل…”.
تنوح الأم وهي تريني صورة محمد مريم بين يديها وتحكي لي عن مقتله. محمد طالب جامعة عمره 24 سنة، قُتل الكثير من رجال عائلته أيضاً. في يدها الثانية صورة قصي إسبر، طالب بكالوريا لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، ابن أختها ولكنه كان بمثابة ابن لها منذ أن تولّت تربيته بعد موت أمه وهو طفل. والده لؤي إسبر قُتل هو الآخر.
“منربّي ولادنا كل شبر بندر، بتطلع أرواحنا ليكبروا، بعدين وبرصاصة… بلحظة.. هيك بيروحوا”!
تعود الأم للنواح. حاولت صبية تخرّجت قبل شهور في هندسة الإلكترونيات أن تخبرني بما حصل، حاولت أن تكون هادئة ومتّزنة في حديثها. شعرت بالخوف عليها أكثر لأنها بدت بهدوئها ذاك رازحة تحت ثقل صدمتها، فقد كانت تحدّثني عن عائلات كاملة في القرية قُتلت: عائلة عبدالله، عائلة الشاتوري، عائلة حويجه، عائلة شعبان وغيرها:
فكرنا بداية أن هناك تمشيطاً للمنطقة للبحث عن السلاح، لذلك كلنا التزمنا في بيوتنا وأغلقنا الأبواب، فما من شيء نخاف منه، لا حملنا سلاحاً يوماً ولا نملك سلاحاً في البيت، قلنا لأنفسنا لا سبب للخوف. ثم سمعنا أصوات تكبيرات في الشوارع، ومن ثم صوت قرآن بالميكرفونات، استغربنا كتير! ثم صار صراخ النساء والأطفال يعلو من هنا وهناك، عندها بدا واضحاً أن هناك مجزرة تقترب منّا، فقررنا أن نترك البيت ونختبئ في الحرش القريب، ثم راح كل منّا في اتجاه وهشلنا في البساتين والبراري.
بدأت أرتال من السيارات والمسلحين تدخل الضيعة من جهة الشير، أشكالهم غريبة، جمعوا الشباب الموجودة في القرية من بيوتها، ولم يوفّروا العجائز، أجبروهم على الزحف وتقليد الحيوانات، ضربوهم بعصي الحديد على رؤوسهم وأجسادهم.
هل رأيت الفيديو الذي نشروه عن فعلتهم؟! هل رأيت ذلك العجوز… هذا… هذا جارنا فلاح لا حول له ولا قوة. هل رأيت هذا الشاب… نعم هذا… هذا طالب في الجامعة.
مسلّحون بثياب جيش صحراوي وذقون طويلة وبدون شوارب، بعضهم بألبسة مدنية، وواحد يصرخ: فإن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن تقاتلوهم يولونكم الأدبار. مختار الضيعة لم يرضَ أن يهرب بداية الاجتياح، خرج إليهم وسألهم من أنتم؟ ماذا تفعلون هنا؟
مين إنت؟
أنا مختار الضيعة
فما كان من المسلّح إلا أن وضع البارودة في رأسه وأطلق النار، ليتكوّم المختار في أرضه جثة هامدة ظلّت أياماً في مكانها.
عدنا إلى الضيعة من البساتين، البيوت مسروقة منهوبة وبعضها محروق، ما في مكان نضلّ فيه، لذلك انتقل رتل من النساء والأطفال من الضيعة إلى قرية جبريون واجتمعوا هناك في الجامع.
أردفت الصبية وعادت الى هدوئها الصامت المقلق.
بعيداً عن ضيعة المختارية وفي ضيعة برابشبو في ريف اللاذقية، كان الوضع أشدّ سوءاً.
البيوت منهوبة ومحروقة، السيارات متفحمة على أطراف الطريق وأمام البيوت، أسر كاملة ما زالت تبيت ومنذ أيام في الأحراش، ومن بقي في بيته بعد المجزرة لا يجرؤ على الخروج منه. دفع رجل عجوز بورقة في وجهي عليها أسماء من استطاع إحصاءهم من ضحايا القرية.
أنا أخصائية نفسية يا عم، الأرقام لا تعنيني. كل ضحية بريئة هي بالنسبة لي مجزرة بحدّ ذاتها.
ما كان من ذاك العجوز إلا أن بدأ بالنحيب.
سمير شاهين ذاك الرجل المريض الذي قتلوه في سريره، لا تزال جثته على السرير! تلك الأم التي تجلس منذ أيام على الصوفا ذاتها وتتحدّث مع ابنها الذي قُتل في المجزرة. تتحدّث معه كأنه يجلس بجانبها، رامي سلمان شاهين كان دكتوراً بالرياضيات أتى لوداع والدته قبل أن يلتحق بجامعته حيث سيُدرّس في إحدى الدول العربية، فقتلوه برصاصة. الهلاوس السمعية البصرية رأيتها عند أكثر من حالة، كأن أطياف من رحلوا تسكن الأمكنة والفضاء، غير راضية أن تمضي. حالات التبوّل اللاإرادي عند الأطفال كثيرة بسبب الرعب الذي عايشوه، فلا يكاد بيت يخلو منها، رأيت هنا كذلك البيجامات الملوثة بالبول والعيون المبحلقة في الفراغ.
صور الأطفال الذين قُتلوا تدفعها الأمهات في وجهي وهنّ ينحن ويسألنني: لماذا قتلوهم؟ هل هؤلاء فلول؟ هل يحملون أسلحة؟!! وليست لدي إجابات. نجم عثمان، كنان شاهين، شاب سنة أولى كلية طب، وشاب آخر سنة أولى طب أسنان، كانت أمه تحتضن الصورة وتنوح. القتل هنا أيضاً صار في الوجه، صور القتلى مثقّبة الوجوه وقد هُشّم جزء منها. حالات الصدمة كانت واضحة بالنسبة لي، بنت منهارة قُتلت رفيقتها سراب يوسف مع عائلتها برصاصة في وجهها. منذ أيام لم تستطع تناول الطعام، إن وجد فتات الطعام، كلما أرادت الأكل تخيّلت وجه خولة مثقوباً. وعلى الرغم من ذلك، معظم أهالي القرية لم يجرؤوا على الحديث عمّا حصل، الخوف من عودة المسلّحين الذين ما زالوا يحاصرون المكان، والذين ما زالت وجوههم وأسلحتهم والموت الذي قدموا به حاضرة حولهم وفي ذاكرتهم، جعلهم غير قادرين حتى على الحديث عن موت أحبابهم.
صبية مع رضيع على حجرها عمره خمسة شهور، تجلس مذهولة منذ أن رأت جثث زوجها وأبيها وأخيها.
حين غادرت القرية إلى قرية أخرى كنت أفكّر بأن ما يحتاجه المنكوبون هنا بالتوازي مع الغذاء والأغطية هو أدوية نفسية مهدئة، لا لشيء إلا ليستطيعوا استيعاب كل الويل الذي حصل، وأقول “استيعاب” وليس “قبول”، لأن قبولَ فقدانٍ “عبر فجيعة كهذه” طريقٌ طويل طويل سيحتاج الى الكثير من الجهد ولست واثقة من تحقّقه أبداً.
في ضيعة الشير في ريف اللاذقية، كانت الجثث لا تزال على أطراف الطرق ومكوّمة في ساحة القرية منذ أن أُعدم أصحابها في 7 آذار/ مارس 2025. أمشي وأراقب الوجوه وأشمّ رائحة الموت في الهواء. هنا أيضاً لم يسمحوا للناس بدفن جثث أبنائهم وأحبابهم. في زواريب الضيعة الجانبية هناك جثث مغطّاة بالعشب والأغصان، ظنّ أهلهم أنهم يخبّئونها بذلك من العيون المترصّدة، فلا يأتي أحد ويأخذها منهم، على الأقل كي لا يحرقوها أو يدفنوها في مقابر جماعية بعيدة. النساء اللواتي حاولن حمل الجثث لدفنها أُطلق الرصاص عليهن. هنا أيضاً يُعاد السيناريو نفسه الذي حصل في الضيع الأخرى، الحكاية ذاتها وبالترتيب ذاته. ثمة شيء ممنهج ومتشابه في كل الضيع التي زرتها.
جابر الشيخ طبيب الهضمية، وأخواه المهندسان حسام وأكثم وأبوهما غسان الشيخ، عائلة مدنية كاملة تمّت تصفيتها من ضمن عشرات العوائل في الشير. قتلوهم بدون أي سؤال، دخلوا البيوت، أخرجوهم منها، وأطلقوا الرصاص عليهم، فالمذبحة بدأت عند بيوت الشير التي تطلّ على الطريق العام، أما البيوت البعيدة عن الطريق إلى الداخل قليلاً فقد استطاع الكثير من أصحابها الهرب إلى الأحراش. هل تكون لعنة الجغرافيا؟! قلت لكم، السيناريو ذاته سيتكرّر في معظم الضيع التي تعرّضت للمجازر.
في ذاك البيت الذي جلست فيه مع أهله كانت جثة الأب أمامي ما زالت على الصوفا! أهل البيت حوله وحولي يبدون كأنهم مغيّبون عن الواقع، وأنا جلست أحدّثهم والجثة قبالتي! هل فقدت عقلي؟ هل أنا هي أنا؟ هل أصبت بعدوى الغياب؟ تلك العجوز بجانب الجثة قبالتي، بمنديل الصوف حول رأسها، كانت تريد أن تدفن جثث أولادها وزوجها بجانب البيت، هذا كل ما كانت تأمل به وقتذاك.
هل تعرفين، لم أعد أقوى على الحديث، أشعر بأنني سأختنق! أحسّ أن مهنتي أشبه بلعنة عليّ، لطالما كانت لعنة عليّ، وأتمنى أن أشلع قلبي من مكانه وأرميه بعيداً كي لا يتألم بعد الآن. لن أستطيع إكمال الحديث… اعذريني.
إقرأوا أيضاً: