تعرف السوريون إلى رياض سيف عبر وجوه إيجابية كثيرة، فهو الصناعي المتميز، بنوعية إنتاجه، وبطبيعة علاقته مع العاملين في مصنعه، وهو البرلماني العنيد، والمخلص لشعبه، الذي خاض معارك كبيرة مع حيتان السلطة (لا سيما فرعها الاقتصادي)، وهو المعارض السياسي أو المناضل الذي لا يلين من أجل الديموقراطية، برغم الأثمان الباهظة، وضمنها تجفيف ثروته أو مصادرتها، واعتقاله مرات عدة (بلغ مجموعها 8 سنوات)، وحياة ابنه إياد (1996).
المهم أن سيف استطاع بفضل تلك الوجوه أن يضع بصمته في تاريخ سوريا، وأن يفرض تحديه على النظام، وأن يصنع حكايته، أو أسطورته الخاصة، التي ظل وفياً لها برغم الأثمان التي تكبدها، كشخص- فرد، أي من دون ارتباط بأي حزب أو تيار سياسي في سوريا؛ ولعل تلك أهم ميزة له، مثله في ذلك ميشيل كيلو، مع فارق أن الراحل لم يأت من مجال الصناعة، والعمل البرلماني، إنما أتى من باب الثقافة والمعارضة السياسية. وعلماً أننا نتحدث عن بلد يعد تحدي السلطة فيه بمثابة عمل فدائي، أو انتحاري، في ظل نظام يحكم بالعسكر والأجهزة الأمنية، ويحتكر السياسة والمجال العام، ويحرمها على الآخرين، وفي نظام يعتبر سوريا مجرد مزرعة عائلية، لا حقوق لمواطنيها ولا مكانة.
في النصف الثاني من التسعينات بات اسم رياض سيف على ألسنة قطاع واسع من السوريين، كرجل أعمال يعتد بمنشأته الصناعية، ليس لأنه وكيل شركة أديداس الألمانية/العالمية المرموقة وحسب، ولا لتميز منشأته بوسائل الحماية والراحة للعاملين (حتى مع وجود حضانة وروضة أطفال فيها)، بل ولما يتمتع به العمال من ميزات في راتب يؤمن الكفاية، إلى ضمان صحي ومساعدات اجتماعية. بيد أن تلك المنشأة التي ولّدت صورة إيجابية عن الرجل، ولّدت مقابلها صورة قلقة عنه في أوساط السلطة (صاحبة التأميم وادعاءات الاشتراكية) وفي أوساط جناحها الاقتصادي الطفيلي، الذي يعيش على الفساد والإفساد.
أيضاً، برز اسم رياض سيف في مجال آخر كبرلماني (من كونه عضواً في مجلس الشعب إذ انتخب كمستقلٍ عن دمشق في دورتين عام 1994، وعام 1998). بيد أن هذا الرجل بدا عصياً على التطويع، وكمن يغرد خارج السرب، كمعترض على السياسات الاقتصادية التي ينتهجها النظام، والتي تؤدي عملياً إلى الإضرار بالاقتصاد، وبالقطاع الصناعي، وبمصالح الناس، بخاصة أنه يتحدث عن شيء يعرفه، مع اجتهاده في تقديم المعطيات والإحصاءات التي تدعم كلامه.
هكذا، وفي هذا المجال، أصدر سيف في ولايته النيابية الأولى دراسةً مهمة حول الاقتصاد السوري، فضح فيها الفساد المستشري في القطاعات الاقتصادية، وفي عمل الحكومة، وطالب بالإصلاح السياسي والاقتصادي والقضائي ما يؤمن مناخاً مناسباً لاستقطاب رؤوس أموال ومستثمرين. وفي ولايته الثانية، حيث زمن الخليوي، خاض سيف صراعاً عنيداً وقوياً ليبين خسائر سوريا من جراء منح التراخيص للشركات، التي يقف وراءها رامي مخلوف، ابن خال الرئيس، بحيث تم وضعه في دائرة الاستهداف، ما أدى إلى إجراءات أدت إلى إفلاسه.
المجال الآخر الذي برز فيه (والذي شهدت شخصياً بعض جولاته) كان في “ندوة الثلاثاء الاقتصادية”، وهي ندوة أسبوعية كانت تنظمها “جمعية العلوم الاقتصادية” في سوريا، في المركز الثقافي في المزة (دمشق)، وبلغت في أهميتها بحيث كان المئات يحتشدون لحضورها، ومتابعة نقاشاتها، بل إن بشار الأسد ذاته كان يحضرها (قبل أن يصبح رئيساً)، وهو شهد، مثل كثر من الحاضرين، أن ثمة نجمين كبيرين في تلك الندوة، الأول، هو الصناعي أو رجل الأعمال رياض سيف، والثاني هو الاقتصادي الأكاديمي عارف دليلة، وقد برزا كمجادلين وكمعترضين على السياسات الاقتصادية التي ينتهجها النظام في سوريا، والتي تضر القطاعات الإنتاجية، وتضر بمستوى عيش المواطنين، وكانت أراؤهما الاعتراضية والشجاعة مدعمة بالأرقام والإحصاءات والمعطيات والمقارنات مع الدول الأخرى، مع طرح تصورات بديلة. طبعاً ثمة آخرون كانوا يتحدثون عن هذا الجانب أو ذاك، لكن الإنصاف يقتضي القول بأن سيف ودليلة كانا أكثر اثنين ذهبا إلى النهاية، وبكل شجاعة، في طرح أرائهما، لا سيما ضد الفساد، وتخلف الإدارة، وصفقة الخليوي الشهيرة، وهو الأمر الذي دفعا ثمنه باهظاً في السجن لسنوات.
إقرأوا أيضاً:
بعد ذلك، أي بعدما خرج سيف من الحياة البرلمانية، ومن السجن، اتجه للعمل السياسي العام، وهو الذي بدأ يركز على التحريض على إنهاء احتكار “حزب البعث” للسلطة، وقد اضطلع بدور كبير في حراكات “ربيع دمشق”، بعد رحيل الأسد الأب، ومجيء الأسد الابن، فكان مشاركاً في تشكيل لجان المجتمع المدني، وفي تأسيس منتدى الحوار الوطني، الذي استضاف أنشطته في بيته، وفي التوقيع على إعلان دمشق (برغم أنه كان في السجن)، كما عاش المناخات والحراكات التي أدت إلى التوقيع على بيان الـ99 والـ1000، وإعلان سوريا لبنان. أيضاً، وفي أواخر عام 2007 أنشئ في سوريا «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي» وكان سيف من أهم مؤسسيه، وقد انتخب رئيساً للهيئة القيادية للإعلان، ما عرضه للاعتقال للمرة الثانية، وبعد خروجه من السجن قدم استقالته منه بسبب أوضاعه الصحية الصعبة.
ومثل غيره، فإن سيف بنتيجة سيرته تلك، المعجونة بالتحدي، وبالجرأة السياسية، وهو الأمر الذي لم يعتده النظام، لا سيما من رجل أعمال، فقد تعرض للاعتقال مرات عدة، في المرة الأولى لخمس سنوات (2001 ـ أوائل كانون الثاني/ يناير 2006)، وفي المرة الثانية لسنتين ونصف السنة (2008 ـ 2010) بدعوى نقله “أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة”؛ والمرة الثالثة لأشهر عام 2011 بعد اندلاع الثورة السورية.
ثمة أهمية للاطلاع على كتاب: “رياض سيف… سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ” (إصدار مؤسسة الجديد، بيروت، 2021)، الذي اشتغل على تحريره أكرم البني وأسامة العاشور، وقدم له جاد الكريم الجباعي، لأن سيرة سيف، كالكثير من الشخصيات السورية، هي التي تقدم التاريخ الحقيقي، أو التاريخ المسكوت عنه، أو المحجوب، لهذا البلد، الذي ظن نظام الأسد، أنه هو الذي صنعه، وأن تاريخه يبدأ مع تاريخ تلك العائلة، التي هيمنت على حياة السوريين لأكثر من نصف قرن، مع كل الخراب والتصدع والانهيار الذي نجم عن ذلك، علما أن ذلك الكتاب يغطي الفترة من 1963 ـ 2008، بانتظار وعد بجزء ثانٍ، يغطي الفترة التي تلت ذلك.
الكتاب ليس مجرد سيرة سياسية شخصية فقط، وإن كان يتضمن بعضها، المتعلق بنشاط رياض سيف، في الصناعة وكبرلماني وكمعارض سياسي، إنما يتضمن أيضاً بعضاً من تاريخ سوريا في تلك الحقبة، وبعضاً من سيرة المعارضة، ومشكلاتها، في تلك الفترة، ما يعني أنه لم يف كل جانب حقه. وربما كان الأجدى، من وجهة نظري، لو أن سيف غطى بشكل أوفى كل جانب، إن بتقديم سيرة ذاتية وافية، عن حياته الشخصية، وتجربته في المعارضة وفي السجن، وعن حياته العامة في إلقاء أضواء أكثر على واقع الصناعة ورجال الأعمال السوريين، وواقع ما يسمى حياة برلمانية في سوريا، وعلاقتها بالسلطة، وواقع المعارضة ومشكلاتها، أي أن ثمة الكثير من المسائل كان ينبغي الاشتغال عليها بحيث يعطيها حقها، ويعطي القارئ حقه في معرفة الواقع ومعرفة رياض سيف أيضاً.
لذا، وبانتظار الجزء الثاني من شهادة سيف، التي وعد بها، وهي لا شك ستكون مهمة، كونها ستبين رأيه في شأن اندلاع الثورة السورية، وتركيب أطرها، ومساراتها، ودوره في كل ذلك، فإن المطلوب منه تلافي النقص الحاصل في الجزء الأول (الذي يمكن تضمينه في طبعة ثانية لاحقة) بأن يضمن شهادته في الجزء الثاني ببعض من المراجعة النقدية، لدوره وأدوار الآخرين، بكل صراحة ومسؤولية، لأن هذا هو الغرض المطلوب من هكذا شهادات، أي أن تقدم عصارة دروسها وتجربتها للأجيال.
في الختام هذه تحية لرياض سيف وأمثاله.
إقرأوا أيضاً: