fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل (5): سأحذف كلّ الرسائل… أوصلي صوتنا إلى العالم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً، بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتُنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”، هنا الشهادة الخامسة، وهي مراسلات بين الكاتبة وصديقة من قرية قرفيص حرصت على حذف كلّ الرسائل خوفاً من تفتيش هاتفها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ابتداءً من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة ستة أيام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري، إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي من مجموعات مسلّحة محسوبة على الحكومة المؤقتة في دمشق، راح ضحيّته أكثر من ألف مدنيّ من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، حسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، من دون إعلان السلطات الرسميّة عن عدد القتلى. 

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً، بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتُنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”، هنا الشهادة الخامسة، وهي مراسلات بين الكاتبة وصديقة من قرية قرفيص حرصت على حذف كلّ الرسائل خوفاً من تفتيش هاتفها.

هذه عيّنة من مجموعة رسائل تبادلتها مع إحدى صديقاتي، وهي من قرية قرفيص في ريف جبلة/ اللاذقية المعروفة بمرجعيتها الدينية، بسبب وجود المقام الشهير للشيخ أحمد قرفيص. استمرّت الرسائل على مدار أيّام طويلة، بعد بدء المجازر في الساحل السوري، وحتى وقت قصير قبل كتابتي هذه الشهادة، رسائل حرصت تلك الصديقة على مسحها من جوّالها حال إرسالها لي، فالخوف المُسيطر على أهل مناطق الساحل لا يزال مُقيماً، ولا تزال البيوت تُداهَم لتفتيشها وتفتيش الهواتف المحمولة، من قبل فصائل تابعة للحكومة المؤقتة.

رسالة بتاريخ 18 آذار/ مارس 2025

“مرحبا…

أريد أن أحدّثك الكثير، الكلمات تخنقني كما تخنقني الصور، ربما استطعت أن أتنفّس قليلاً إذا كتبت لك ما حدث معنا في الأسبوعين الماضيين، وربما لا. بدأ كل شيء يوم الجمعة الأسود  7 آذار 2025، الساعة 3 ظهراً، فاتحة الحكاية وفاتحة الفجيعة. دخل رتل من مدرّعات وسياّرات تحمل دوشكا إلى القرية. قبل دخولهم كان هناك إطلاق نار كثيف، الرعب الذي خلقه صوت الرصاص لا أستطيع وصفه، لكن على الرغم من ذلك ظللنا في بيوتنا، لم نتخيّل للحظة أن ما حدث فيما بعد كان من الممكن حدوثه. صارت الأخبار تتوالى علينا: دخلوا أول بيت في الحارة على الطريق العامّ، فيه رجلان مسنّان، محسن العمر عمره 70 سنة ومتقاعد وسأرسل لك صورته، أما فؤاد العمر فلم أستطع الحصول على صورته، متقاعد أيضاً. لم يسألوهما إن كان لديهما أسلحة أو أي شيء آخر، سألوهم فقط: إنتو علوية؟ حين أجابوا بنعم، أطلقوا مباشرة رصاصة في رأس كل واحد منهم. جارهم شاب سمع الذي حدث فهرب من فوره ليخبر بقية الجيران ويخبرنا، قبل أن يتّجه إلى الأحراش، كان يلهث، ووجهه ينضح رعباً. 

البيت الثاني بعده بقليل، قتلوا فيه ثلاثة شبّان، دخلوا كل بيت في الحارة وهم يتّجهون إلينا، وصلوا بيت عائلة سليمان المؤلّف من طابقين، لم تهرب العائلة من البيت، كانوا يقولون لأنفسهم لسنا مذنبين ولم نحمل سلاحاً يوماً ولا شاركنا في شيء، فلن يحدث شيء، ربما فتّشوا البيت عن أسلحة ولن يجدوا شيئاً فيتركوننا بحالنا. أحاط البيت جمع من المسلّحين، منهم من يرتدي ثياباً عسكرية، ملثّمين وغير ملثّمين ومنهم من يرتدي ثياباً مدنية. أجبروا النساء على الصعود إلى الطابق الثاني مصاحبات بشتائم وإهانات: أنتو العلوية حرام تعيشوا.

أنزلوا صاحب البيت معهم أمام باب البيت، اسمه ياسر سليمان هو فلاح ومريض قلب، صارت زوجته تصرخ وتبكي وهي تحاول النزول إلى الأسفل لتدافع عنه، صرخوا عليها أن تدخل قبل أن يطلقوا النار على رأسه. تملّصت منهم ونزلت لتراهم يطلقون النار على ولديها، الأصغر أحمد، محامي عنده يا حرام رضيع عمره ثلاثة شهور، والثاني عمّار ممرض عمره ٣٥ سنة وعنده طفل عمره ٤ سنوات، عمّار أذكره كان لديه مشكلة في عينه اليسرى. تكوّموا ثلاثتهم بدمائهم، الأب والشابان. صوّرها القتلة وهي تندب عند جثثهم، كانوا يضحكون عليها ويقولون: إي إي مسّحيلهم. هل رأيت الفيديو؟! سأرسله لك، أما أنا فرأيت بأمّ عيني. الرجل نفسه رأيته في فيديو آخر وكان يقول: تطهير عرقي… تطهير عرقي… سأله رفيقه:

ليش عملت هيك؟

لأنهم علوية ما بيستحقّوا يعيشوا. 

ما كان منّا إلا أن هربنا إلى مقام الشيخ أحمد قرفيص، لا أعرف لِمَ اعتقدنا أننا سنكون بأمان هناك. لكنهم وصلوا هناك بعد فترة قصيرة مدجّجين بأسلحتهم وصراخهم، وقبل أن يغيب المقام عن عيني، ونحن نهرب إلى الأحراش القريبة، لمحتهم يلقون القبض على مجموعة شباب لم يستطيعوا الهرب معنا، صاروا يصرخون: نحن مدنية… والله نحن مدنية. لكنهم أطلقوا النار عليهم وقتلوهم أمام المقام. 

مشهد الجثث المتكوّمة أمام المقام، أصوات الرصاص والصراخ رافقتنا ونحن نركض في الأحراش.

وأنا أكتب لك الآن تخيّلي أني أسمع صوت الرصاص والدوشكا تحت الضيعة!

يا الله لازم روح صوت الرصاص اقترب كتير… ادعي لنا”.

رسالة بتاريخ 21 آذار/ مارس 2025

“مرحبا…

آسفة لأني قطعت رسائلي البارحة، كنّا خائفين جداً، وهربنا من جديد إلى الأحراش، قضينا الليلة في العراء واليوم صباحاً حتى رجعنا البيت. لا أشعر بالأمان أبداً، المسلّحون في كل مكان من الضيعة، والإنترنت لا يتوافر دائماً لذلك أريد أن أستغلّ الوقت لأكتب لك باقي الحكايات.

المهم لأكمل لك، في 7 آذار دخل المسلّحون المقام. كان هناك ناس داخل المقام أخرجوهم منه، ضربوهم، وأطلقوا الرصاص على أرجلهم. هل رأيت الفيديو الذي صوّروه؟ كانوا يصوّرون ما يفعلونه. لماذا برأيك يصوّرون ما يقترفونه؟! هناك شاب معاق عقلياً اسمه محمد نبيل قتلوه برصاصة في رأسه. ليش يا الله ليش؟

في بيت تحت المقام تماماً، يوجد فيه شاب جامعي يدرس في كلية الرياضة، وحيد لأهله عمره 21 سنة واسمه محمد سليمان، يا حرام أمه ركعت على الأرض تقبّل أقدام المسلّحين كي لا يقتلوه، كانت تصرخ وهي تترجّاهم: 

وحيدي والله وحيدي، والله ما عامل بعمره شي. 

لم يردّوا عليها، أخذوه معهم وعلى بعد عشرة أمتار وراء البيت قتلوه بطلقة في الرأس، لم تكتشف المسكينة جثّته إلا في اليوم التالي. أذكر وجهه الطفولي وعينيه العسليتين… مسكينة أمه، البارحة رأيتها وعرفت التفاصيل منها، تقطّع القلب… تشعرين وكأنها فقدت عقلها، تُعيد التفاصيل وتُعيد… جُنّت!

أخذوا كذلك شاباً اسمه محمد قداحة، أب لطفلين، صفّوه وتركوا جثمانه على الأرض، ومنعوا أهله من الاقتراب منه أو دفنه. نسيت أن أقول لك إن المسلّحين الذين أتوا القرية أغلبهم كانوا بدون لثام، عرفنا شخصاً منهم ظهر في فيديو مع مرتكبي مجزرة صنوبر جبلة، لا أعرف ما اسمه! 

انتهى أول يوم مع القتل والحرق، نسيت أن أقول لك كذلك إن الكثير من البيوت تمّ حرقها بعد نهبها كاملاً، رائحة الحرائق والدخان كانت تخنقنا كما رائحة الموت. قتلوا أيضاً سامي عبد الرحمن وهو شرطي، أعادوه قبل أسبوعين من مقتله إلى عمله بعد فصله منه، عمره 40 سنة وعنده ولدان، وأخوه بشار عبد الرحمن وهو مدرّس في المدرسة الابتدائية في القرية، وآصف عبد الرحمن فلاح وعمره 34 سنة. الثلاثة قتلوا في ساحة القرية بطلقات في الرأس، ومعهم حيدر عون الطالب الجامعي ذو 23 عاماً الذي ثقبت جسده عدّة طلقات. ماذا أذكر لك لأذكر، من كثرة قصص القتلى أنساها. أشعر بأني أنا أيضاً بدأت أُجنّ.

سأكمل غداً بتسجيل صوتي بعد إذنك، وسأمحو كل الرسائل من عندي كما اتفقنا… 

تصبحي على خير”.

رسالة بتاريخ 26 آذار/ مارس 2025

“مسا الخير…

آسفة لأني تأخّرت عليك، وأعرف أنك قلقت عليّ، لكن الإنترنت كان مقطوعاً عن كلّ المنطقة، وأعتقد عن كلّ سوريا، هذا ما سمعته، وحينما عاد كان ضعيفاً جداً. أريد أن أُكمل لك عن تفاصيل المجزرة قبل أن ينقطع الإنترنت من جديد.

في اليوم الثاني 8 آذار كان هناك فصيل عسكري متمركز قرب نهر السن القريب، فيه عناصر من الأجانب شيشان وإيغور ربما، والله لا أعرف، لكنّي رأيتهم في الحارة وشاركوا في القتل. كيف عرفت؟ أشكالهم الآسيوية ولغتهم العربية المكسّرة.

قتلوا الكثير من شباب القرية، منهم طلاب جامعات، مثل حبيب دوبا، سأرسل لك صورته، وابن عمه زين طالب. حدّثي ولا حرج عن سرقة عشرات السيارات والبيوت، لم يتركوا شيئاً في البيوت، حتى البطاريّات والألواح والأشرطة في مركز البريد ومركز الاتّصالات، تخيّلي حرقوا حتى الأشرطة حتى يأخذوا أسلاك النحاس منها! المدرسة نُهبت، سرقوا الحواسيب والأدوات المخبرية وأخرجوا صور البنات من الأضابير وتركوها على الطاولة. لا أعرف ما الذي قصدوه بهذه الحركة؟ شكل المدرسة يشبه كل شيء في ضيعتنا: مستباح مدمّر ومحزن! تعرفين، ليس هناك لا دوام مدرسي ولا تعليم من يومها، الأولاد لا يذهبون إلى المدارس. هه، أعرف أنه من نافل القول، نحن لا نجرؤ على الخروج من البيوت كي نرسل أولادنا إلى المدارس!

سأحاول أن أرسل لك صوراً إن أمكنني، وها أنا أرسل لك صورة المقبرة الجماعية، طبعاً لم يسمحوا لنا أن نصوّرها أو نذهب لزيارة موتانا هناك أو حتى أن ندفنهم، جلبوا شيخاً ودكتوراً معهم ودفنوهم، سأحاول أن أرسل لك القائمة بالأسماء. لكن استطاع أحدهم، ولن أقول لك اسمه، أن يصوّر المقبرة سراً بعد خمسة أيام. آه، للأسف نسيت أني حذفتها، أخاف أن أحتفظ بأي صور أو فيديوهات على جوّالي لئلا يفتشوه. لكن المقبرة الجماعية ستبقى موجودة وشاهدة! حسبنا الله ونعم الوكيل.

نسيت أن أقول لك، قتلوا حسين سليمان وهو فلاح عمره 40 سنة، وحسين صالح عمره 75 سنة، وحالياً هناك فصيل مسلّح ما زال عندنا، يقولون إن اسمه فصيل العثمان… الإنترنت بدأ يضعف، أريد أن أقول لك آخر شيء بسرعة، كل ما يهمّنا اليوم يا عزيزتي هو الأمن والأمان لأولادنا، نريد أن نتعلّم ونعلّم أولادنا، ونعيش بسلام بلا قتل.. 

أرجوك أوصلي هذا للعالم.

تصبحي على ألف خير… رح إحذف الرسائل أكيد”.

رسالة بتاريخ 9 نيسان/ أبريل 2025

“مسا الخير

آسفة لأنه مرّ وقت طويل ولم أردّ على رسائلك، والله أنا مريضة جداً، كل ما حدث يجعلني أشعر برغبة في الموت، لم يعد لدي رغبة في الحياة، فقدت إيماني بقيمة أي شيء، حتى أولادي هل سينسون ما رأوه وسمعوه يوماً؟! لكني أعود وأفكّر أنه ينبغي لي أن أكون ممتنّة لأنهم لم يُقتلوا، في مناطق أخرى قتلوا الأطفال والنساء. لا أعرف إن كان يمكنني أن أصف شعوري، نحن لسنا فلول يا صديقتي، نحن شعب مثقّف وواعي ولدينا ثقافة وعلم وحضارة، يبدو لي أن كل ما يحدث يحاول أن يضعنا في خانة القتلة الهمج، نحن لم نقتل ولم نذبح ولم نمثّل بالجثث، وإن كان هناك قتلة ومجرمون علويون فهذا ليس ذنبنا… إننا ندفع فاتورة غالية على جرم لم نرتكبه! هناك مجرمون دوماً من كل الطوائف والأديان، لا يعني أن نحاكم الكل بسبب أفعالهم. أنا حزينة كتير، محطّمة، والسواد يعمّ حولي. حينما كنت أسمع أغنية: في حزن وسع المدى، لم أكن أحسّ بهذا الوجع كله، ربما كان هناك أمهات من مناطق ثانية يشعرن تماماً بهذا الوجع، لكن لم يكن ذنبي، حالياً هناك حولنا بالفعل حزن وسع المدى، خايفة على أولادي، خايفة على مستقبلهم وعلى مستقبلنا. ما زلنا نخاف أن نخرج من بيوتنا، الطرقات غير آمنة، لكن حتى البيوت غير آمنة، أين نذهب؟ نحن ضائعون. 

الآن في الضيعة هناك ثلاثة فصائل، لذلك فكّرت أن تؤجّلي نشر ما أرسلته لك عن مجزرة الضيعة إلى أن يرحلوا عنها. الخوف يزداد كل لحظة من أية أفعال انتقامية أخرى، وأنا خايفة على الناس وعلى أولادي وعلى حالي.

أرجوك أن تؤجّلي نشر شهادتي لفترة ريثما يهدأ الوضع… وآسفة كتير”.

انقطعت الرسالة…

رنا الصبّاغ- كاتبة وصحافية أردنية | 23.05.2025

الرقص على أوجاع الغزّيين !…عندما تعطّل واشنطن وتل أبيب ديناميات الأمم المتّحدة 

أثناء كتابة هذا المقال، بدأت كوادر في الشركات الجديدة ومتعهّدون أمنيون ومرتزقة، بالوصول مع معدّاتهم إلى إسرائيل، استعداداً لدخول غزّة، وتطبيق الخطّة الإشكالية البديلة عن المسار الأممي.

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً، بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتُنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”، هنا الشهادة الخامسة، وهي مراسلات بين الكاتبة وصديقة من قرية قرفيص حرصت على حذف كلّ الرسائل خوفاً من تفتيش هاتفها.

ابتداءً من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة ستة أيام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري، إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي من مجموعات مسلّحة محسوبة على الحكومة المؤقتة في دمشق، راح ضحيّته أكثر من ألف مدنيّ من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، حسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، من دون إعلان السلطات الرسميّة عن عدد القتلى. 

“درج” ينشر شهادات ناجيات وناجين من المجزرة تباعاً، بحسب ما وثّقتها ودوّنتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، وتُنشر الشهادات بالإنكليزيّة بالتزامن على موقع “حكاية ما انحكت”، هنا الشهادة الخامسة، وهي مراسلات بين الكاتبة وصديقة من قرية قرفيص حرصت على حذف كلّ الرسائل خوفاً من تفتيش هاتفها.

هذه عيّنة من مجموعة رسائل تبادلتها مع إحدى صديقاتي، وهي من قرية قرفيص في ريف جبلة/ اللاذقية المعروفة بمرجعيتها الدينية، بسبب وجود المقام الشهير للشيخ أحمد قرفيص. استمرّت الرسائل على مدار أيّام طويلة، بعد بدء المجازر في الساحل السوري، وحتى وقت قصير قبل كتابتي هذه الشهادة، رسائل حرصت تلك الصديقة على مسحها من جوّالها حال إرسالها لي، فالخوف المُسيطر على أهل مناطق الساحل لا يزال مُقيماً، ولا تزال البيوت تُداهَم لتفتيشها وتفتيش الهواتف المحمولة، من قبل فصائل تابعة للحكومة المؤقتة.

رسالة بتاريخ 18 آذار/ مارس 2025

“مرحبا…

أريد أن أحدّثك الكثير، الكلمات تخنقني كما تخنقني الصور، ربما استطعت أن أتنفّس قليلاً إذا كتبت لك ما حدث معنا في الأسبوعين الماضيين، وربما لا. بدأ كل شيء يوم الجمعة الأسود  7 آذار 2025، الساعة 3 ظهراً، فاتحة الحكاية وفاتحة الفجيعة. دخل رتل من مدرّعات وسياّرات تحمل دوشكا إلى القرية. قبل دخولهم كان هناك إطلاق نار كثيف، الرعب الذي خلقه صوت الرصاص لا أستطيع وصفه، لكن على الرغم من ذلك ظللنا في بيوتنا، لم نتخيّل للحظة أن ما حدث فيما بعد كان من الممكن حدوثه. صارت الأخبار تتوالى علينا: دخلوا أول بيت في الحارة على الطريق العامّ، فيه رجلان مسنّان، محسن العمر عمره 70 سنة ومتقاعد وسأرسل لك صورته، أما فؤاد العمر فلم أستطع الحصول على صورته، متقاعد أيضاً. لم يسألوهما إن كان لديهما أسلحة أو أي شيء آخر، سألوهم فقط: إنتو علوية؟ حين أجابوا بنعم، أطلقوا مباشرة رصاصة في رأس كل واحد منهم. جارهم شاب سمع الذي حدث فهرب من فوره ليخبر بقية الجيران ويخبرنا، قبل أن يتّجه إلى الأحراش، كان يلهث، ووجهه ينضح رعباً. 

البيت الثاني بعده بقليل، قتلوا فيه ثلاثة شبّان، دخلوا كل بيت في الحارة وهم يتّجهون إلينا، وصلوا بيت عائلة سليمان المؤلّف من طابقين، لم تهرب العائلة من البيت، كانوا يقولون لأنفسهم لسنا مذنبين ولم نحمل سلاحاً يوماً ولا شاركنا في شيء، فلن يحدث شيء، ربما فتّشوا البيت عن أسلحة ولن يجدوا شيئاً فيتركوننا بحالنا. أحاط البيت جمع من المسلّحين، منهم من يرتدي ثياباً عسكرية، ملثّمين وغير ملثّمين ومنهم من يرتدي ثياباً مدنية. أجبروا النساء على الصعود إلى الطابق الثاني مصاحبات بشتائم وإهانات: أنتو العلوية حرام تعيشوا.

أنزلوا صاحب البيت معهم أمام باب البيت، اسمه ياسر سليمان هو فلاح ومريض قلب، صارت زوجته تصرخ وتبكي وهي تحاول النزول إلى الأسفل لتدافع عنه، صرخوا عليها أن تدخل قبل أن يطلقوا النار على رأسه. تملّصت منهم ونزلت لتراهم يطلقون النار على ولديها، الأصغر أحمد، محامي عنده يا حرام رضيع عمره ثلاثة شهور، والثاني عمّار ممرض عمره ٣٥ سنة وعنده طفل عمره ٤ سنوات، عمّار أذكره كان لديه مشكلة في عينه اليسرى. تكوّموا ثلاثتهم بدمائهم، الأب والشابان. صوّرها القتلة وهي تندب عند جثثهم، كانوا يضحكون عليها ويقولون: إي إي مسّحيلهم. هل رأيت الفيديو؟! سأرسله لك، أما أنا فرأيت بأمّ عيني. الرجل نفسه رأيته في فيديو آخر وكان يقول: تطهير عرقي… تطهير عرقي… سأله رفيقه:

ليش عملت هيك؟

لأنهم علوية ما بيستحقّوا يعيشوا. 

ما كان منّا إلا أن هربنا إلى مقام الشيخ أحمد قرفيص، لا أعرف لِمَ اعتقدنا أننا سنكون بأمان هناك. لكنهم وصلوا هناك بعد فترة قصيرة مدجّجين بأسلحتهم وصراخهم، وقبل أن يغيب المقام عن عيني، ونحن نهرب إلى الأحراش القريبة، لمحتهم يلقون القبض على مجموعة شباب لم يستطيعوا الهرب معنا، صاروا يصرخون: نحن مدنية… والله نحن مدنية. لكنهم أطلقوا النار عليهم وقتلوهم أمام المقام. 

مشهد الجثث المتكوّمة أمام المقام، أصوات الرصاص والصراخ رافقتنا ونحن نركض في الأحراش.

وأنا أكتب لك الآن تخيّلي أني أسمع صوت الرصاص والدوشكا تحت الضيعة!

يا الله لازم روح صوت الرصاص اقترب كتير… ادعي لنا”.

رسالة بتاريخ 21 آذار/ مارس 2025

“مرحبا…

آسفة لأني قطعت رسائلي البارحة، كنّا خائفين جداً، وهربنا من جديد إلى الأحراش، قضينا الليلة في العراء واليوم صباحاً حتى رجعنا البيت. لا أشعر بالأمان أبداً، المسلّحون في كل مكان من الضيعة، والإنترنت لا يتوافر دائماً لذلك أريد أن أستغلّ الوقت لأكتب لك باقي الحكايات.

المهم لأكمل لك، في 7 آذار دخل المسلّحون المقام. كان هناك ناس داخل المقام أخرجوهم منه، ضربوهم، وأطلقوا الرصاص على أرجلهم. هل رأيت الفيديو الذي صوّروه؟ كانوا يصوّرون ما يفعلونه. لماذا برأيك يصوّرون ما يقترفونه؟! هناك شاب معاق عقلياً اسمه محمد نبيل قتلوه برصاصة في رأسه. ليش يا الله ليش؟

في بيت تحت المقام تماماً، يوجد فيه شاب جامعي يدرس في كلية الرياضة، وحيد لأهله عمره 21 سنة واسمه محمد سليمان، يا حرام أمه ركعت على الأرض تقبّل أقدام المسلّحين كي لا يقتلوه، كانت تصرخ وهي تترجّاهم: 

وحيدي والله وحيدي، والله ما عامل بعمره شي. 

لم يردّوا عليها، أخذوه معهم وعلى بعد عشرة أمتار وراء البيت قتلوه بطلقة في الرأس، لم تكتشف المسكينة جثّته إلا في اليوم التالي. أذكر وجهه الطفولي وعينيه العسليتين… مسكينة أمه، البارحة رأيتها وعرفت التفاصيل منها، تقطّع القلب… تشعرين وكأنها فقدت عقلها، تُعيد التفاصيل وتُعيد… جُنّت!

أخذوا كذلك شاباً اسمه محمد قداحة، أب لطفلين، صفّوه وتركوا جثمانه على الأرض، ومنعوا أهله من الاقتراب منه أو دفنه. نسيت أن أقول لك إن المسلّحين الذين أتوا القرية أغلبهم كانوا بدون لثام، عرفنا شخصاً منهم ظهر في فيديو مع مرتكبي مجزرة صنوبر جبلة، لا أعرف ما اسمه! 

انتهى أول يوم مع القتل والحرق، نسيت أن أقول لك كذلك إن الكثير من البيوت تمّ حرقها بعد نهبها كاملاً، رائحة الحرائق والدخان كانت تخنقنا كما رائحة الموت. قتلوا أيضاً سامي عبد الرحمن وهو شرطي، أعادوه قبل أسبوعين من مقتله إلى عمله بعد فصله منه، عمره 40 سنة وعنده ولدان، وأخوه بشار عبد الرحمن وهو مدرّس في المدرسة الابتدائية في القرية، وآصف عبد الرحمن فلاح وعمره 34 سنة. الثلاثة قتلوا في ساحة القرية بطلقات في الرأس، ومعهم حيدر عون الطالب الجامعي ذو 23 عاماً الذي ثقبت جسده عدّة طلقات. ماذا أذكر لك لأذكر، من كثرة قصص القتلى أنساها. أشعر بأني أنا أيضاً بدأت أُجنّ.

سأكمل غداً بتسجيل صوتي بعد إذنك، وسأمحو كل الرسائل من عندي كما اتفقنا… 

تصبحي على خير”.

رسالة بتاريخ 26 آذار/ مارس 2025

“مسا الخير…

آسفة لأني تأخّرت عليك، وأعرف أنك قلقت عليّ، لكن الإنترنت كان مقطوعاً عن كلّ المنطقة، وأعتقد عن كلّ سوريا، هذا ما سمعته، وحينما عاد كان ضعيفاً جداً. أريد أن أُكمل لك عن تفاصيل المجزرة قبل أن ينقطع الإنترنت من جديد.

في اليوم الثاني 8 آذار كان هناك فصيل عسكري متمركز قرب نهر السن القريب، فيه عناصر من الأجانب شيشان وإيغور ربما، والله لا أعرف، لكنّي رأيتهم في الحارة وشاركوا في القتل. كيف عرفت؟ أشكالهم الآسيوية ولغتهم العربية المكسّرة.

قتلوا الكثير من شباب القرية، منهم طلاب جامعات، مثل حبيب دوبا، سأرسل لك صورته، وابن عمه زين طالب. حدّثي ولا حرج عن سرقة عشرات السيارات والبيوت، لم يتركوا شيئاً في البيوت، حتى البطاريّات والألواح والأشرطة في مركز البريد ومركز الاتّصالات، تخيّلي حرقوا حتى الأشرطة حتى يأخذوا أسلاك النحاس منها! المدرسة نُهبت، سرقوا الحواسيب والأدوات المخبرية وأخرجوا صور البنات من الأضابير وتركوها على الطاولة. لا أعرف ما الذي قصدوه بهذه الحركة؟ شكل المدرسة يشبه كل شيء في ضيعتنا: مستباح مدمّر ومحزن! تعرفين، ليس هناك لا دوام مدرسي ولا تعليم من يومها، الأولاد لا يذهبون إلى المدارس. هه، أعرف أنه من نافل القول، نحن لا نجرؤ على الخروج من البيوت كي نرسل أولادنا إلى المدارس!

سأحاول أن أرسل لك صوراً إن أمكنني، وها أنا أرسل لك صورة المقبرة الجماعية، طبعاً لم يسمحوا لنا أن نصوّرها أو نذهب لزيارة موتانا هناك أو حتى أن ندفنهم، جلبوا شيخاً ودكتوراً معهم ودفنوهم، سأحاول أن أرسل لك القائمة بالأسماء. لكن استطاع أحدهم، ولن أقول لك اسمه، أن يصوّر المقبرة سراً بعد خمسة أيام. آه، للأسف نسيت أني حذفتها، أخاف أن أحتفظ بأي صور أو فيديوهات على جوّالي لئلا يفتشوه. لكن المقبرة الجماعية ستبقى موجودة وشاهدة! حسبنا الله ونعم الوكيل.

نسيت أن أقول لك، قتلوا حسين سليمان وهو فلاح عمره 40 سنة، وحسين صالح عمره 75 سنة، وحالياً هناك فصيل مسلّح ما زال عندنا، يقولون إن اسمه فصيل العثمان… الإنترنت بدأ يضعف، أريد أن أقول لك آخر شيء بسرعة، كل ما يهمّنا اليوم يا عزيزتي هو الأمن والأمان لأولادنا، نريد أن نتعلّم ونعلّم أولادنا، ونعيش بسلام بلا قتل.. 

أرجوك أوصلي هذا للعالم.

تصبحي على ألف خير… رح إحذف الرسائل أكيد”.

رسالة بتاريخ 9 نيسان/ أبريل 2025

“مسا الخير

آسفة لأنه مرّ وقت طويل ولم أردّ على رسائلك، والله أنا مريضة جداً، كل ما حدث يجعلني أشعر برغبة في الموت، لم يعد لدي رغبة في الحياة، فقدت إيماني بقيمة أي شيء، حتى أولادي هل سينسون ما رأوه وسمعوه يوماً؟! لكني أعود وأفكّر أنه ينبغي لي أن أكون ممتنّة لأنهم لم يُقتلوا، في مناطق أخرى قتلوا الأطفال والنساء. لا أعرف إن كان يمكنني أن أصف شعوري، نحن لسنا فلول يا صديقتي، نحن شعب مثقّف وواعي ولدينا ثقافة وعلم وحضارة، يبدو لي أن كل ما يحدث يحاول أن يضعنا في خانة القتلة الهمج، نحن لم نقتل ولم نذبح ولم نمثّل بالجثث، وإن كان هناك قتلة ومجرمون علويون فهذا ليس ذنبنا… إننا ندفع فاتورة غالية على جرم لم نرتكبه! هناك مجرمون دوماً من كل الطوائف والأديان، لا يعني أن نحاكم الكل بسبب أفعالهم. أنا حزينة كتير، محطّمة، والسواد يعمّ حولي. حينما كنت أسمع أغنية: في حزن وسع المدى، لم أكن أحسّ بهذا الوجع كله، ربما كان هناك أمهات من مناطق ثانية يشعرن تماماً بهذا الوجع، لكن لم يكن ذنبي، حالياً هناك حولنا بالفعل حزن وسع المدى، خايفة على أولادي، خايفة على مستقبلهم وعلى مستقبلنا. ما زلنا نخاف أن نخرج من بيوتنا، الطرقات غير آمنة، لكن حتى البيوت غير آمنة، أين نذهب؟ نحن ضائعون. 

الآن في الضيعة هناك ثلاثة فصائل، لذلك فكّرت أن تؤجّلي نشر ما أرسلته لك عن مجزرة الضيعة إلى أن يرحلوا عنها. الخوف يزداد كل لحظة من أية أفعال انتقامية أخرى، وأنا خايفة على الناس وعلى أولادي وعلى حالي.

أرجوك أن تؤجّلي نشر شهادتي لفترة ريثما يهدأ الوضع… وآسفة كتير”.

انقطعت الرسالة…

|
آخر القصص
وثائق إيلي كوهين تعود إلى تل أبيب: حفظ الحقيقة أم تكريس للسلطة الاستعمارية؟
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 23.05.2025
شهر على جيرة البحيرة
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 23.05.2025

اشترك بنشرتنا البريدية