fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل (4):”الشيخ” الذي يقررّ الحياة والموت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”، هنا الشهادة الرابعة، لمتطوّع في أحد فرق الإغاثة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ابتداء من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة ستة أيام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي من مجموعات مسلّحة محسوبة على الحكومة المؤقتة في دمشق، راح ضحيّته أكثر من ألف مدنيّ من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، من دون إعلان السلطات الرسميّة عن عدد القتلى. 

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”، هنا الشهادة الرابعة، لمتطوّع في أحد فرق الإغاثة.

راح الشيخ القادم مع المجموعة المسلّحة يتمشّى أمام صفّ من شباب القرية تمّ جمعهم من بيوتهم وجرّهم أسرى إلى الساحة. يتهادى أمامهم، يناظرهم، يتأمل في وجوههم ثم يدلّ على أحدهم كي يطلق عناصره النار عليه فيتكوّم في أرضه، كمن يلعب “حكرا بكرا”! ذاك الشيخ يومذاك وحده من كان يقرّر، كيفما اتفق، من عليه أن يُكمل الحياة ومن عليه أن يودّعها.

قابلني أحد الناجين من المجزرة بحكايته هذه، بعد وقت قليل من وصولنا إلى قرية الشلفاطية في ريف اللاذقية. يحمل قصاصة ورقية عليها بعض أسماء ضحايا الساحة: فادي وعلي أصلان، عفيف أصلان وولداه، قتيبة القدار، نبيل حسون، نبيل عثمان وحسن قيس محلا…

كنّا أنا وفريق الإغاثة الذي أعمل معه أول مجموعة تصل الى القرية بعد يومين فقط من المجزرة التي حصلت في 8 آذار/ مارس 2025. الدم لا يزال يملأ أرض ساحة القرية، شاهداً على حكاية الشاب الناجي. نحن مجموعة متعدّدة من سبعة متطوعين ومتطوعات من كل الطوائف، أنا من اللاذقية ورفيقي من كفرنبل، لجأ مع عائلته إلى اللاذقية بعد هجوم نظام الأسد على المدنيين فيها. قال لي: من عاش الظلم والقهر لا يمكنه أن يظلم غيره ويقهره، لذلك أنا معكم هنا.

رائحة الموت منتشرة، الهواء ثقيل بارد والصمت يعمّ المكان بعد العاصفة. جلّ المحال التجارية الغذائية والدوائية وغيرها في الشلفاطية محروقة، والتي لم تُحرق منهوبة عن بكرة أبيها. البيوت، السيارات والآليات الزراعية محروقة بالكامل على أطراف الشوارع وفي الأراضي الزراعية المحيطة.

أنزلنا السلل الغذائية وكراتين الأدوية التي أحضرناها معنا وسط الساحة. المكان قرية أشباح، على الرغم من محاولاتنا إيصال صوتنا للأهالي كي يأتوا ليأخذوا المعونات، وانتشار عدد من أطبائنا وطبيباتنا بين البيوت لمعاينة المرضى والجرحى، إلا أن الناس لم تجرؤ على الخروج من بيوتها إلينا، عند غالبيتهم قناعة بألا أحد يخرج من بيته إلا ويتعرّض للقتل. معظمهم لا يريدون التعامل مع أي غريب يأتي، حتى لو كان يريد مساعدتهم. 

الوضع مأساوي، القرية بدون أكل ولا دواء ولا مياه منذ أيام طويلة، لكن الخوف يومذاك في الشلفاطية كان أقوى بكثير من أية حاجة.

حملنا السلل الغذائية والأدوية ورحنا ندور بين البيوت وندقّ ع الأبواب. منهم من رفض أخذ المساعدة أو الحديث معنا، خوف يخرج من العيون ويجتاحنا. دخلت أحد زواريب الضيعة الضيّقة لأتفاجأ بمجموعة من الأطفال يلعبون بجانب أبواب بيوتهم. تجمدوا في مكانهم مرتعبين، طفلة منهم بدأت بكاءً هيستيرياً، وجهها بعينيه المفتوحتين ينضح برعب لا يمكن وصفه، هنا انتقل البكاء إلى المجموعة الباقية من الأطفال معها. اعتقدوا أننا أولئك الأغراب عائدون مجدداً لقتلهم، فالقتل كان عشوائياً هنا في القرية، دخلوا بيوتاً وقتلوا أهلها، ودخلوا بيوتاً نهبوها وحرقوها. جحافل همجية عاثت دماراً وقتلاً ونهباً!

آية، التي لم تتجاوز السادسة من عمرها، بكت بشكل هيستيريّة وهي في حضن أبيها، لم تشفع لي لا علبة العصير ولا البسكوتة التي أعطيتها لها ولا كلمات تحبّب حاولت أن أُطمئنها بها، في إيقاف بكائها. بيت أهل آية مثقّب بالرصاص، وعلى مدار ساعات ظلّ الأب يحتضن جسد ابنته ممدّدين على الأرض كي لا يصيبها الرصاص الطائش. يومذاك دخلت مجموعة من المسلحين البيت، كسّروا كل ما فيه من أثاث، سرقوا كل شيء، المال، الذهب، الهويات الشخصية وحتى سندات الملكية، لكن لم يقتلوهم. الأب متشنّج طيلة الوقت ولا مجال لتهدئته، رحت أقبّل رأسه عسى أن يهدأ على الأقل قبالة الأطفال… عبثاً. رفيقي من كفرنبل راح يبكي معه. قلت له لدينا لكم سلة غذائية، فصرخ في وجهي حانقاً: ما بدي سلل غذائية، بدي اطلع من هذا البلد. كيف ستنسى آية يوماً ما حصل؟!

المبادرة التي قمنا بها كانت أساساً بسبب غياب المبادرات، جمّعنا بعضنا نحن مجموعة من كل الطوائف لإغاثة أهالي الساحل المنكوب بعد المجازر التي استمرت منذ الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة أسبوع كامل. خرجنا بمرافقة الأمن العام وحمايته. قبل ذلك، حضرت جلسات الإعداد لمؤتمر الحوار الوطني الذي دعت إليه الحكومة الجديدة، التقيت مع الرئيس المؤقت أحمد الشرع حين أتى الى اللاذقية للقاء الناس. كان رأيي واضحاً: الكلام جميل لكنه مجرد وعود ونحن نريد أفعال. وكانت أفعالاً لم نكن لنتخيّلها.

على مشارف القرية في منطقة زراعية، ثمة بيتان متلاصقان لأخين من عائلة زمزم. كان على الأخ الناجي أن يراقب كل ما حدث من شباك بيته المطلّ على باحة بيت أخيه ابراهيم، أن يسمعه ويراه يُقتل بأم عينه، من دون قدرة على إخراج نأمة. آنذاك، دخل خمسة عناصر مسلحين الى باحة البيت، فأخرج الأخ صاحب البيت كراسي بلاستيك للمسلحين وكؤوساً عدة من الشاي، راحوا يتحدثون وقالوا له: نحن قادمون لنحميكم من الفلول ومن الإرهابيين، نحن كلنا شعب واحد… لا تخافوا! 

الله يحميكم ويقويكم. 

كانت آخر جملة ينطق بها، فقد التفت إليه أحد المسلحين وهم يغادرون الباحة وأطلق عليه رصاصات عدة أردته قتيلاً قبل أن يكملوا الدخول إلى القرية. بعد قليل وعلى مرمى بصره رآهم يرمون قنابل على بيتين، فاحترقا بشكل كامل. ثمة بيوت دخل المسلّحون إليها وأصحابها ليسوا فيها، لا مال ولا ذهب ليسرقوه فصاروا يفتحون جرار الغاز حتى ينتشر الغاز فيها ثم يخرجون ويرمون قنابل كي يحترق البيت كاملاً. في أحد تلك البيوت، عثرت على جزء من غرفة لم يطاولها الحريق، لا أحد يعرف ما هو مصير الأسرة، قُتلت أم هربت أم اختطفت. هناك في الزاوية وجدت مجموعة من الصور لأطفال البيت، دسستها في ثيابي وجلبتها معي، مجرّد فأل خير ألا يكونوا قد ماتوا، وأن يأتي يوم ألقاهم لأعيد لهم صورهم.

رفيقي من كفرنبل بقي واجماً كل الطريق، قطع الصمت بعد وقت ليقول لي: إلى متى ستظلّ عجلة القهر تدور داعسة هذا البلد وناسه؟

السؤال نفسه أعاده على مسامعي حين عدنا من زيارة قرية أخرى اسمها عين العروس في ريف اللاذقية.

ما حدث من مجازر في ريف اللاذقية في الأسبوع الدامي ذاك متشابه إلى حدّ كبير في معظم القرى، ناهيك بأن مساحات واسعة من الحراج والأراضي الزراعية والأشجار سوداء متفحّمة على جانبي الطريق. عند مفترق الطريق الذاهب باتجاه القرداحة، توجد سيارتان للأمن العام متفحّمتان بالكامل. فريقنا هذه المرة كذلك كان أول فريق إغاثي يصل القرية المنكوبة.

الطريق العام الواصل إلى مدينة القرداحة يقطع قرية عين العروس إلى ضفتين، والبيوت تتوزّع على طرفي الطريق. كل البيوت تلك تعرّضت للضرر، أكثر من 25 بيتاً تمّ حرقها بشكل كامل والبقية بشكل جزئي، عددتها بيتاً بيتاً. كل المحلات التجارية تم نهبها وثم حرقها. أساليب الحرق كانت غالباً ذاتها، يفتحون جرة الغاز ويتركونها قليلاً حتى يمتلئ المكان بالغاز ثم يرمون القنابل من الخارج ليحترق البيت بكامله أو الدكان.

سكان البيوت الواقعة إلى الداخل، بعيدة نسبياً من الطريق العام، استطاعوا بمعظمهم الهرب باتجاه مطار حميميم القريب، القاعدة العسكرية الروسية جنوب شرق اللاذقية. ثمة ناس هربت إلى الحقول والأراضي الزراعية، أما من لم يستطع مغادرة بيته أو كان قريباً من الطريق العام فقد تعرّض للضربة الأكبر. عائلة الجهني مثلاً كان فيها عاجزان قتلا في بيتهما، أما عائلة أصلان فقد صُفيت بشكل كامل، الرجل ووالدته وزوجته وابنته جوليا. اللافت للنظر أن البيوت التي سُرقت أصرّ المسلحون على سرقة أوراق الملكية منها وليس الذهب والمال فحسب.

ولأننا نعمل في الإغاثة، ولأن الحياة هي التي تهمّنا وليس الموت، فقد حاولنا أن نركّز جهودنا على الناس التي بقيت، لم نحاول معرفة عدد الضحايا ولا أسمائهم، لكن الموت كان مرافقاً لنا في كل لحظة، قوائم القتلى التي تُدفع في وجهنا، حكايات الموت، تفاصيل المجزرة وأخبارها، وعيون مفجوعة تلاحقنا في كل لحظة أمضيناها في القرية. إلى جانب المدرسة التي تتوسط القرية تقريباً، أنشأنا نقطة طبية مرتجلة، لكن الناجين من أهل القرية لم يجرؤوا على الخروج من بيوتهم أو حتى القدوم إلى النقطة الطبية وهم في أمس الحاجة إليها. هنا أيضاً صرنا ندور بين البيوت، نرجوهم أن يأتوا للفحص أو يأخذوا بعض الدواء، فهناك نقص شديد في الأدوية. 

نحن عزّل، عاملو إغاثة… ليس معنا لا عناصر أمن عام ولا مسلحين..

نؤكد لهم عبثاً، لكنْ هناك أهالٍ لا يبيتون حتى اللحظة في بيوتهم، وإن باتوا يبقون متيقّذين بحيث إذا سمعوا أي صوت غريب يركضون إلى الحقول.

ماذا علينا أن نفعل، هل نبقى في بيوتنا أم نهجّ من القرية؟

سألتني امرأة عجوز فجأة! الجميع مقتنع بأن ما حصل من مجازر يمكن أن يتكرّر في أية لحظة.

شكل القتل هنا في عين العروس كان مختلفاً. لا أحد يعرف لمَ كان أداء هذا الفصيل المسلّح مختلفاً هنا عن أداء بقية الفصائل في بقية القرى التي كانوا يقتلون الناس في بيوتها أو أمام بيوتها. هنا أخرجوا الناس من بيوتها إلى الحقول وصفّوها بالرصاص هناك. الأمر الذي جعل الناس في القرية يشهدون عدداً أقل من جرائم القتل أمام ناظرهم. لكن هناك مئات الضحايا الموثقين والكثير لا يعرفون أين هم، فالجثث ما زالت في الحقول ولا أحد يجرؤ على التجوال للبحث عنها. هناك إلى اليوم أعمال قنص ولا أحد يعرف من الذي يقوم بالقنص! لكن في كل الأحوال، ما حدث هنا في هذه القرية مشابه لما حدث في معظم القرى التي استهدفت، هجوم لوحوش همجية أتت كجحافل التتار لم تميّز بريئاً أو مدنياً، لم يسألوا عن سلاح أو عن مهنة من قتلوه، الجميع كانوا عرضة للقتل: شيوخ وأطفال ونساء عُزّل، ثمة عائلة من إدلب تعمل في الأراضي هناك قُتلت عن بكرة أبيها في الحقول.

والله نحن منعرف أنهم كانوا مظلومين بس ليش رجعوا ظلمونا؟ أنا بعرف أن المجروح أبيجرح!

مين هدول يا خالتي؟ اللي قتلوكم مجرمين وليسوا أهل البلد.

أجابها رفيقي من كفرنبل، وكانت امرأة مع أربعة أطفال، قتلوا زوجها لكن أمام بيته حين خرج ليسألهم عمّا يريدون. هزّت برأسها وصمتت. هذه المرأة حُرقت المكتبة التي تملكها قبالة المدرسة، وبقيت بلا معيل ولا مصدر رزق.

رفيقي ذاك قال لي وقتها: كأنها أمي حين اضطررنا للهرب من كفّرنبل بعد هجوم نظام الأسد علينا.

نعم السيناريو نفسه يتكرّر ويتكرّر، كما يتكرّر معه طغيان الخوف والقهر. لا أحد يعرف كيف ستُرمّم الأرواح كما البيوت، كيف سيعودون للعيش فيها؟ ما تحتاجه قرى الساحل ليس سيارات تحمل سللاً غذائية وبعض كراتين أدوية، الأمر أكبر من ذلك بكثير، وأكبر من قدرة مجموعة إغاثية على فعله، كما حصل للمنكوبين بعد الزلزال أو موجات اللاجئين، وحدها جهود دولية أو أممية قد تنجح في لملمة شروخ نفسية عميقة، ترميم البيوت كما البشر، لربما أُعيدت ثقة الناس ببلد قادم يخشونه. غابت الشمس علينا ونحن في القرية، فغرقنا في ظلام شديد، ذلك أن المنطقة منذ أيام طويلة بدون كهرباء ولا ماء، من لديه بئر ماء في الحقول راح يوزّع الماء على جيرانه. غرقنا في ظلام شديد يشبه ظلاماً لفّنا في دواخلنا، ورحت أعيد بداخلي ما قاله لي رفيقي من كفرنبل: إلى متى ستظلّ عجلة القهر تدور داعسة هذا البلد وناسه؟ 

يقال إن ثمة رحلات تغيّر حياة البشر، تفتح الأبواب على عوالم جديدة، لقد غيّرت تلك الرحلات حياتي بالفعل لكن فتحتها على كوابيس لا أعرف متى سأستيقظ منها!

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”، هنا الشهادة الرابعة، لمتطوّع في أحد فرق الإغاثة.

ابتداء من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة ستة أيام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي من مجموعات مسلّحة محسوبة على الحكومة المؤقتة في دمشق، راح ضحيّته أكثر من ألف مدنيّ من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، من دون إعلان السلطات الرسميّة عن عدد القتلى. 

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”، هنا الشهادة الرابعة، لمتطوّع في أحد فرق الإغاثة.

راح الشيخ القادم مع المجموعة المسلّحة يتمشّى أمام صفّ من شباب القرية تمّ جمعهم من بيوتهم وجرّهم أسرى إلى الساحة. يتهادى أمامهم، يناظرهم، يتأمل في وجوههم ثم يدلّ على أحدهم كي يطلق عناصره النار عليه فيتكوّم في أرضه، كمن يلعب “حكرا بكرا”! ذاك الشيخ يومذاك وحده من كان يقرّر، كيفما اتفق، من عليه أن يُكمل الحياة ومن عليه أن يودّعها.

قابلني أحد الناجين من المجزرة بحكايته هذه، بعد وقت قليل من وصولنا إلى قرية الشلفاطية في ريف اللاذقية. يحمل قصاصة ورقية عليها بعض أسماء ضحايا الساحة: فادي وعلي أصلان، عفيف أصلان وولداه، قتيبة القدار، نبيل حسون، نبيل عثمان وحسن قيس محلا…

كنّا أنا وفريق الإغاثة الذي أعمل معه أول مجموعة تصل الى القرية بعد يومين فقط من المجزرة التي حصلت في 8 آذار/ مارس 2025. الدم لا يزال يملأ أرض ساحة القرية، شاهداً على حكاية الشاب الناجي. نحن مجموعة متعدّدة من سبعة متطوعين ومتطوعات من كل الطوائف، أنا من اللاذقية ورفيقي من كفرنبل، لجأ مع عائلته إلى اللاذقية بعد هجوم نظام الأسد على المدنيين فيها. قال لي: من عاش الظلم والقهر لا يمكنه أن يظلم غيره ويقهره، لذلك أنا معكم هنا.

رائحة الموت منتشرة، الهواء ثقيل بارد والصمت يعمّ المكان بعد العاصفة. جلّ المحال التجارية الغذائية والدوائية وغيرها في الشلفاطية محروقة، والتي لم تُحرق منهوبة عن بكرة أبيها. البيوت، السيارات والآليات الزراعية محروقة بالكامل على أطراف الشوارع وفي الأراضي الزراعية المحيطة.

أنزلنا السلل الغذائية وكراتين الأدوية التي أحضرناها معنا وسط الساحة. المكان قرية أشباح، على الرغم من محاولاتنا إيصال صوتنا للأهالي كي يأتوا ليأخذوا المعونات، وانتشار عدد من أطبائنا وطبيباتنا بين البيوت لمعاينة المرضى والجرحى، إلا أن الناس لم تجرؤ على الخروج من بيوتها إلينا، عند غالبيتهم قناعة بألا أحد يخرج من بيته إلا ويتعرّض للقتل. معظمهم لا يريدون التعامل مع أي غريب يأتي، حتى لو كان يريد مساعدتهم. 

الوضع مأساوي، القرية بدون أكل ولا دواء ولا مياه منذ أيام طويلة، لكن الخوف يومذاك في الشلفاطية كان أقوى بكثير من أية حاجة.

حملنا السلل الغذائية والأدوية ورحنا ندور بين البيوت وندقّ ع الأبواب. منهم من رفض أخذ المساعدة أو الحديث معنا، خوف يخرج من العيون ويجتاحنا. دخلت أحد زواريب الضيعة الضيّقة لأتفاجأ بمجموعة من الأطفال يلعبون بجانب أبواب بيوتهم. تجمدوا في مكانهم مرتعبين، طفلة منهم بدأت بكاءً هيستيرياً، وجهها بعينيه المفتوحتين ينضح برعب لا يمكن وصفه، هنا انتقل البكاء إلى المجموعة الباقية من الأطفال معها. اعتقدوا أننا أولئك الأغراب عائدون مجدداً لقتلهم، فالقتل كان عشوائياً هنا في القرية، دخلوا بيوتاً وقتلوا أهلها، ودخلوا بيوتاً نهبوها وحرقوها. جحافل همجية عاثت دماراً وقتلاً ونهباً!

آية، التي لم تتجاوز السادسة من عمرها، بكت بشكل هيستيريّة وهي في حضن أبيها، لم تشفع لي لا علبة العصير ولا البسكوتة التي أعطيتها لها ولا كلمات تحبّب حاولت أن أُطمئنها بها، في إيقاف بكائها. بيت أهل آية مثقّب بالرصاص، وعلى مدار ساعات ظلّ الأب يحتضن جسد ابنته ممدّدين على الأرض كي لا يصيبها الرصاص الطائش. يومذاك دخلت مجموعة من المسلحين البيت، كسّروا كل ما فيه من أثاث، سرقوا كل شيء، المال، الذهب، الهويات الشخصية وحتى سندات الملكية، لكن لم يقتلوهم. الأب متشنّج طيلة الوقت ولا مجال لتهدئته، رحت أقبّل رأسه عسى أن يهدأ على الأقل قبالة الأطفال… عبثاً. رفيقي من كفرنبل راح يبكي معه. قلت له لدينا لكم سلة غذائية، فصرخ في وجهي حانقاً: ما بدي سلل غذائية، بدي اطلع من هذا البلد. كيف ستنسى آية يوماً ما حصل؟!

المبادرة التي قمنا بها كانت أساساً بسبب غياب المبادرات، جمّعنا بعضنا نحن مجموعة من كل الطوائف لإغاثة أهالي الساحل المنكوب بعد المجازر التي استمرت منذ الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة أسبوع كامل. خرجنا بمرافقة الأمن العام وحمايته. قبل ذلك، حضرت جلسات الإعداد لمؤتمر الحوار الوطني الذي دعت إليه الحكومة الجديدة، التقيت مع الرئيس المؤقت أحمد الشرع حين أتى الى اللاذقية للقاء الناس. كان رأيي واضحاً: الكلام جميل لكنه مجرد وعود ونحن نريد أفعال. وكانت أفعالاً لم نكن لنتخيّلها.

على مشارف القرية في منطقة زراعية، ثمة بيتان متلاصقان لأخين من عائلة زمزم. كان على الأخ الناجي أن يراقب كل ما حدث من شباك بيته المطلّ على باحة بيت أخيه ابراهيم، أن يسمعه ويراه يُقتل بأم عينه، من دون قدرة على إخراج نأمة. آنذاك، دخل خمسة عناصر مسلحين الى باحة البيت، فأخرج الأخ صاحب البيت كراسي بلاستيك للمسلحين وكؤوساً عدة من الشاي، راحوا يتحدثون وقالوا له: نحن قادمون لنحميكم من الفلول ومن الإرهابيين، نحن كلنا شعب واحد… لا تخافوا! 

الله يحميكم ويقويكم. 

كانت آخر جملة ينطق بها، فقد التفت إليه أحد المسلحين وهم يغادرون الباحة وأطلق عليه رصاصات عدة أردته قتيلاً قبل أن يكملوا الدخول إلى القرية. بعد قليل وعلى مرمى بصره رآهم يرمون قنابل على بيتين، فاحترقا بشكل كامل. ثمة بيوت دخل المسلّحون إليها وأصحابها ليسوا فيها، لا مال ولا ذهب ليسرقوه فصاروا يفتحون جرار الغاز حتى ينتشر الغاز فيها ثم يخرجون ويرمون قنابل كي يحترق البيت كاملاً. في أحد تلك البيوت، عثرت على جزء من غرفة لم يطاولها الحريق، لا أحد يعرف ما هو مصير الأسرة، قُتلت أم هربت أم اختطفت. هناك في الزاوية وجدت مجموعة من الصور لأطفال البيت، دسستها في ثيابي وجلبتها معي، مجرّد فأل خير ألا يكونوا قد ماتوا، وأن يأتي يوم ألقاهم لأعيد لهم صورهم.

رفيقي من كفرنبل بقي واجماً كل الطريق، قطع الصمت بعد وقت ليقول لي: إلى متى ستظلّ عجلة القهر تدور داعسة هذا البلد وناسه؟

السؤال نفسه أعاده على مسامعي حين عدنا من زيارة قرية أخرى اسمها عين العروس في ريف اللاذقية.

ما حدث من مجازر في ريف اللاذقية في الأسبوع الدامي ذاك متشابه إلى حدّ كبير في معظم القرى، ناهيك بأن مساحات واسعة من الحراج والأراضي الزراعية والأشجار سوداء متفحّمة على جانبي الطريق. عند مفترق الطريق الذاهب باتجاه القرداحة، توجد سيارتان للأمن العام متفحّمتان بالكامل. فريقنا هذه المرة كذلك كان أول فريق إغاثي يصل القرية المنكوبة.

الطريق العام الواصل إلى مدينة القرداحة يقطع قرية عين العروس إلى ضفتين، والبيوت تتوزّع على طرفي الطريق. كل البيوت تلك تعرّضت للضرر، أكثر من 25 بيتاً تمّ حرقها بشكل كامل والبقية بشكل جزئي، عددتها بيتاً بيتاً. كل المحلات التجارية تم نهبها وثم حرقها. أساليب الحرق كانت غالباً ذاتها، يفتحون جرة الغاز ويتركونها قليلاً حتى يمتلئ المكان بالغاز ثم يرمون القنابل من الخارج ليحترق البيت بكامله أو الدكان.

سكان البيوت الواقعة إلى الداخل، بعيدة نسبياً من الطريق العام، استطاعوا بمعظمهم الهرب باتجاه مطار حميميم القريب، القاعدة العسكرية الروسية جنوب شرق اللاذقية. ثمة ناس هربت إلى الحقول والأراضي الزراعية، أما من لم يستطع مغادرة بيته أو كان قريباً من الطريق العام فقد تعرّض للضربة الأكبر. عائلة الجهني مثلاً كان فيها عاجزان قتلا في بيتهما، أما عائلة أصلان فقد صُفيت بشكل كامل، الرجل ووالدته وزوجته وابنته جوليا. اللافت للنظر أن البيوت التي سُرقت أصرّ المسلحون على سرقة أوراق الملكية منها وليس الذهب والمال فحسب.

ولأننا نعمل في الإغاثة، ولأن الحياة هي التي تهمّنا وليس الموت، فقد حاولنا أن نركّز جهودنا على الناس التي بقيت، لم نحاول معرفة عدد الضحايا ولا أسمائهم، لكن الموت كان مرافقاً لنا في كل لحظة، قوائم القتلى التي تُدفع في وجهنا، حكايات الموت، تفاصيل المجزرة وأخبارها، وعيون مفجوعة تلاحقنا في كل لحظة أمضيناها في القرية. إلى جانب المدرسة التي تتوسط القرية تقريباً، أنشأنا نقطة طبية مرتجلة، لكن الناجين من أهل القرية لم يجرؤوا على الخروج من بيوتهم أو حتى القدوم إلى النقطة الطبية وهم في أمس الحاجة إليها. هنا أيضاً صرنا ندور بين البيوت، نرجوهم أن يأتوا للفحص أو يأخذوا بعض الدواء، فهناك نقص شديد في الأدوية. 

نحن عزّل، عاملو إغاثة… ليس معنا لا عناصر أمن عام ولا مسلحين..

نؤكد لهم عبثاً، لكنْ هناك أهالٍ لا يبيتون حتى اللحظة في بيوتهم، وإن باتوا يبقون متيقّذين بحيث إذا سمعوا أي صوت غريب يركضون إلى الحقول.

ماذا علينا أن نفعل، هل نبقى في بيوتنا أم نهجّ من القرية؟

سألتني امرأة عجوز فجأة! الجميع مقتنع بأن ما حصل من مجازر يمكن أن يتكرّر في أية لحظة.

شكل القتل هنا في عين العروس كان مختلفاً. لا أحد يعرف لمَ كان أداء هذا الفصيل المسلّح مختلفاً هنا عن أداء بقية الفصائل في بقية القرى التي كانوا يقتلون الناس في بيوتها أو أمام بيوتها. هنا أخرجوا الناس من بيوتها إلى الحقول وصفّوها بالرصاص هناك. الأمر الذي جعل الناس في القرية يشهدون عدداً أقل من جرائم القتل أمام ناظرهم. لكن هناك مئات الضحايا الموثقين والكثير لا يعرفون أين هم، فالجثث ما زالت في الحقول ولا أحد يجرؤ على التجوال للبحث عنها. هناك إلى اليوم أعمال قنص ولا أحد يعرف من الذي يقوم بالقنص! لكن في كل الأحوال، ما حدث هنا في هذه القرية مشابه لما حدث في معظم القرى التي استهدفت، هجوم لوحوش همجية أتت كجحافل التتار لم تميّز بريئاً أو مدنياً، لم يسألوا عن سلاح أو عن مهنة من قتلوه، الجميع كانوا عرضة للقتل: شيوخ وأطفال ونساء عُزّل، ثمة عائلة من إدلب تعمل في الأراضي هناك قُتلت عن بكرة أبيها في الحقول.

والله نحن منعرف أنهم كانوا مظلومين بس ليش رجعوا ظلمونا؟ أنا بعرف أن المجروح أبيجرح!

مين هدول يا خالتي؟ اللي قتلوكم مجرمين وليسوا أهل البلد.

أجابها رفيقي من كفرنبل، وكانت امرأة مع أربعة أطفال، قتلوا زوجها لكن أمام بيته حين خرج ليسألهم عمّا يريدون. هزّت برأسها وصمتت. هذه المرأة حُرقت المكتبة التي تملكها قبالة المدرسة، وبقيت بلا معيل ولا مصدر رزق.

رفيقي ذاك قال لي وقتها: كأنها أمي حين اضطررنا للهرب من كفّرنبل بعد هجوم نظام الأسد علينا.

نعم السيناريو نفسه يتكرّر ويتكرّر، كما يتكرّر معه طغيان الخوف والقهر. لا أحد يعرف كيف ستُرمّم الأرواح كما البيوت، كيف سيعودون للعيش فيها؟ ما تحتاجه قرى الساحل ليس سيارات تحمل سللاً غذائية وبعض كراتين أدوية، الأمر أكبر من ذلك بكثير، وأكبر من قدرة مجموعة إغاثية على فعله، كما حصل للمنكوبين بعد الزلزال أو موجات اللاجئين، وحدها جهود دولية أو أممية قد تنجح في لملمة شروخ نفسية عميقة، ترميم البيوت كما البشر، لربما أُعيدت ثقة الناس ببلد قادم يخشونه. غابت الشمس علينا ونحن في القرية، فغرقنا في ظلام شديد، ذلك أن المنطقة منذ أيام طويلة بدون كهرباء ولا ماء، من لديه بئر ماء في الحقول راح يوزّع الماء على جيرانه. غرقنا في ظلام شديد يشبه ظلاماً لفّنا في دواخلنا، ورحت أعيد بداخلي ما قاله لي رفيقي من كفرنبل: إلى متى ستظلّ عجلة القهر تدور داعسة هذا البلد وناسه؟ 

يقال إن ثمة رحلات تغيّر حياة البشر، تفتح الأبواب على عوالم جديدة، لقد غيّرت تلك الرحلات حياتي بالفعل لكن فتحتها على كوابيس لا أعرف متى سأستيقظ منها!

|

اشترك بنشرتنا البريدية