تمرّ مدينة السويداء بنقطة تحوّل تاريخيّة، ما قبل مجازر 14 تموز/ يوليو 2025 وما بعدها. المجزرة مسّت بيوتًا كثيرة، من بينها منزل عائلة شهيّب، الذي شهد مقتل سبعة مدنيين عُزّل.
الضحايا هم الأبوان: أيمن شهيّب (60 عامًا)، الذي عمل طيلة حياته في مستشفى السويداء بعد تخرّجه من المعهد الصحي، وزوجته فاتن أسعد شقير، وولداهما عمر (30 عامًا)، الذي أنهى دراسة معهد المعلوماتية، وحسين (27 عامًا) الذي بدأ دراسة التجارة والاقتصاد في الجامعة، لكنّه هرب مع شقيقه إلى لبنان كي لا يخدما في جيش الأسد القاتل، وليعملا هناك ويساعدا أهلهما ماديًا. كما قُتل أمجد شهيّب (59 عامًا) الذي عمل مهندسًا مدنيًا، وولداه أيهم (17 عامًا) الطالب المتفوّق الذي كان سيبدأ دراسة البكالوريا العلمي هذا العام، وأنس (15 عامًا) الذي صدرت نتائج نجاحه في الشهادة الإعدادية بعد مقتله بأقل من شهر.

“كيف خطفوني بعد ما قتلوهم كلهم؟”
“كيف ما سمحولي حطّ إيدي بشعرهم؟ كيف ما خلّوني ودّعهم؟ كيف بعدين اندفنوا كلهم وأنا ما قدرت نوّح عليهم؟ كيف ما قدرت أوصفهم وعدّد صفاتهم وطيبتهم ونبلهم؟ كيف ما دفنتهم وعملتلهم العزاء اللي بيستحقّوه؟ كيف ما سمعت من كل العالم رحمتهم بذينتي؟ كيف ما سمحولي أبكي عليهم بكا يوسّع الكون؟”.
تصمت فاتن لحظة، ثم تشهق وتتابع: “ليش خلّوني بالأول عيش أيّام من الرعب بدرعا، وبعدين ما أقدر أرجع لعند أهلي بالسويدا أو القريا، لأنو الطريق كان مقطوع وكلو قتل وقناصات؟ ليش لحتى روح على جرمانا وظل شهر ونص وأنا عم عيش كل مشاعر فقدهم لحالي؟ بدون إخوتي وأخواتي حواليّي، بدون بيّي يكون معي ويوقف جنبي، بدون جيراني وناسي يللي بيعرفوا ولادي…”.
تتنهد وتكمل بصوت متهدّج: “ولك أخ، لو تشوفي قديش ولادي حنّانين وطيّبين ومؤدّبين، قديش حلوين… بحياتهم ما حملوا سلاح ولا بيعرفوا شو يعني سلاح، هذول أبرياء. أمّا ولاد سلفي، فهني ملائكة عنجد. شاطرين كتير بالمدرسة، ومؤدّبين وحلوين. ولادي وولاد سلفي مش أي ولاد، عنجد… تخيّلي يا ميسون، تركوا دراستهم وراحوا على لبنان ليشتغلوا ويساعدونا. قالوا لي: إنتِ كبِرتي وخلص، صار دورنا. وما بتتخيّلي قديش تحمّلوا ظروف غربة بشعة ليبعثوا إليّ ولأبوهم المصاري، ويضلّوا يقولولي: يا إمّي، إنتِ اصرفي وعيشي، ما رح نخليكي تحتاجي شي أبدًا.”
تضيف: “بتعرفي إني كنت كل يوم مر من قدام محلات الألبسة لنقيلو ملابس لعمر ونسقهم، عمر العريس يللي كنت بدي اخطبلو، وحسين الشب يللي سبحان من خلقوا على هالوجه وهالحلا وهالطيبة، أخ قديش عززوني بحياتهم، وبمماتهم، ولو تشوفي أيمن زوجي قديش حاول يحميهم ويرد عنهم، وأني كنت من لما رجعوا من لبنان خايفة كثير، قلبي مقبوض وما اقدر نام، ما كان بدي إياهم يجوا هذا الصيف أبدا بس هني قال ما قبلوا بدهن يجوا ويحاولوا ياخذونا لعندهم على لبنان لأنهم خايفين علينا، ومن بعد يللي صار بجرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا ما عادوا متطمنين للوضع بالسويدا، كانوا يردوا علي ويضحكوا لا تخافي علينا مش رح نموت”.
“كانوا يحبوا الحياة والفرح وعلى طول عاملينلي جو ضحك بالبت ومزح والفة، بس قدرهم جابهم، اجوا ليموتوا بايدين هالوحوش يللي ما عندهم ولا جنس الإنسانية…أ خذولي بلحظة أغلى شي عندي، قتلوهم بدون ذنب، قتلوهم وقتلوا قلبي معهن، أني بحسد بيهن لأنو راح معهن، يا ريت قتلوني أني معهم، يا ألف ريت”.
تصمت فاتن، ثم تبكي، وتتابع: “أخ لما رشوهم بالرصاص، ثقبوا قلبي وروحي، يا الله صوت الرصاص كان ما أبشعو، يا الله، طار عقلي، جنيت، صرت صرخ أني وسلفتي، ركعت على الأرض وصرت خبط الأرض بايدي وكواعي لطلع الدم منهن، كنت عم نادي شي قدرة تقللي لاء ما ماتوا لاء هذا الرصاص ما فات بلحمهم الطري، لا يا الله، لاء، وليش يا الله هذول شباب وأطفال شو عملوا، شو عملوا يا الله، وبهب قلبي هب عليهن”.
المجزرة يوماً بيوم..
تتوازن فاتن قليلاً بعدما طلبت منها أن تسرد لي كل التفاصيل التي عاشوها منذ بداية الأحداث، تقول باللغة العربية الفصحى: “لا أزال أذكر ذلك اليوم الذي بدأ فيه كل شيء/ كان يوم الأحد 13/07/2025، اندلعت الاشتباكات في حي المقوس في مدينة السويداء بين فصائل محلية ومقاتلين من بدو العشائر التي تقطن الحي، وكنا قد استيقظنا في منزلنا الكائن في منطقة تسمى طريق الثعلة في مدينة السويداء، أنا وزوجي وأولادي الشباب الاثنين اللذين كانا قد عادا قبل عشرة أيام من هذا التاريخ من لبنان حيث كانا يعملان”.
تضيف: “بدأنا نسمع إطلاق النار المتواصل من اتجاه المقوس، وأخذ يزاد طوال اليوم. ثم بدأنا نسمع أصوات اشتباكات في القرى الغربية للسويداء وأصوات قذائف أيضاً، وفي مساء الأحد انقطعت الكهرباء والإنترنت تماماً عن المدينة واستمرت الأصوات والقذائف حتى الفجر.
” وفي صباح يوم الإثنين 14/07/2025، استمرت الاشتباكات في ريف السويداء الغربي، واستمر انقطاع الكهرباء والإنترنت، وزاد عدد الهاربين، ويوم الثلاثاء 15/7/2025 سمعنا أنو قوات الأمن دخلت السويدا وصار وقف إطلاق نار لفترة قليلة، ثم عرفنا أنو قوات الأمن نكثت بالاتفاق واستمر القصف العشوائي للمدنيين، وانتشر خبر عن إعدام عدد كبير من المدنيين في مضافة آل رضوان في المدينة، وعن إعدام أفراد من عائلة قرضاب وعدد كبير من عائلة سرايا”.
“استمرت في فترة العصر وبداية المساء معارك عنيفة برمايات بصواريخ غراد ومدافع الهاون والطائرات المسيرة، بعدها ازدادت حدة وكثافة أصوات القذائف وأصوات الصواريخ وانقطعت الكهرباء نهائياً والإنترنت أيضاً. عشنا في حالة رعب حقيقي، كنت أخاف أن يسقط البيت فوقنا، لم نكن قادرين على الخروج من المنزل أبداً، واجتمعنا كلنا عائلتي وعائلة أخ زوجي كلهم في الصالة الأبعد عن الجدران الخارجية للمنزل، ثم بدأت قوات الأمن العام ومعها ناس أشكالهم غريبة عن المنطقة تدخل بين الحارات، كنا نشاهدهم خلسة من الشبابيك، بسرعة ثم نعود للصالة، وقد ترافق دخول الكميات المرعبة من قوات الأمن العام مع التكبيرات العالية والكثيرة حيث كانوا كلما قتلوا أحداً يكبرون، وكانوا يدخلون إلى البيوت بطريقة همجية”.
تتابع: “وهذا ما حصل معنا نحن في نفس اليوم، حيث دخلت أولاً مجموعة من قوات الأمن العام ومعهم قوات عليها علم داعش وأخرى لها اسم قوات مناصرة السنة، وقوات مكافحة الإرهاب، دخلوا البيت بصورة قالوا إنهم يفتشون على السلاح وأكدنا لهم أننا لم نملك في حياتنا أي نوع من الأسلحة وأن أولادي الشباب يدرسون في الجامعة وكانوا يعملون في لبنان وقد عادوا فقط كي يأخذونا معهم، لكنهم فتشوا البيت وقلبوه كله”.
“لم يجدوا أي شيء، عندها طلبوا كل ما نملك من ذهب ومال وأخذوا أيضاً الجوالات وخرجوا. وبنفس هذا اليوم وجدنا عائلة مؤلفة من رجل اسمه رؤوف الشقيفان وزوجته ووالدته السبعينية وأولاهما الصغار (8 و10 سنوات)، جالسين على الشارع أمام البيت هاربين من بيتهم الذي احترق وليس لديهم أي مكان يذهبون إليه، فأخذناهم وأدخلناهم منزلنا، وقلنا لهم: يللي بصير علينا بصير عليكم”.
تقول فاتن إنه في صباح يوم 16 تموز/ يوليو، ازداد القصف كثيراً في الصباح بكل أنواع الأسلحة والقناصات، ثم هدأ قليلاً عند منتصف اليوم مع انسحاب القوات المهاجمة. وتضيف: “بدأنا نكتشف حجم الدمار المرعب مثلما بدأنا نكتشف العدد الكبير للجثث الملقاة في الشوارع لأهل حارتنا وجيراننا، واكتشفنا جثة جارتنا التسعينية العجوز التي لم تكن تسمع وكانت تعيش وحدها في منزلها، كانت الجثة على الشرفة، كما اكتشفنا جثة رجل من جيراننا من عائلة الحلبي رائحتها كريهة وبدأت بالتفسخ، حينها خرج زوجي وأولادي وأخ زوجي يساعدون باقي شباب الحي في نقل أكثر من عشرين جثة ومحاولة دفنها، وأحسسنا أنه من المستحيل أن نستطيع الخروج من البيت على أي مكان من شدة القصف الذي عاد مرة ثانية في المساء”.
تشير فاتن الى أنهم يوم الخميس 17/07/2025 اكتشفوا وجود مئات الجثث الجديدة في السويداء المدينة، في الساحات والطرقات والبيوت والأقبية، وانتشرت مجموعات كبيرة من البدو والعشائر أشكالها مختلفة عن أشكال الأمن العام، وأخذت تعلو التكبيرات.
ويوم الجمعة 18 تموز/ يوليو 2025، هدأ قليلاً صوت القصف، لكن المدينة كانت مدمرة تماماً وأعمدة الدخان تخرج من كل جهة، تقول فاتن: “صرنا نسمع عن مجازر جديدة في المستشفى وفي دوان العمران، ليلتها أحسست بنار تشوي قلبي، جلست في الليل على باب غرفة الأولاد أدعو وأبكي، قال لي زوجي “لا تخافي ما رح يصير عليهن شي هني ما الهن دخل بشي ولا بحياتهم دخلوا لا بالسياسة ولا بالسلاح، اتكلي على الله وقومي نامي”، ولم يأت النوم أبدا”.
“أبشع يوم في كلّ عمري”
السبت 19 تموز/ يوليو 2025، عند هذا التاريخ تتوقف فاتن عن التكلم بالفصحى، وكأن اللغات كلها لا تسع هذا النحيب، تشهق وتقول: “هذا أبشع تاريخ بكل عمري، كنا قاعدين بالصالة أنا وزوجي أيمن وولادي الاثنين وسلفي أخ زوجي أمجد وأولادو أيهم وأنس يا عمري ووالدتهم أمل زين الدين، وكل أفراد العائلة يللي كنا مستضيفينها، بلش كثير يعلا صوت تكبيرات قريب من البيت، وبعدين هجمت على البيت مجموعة من أكثر من ستة أشخاص، كان فيهم مين حاطط شارة الأمن العام، وفي كمان إشارة قوات مكافحة الإرهاب، وفيهم مين حاطط العصائب الحمراء، ومين حاطط عصابات سوداء/ والأكثر هني رجال من العشائر ، ملثمين، وبلحى طويلة وعيونهم عم تقدح شرر، ونية القتل عم تطل منها، وكمان كان في معهم مقاتلين ما بيعرفوا يحكوا عربي”.
“خلعوا الباب الخلفي للبيت وفاتوا علينا كلهم، صرنا نقلهم أنو ما عنا سلاح، وأنو اجى غيركم قبل يومين وفتشوا، وأخذولنا كل شي، بس ما كانوا يردوا، صارو يصرخوا أنو الرجال يطلعوا لبرا على باحة البيت الخلفية، أخذوا الرجال كلهم/ ولادي وزوجي وسلفي وولادو اثنين والزلمي يللي كان عنا ضيف، ولما حاولنا نلحقهم لبرا صاروا يصرخوا علينا إنو النسوان لجوا ولما ما ردينا وحاولنا نلحقهم صاروا يقوسوا على أجرينا، خوفونا كثير وفتنا على الغرفة وسكروا علينا”.
إقرأوا أيضاً:
يغص الكلام في فمها وتكمل: “بعديها بدقائق بس سمعنا أبشع وأقسى صوت بالعالم، صوت رش رصاص كثير، واعرفنا فورا إنهم قتلوهم كلهم، هجمنا أني وسلفتي والمرا الضيفة يللي عنا، على الشباك، وشفناهم كلهم على التراب مقتولين، كلهم، كلهم، صرنا نصرخ أني وسلفتي أمل ووضيفتنا وأمو لضيفنا، قالولنا هذول رجالكم وولادكم الدروز الخنازير ماتوا وارتحنا منهم، وصار يللي ما بيحكي عربي يقلنا بعد ما قتلوا ولادنا: “كيف حالكم بعد التحرير؟”، تضيف فاتن :”حسيت ساعتها أنو فضت الحياة وفضي الكون واتسكرت الدنيا كلها بقلبي”.
رحلة “الخطف”
تتابع فاتن: “بعد شوي اجانا اثنين، واحد من الأمن العام وواحد من العشائر لابس غلابية، وبعدين صاروا يقولولنا انهم بدهم ياخذونا منشان يحمونا، منشان ما يجي حدا غيرهم يقتلنا، قلنالهم ما بدنا نروح على محل بدنا نظل هون ببيتنا ونموت جنب ولادنا، بس صاروا يوجهوا علينا سلاح ويقولولنا يلا بسرعة اتستروا واطلعوا، خلونا نحط على راسنا وجسمنا شراشف ونطلع، ومشينا أني وسلفتي والمرا يللي كانت عنا وأولادها الصغار والعجوز السبعينية والدة رؤوف، ولاقينا في سيارة أمن عم تستنانا طلّعونا فيها ومشوا”.
تعود فاتن وتتوازن قليلاً وتكمل رحلة خطفها: “صرنا نسألهم إلى أين تأخذونا؟ قالوا إلى الأمن العام في دمشق كي نحميكم، مشت بنا السيارة ومرت بشوارع السويداء التي أبداً لم تكن السويداء ذاتها، كانت مدينة أشباح وموت ودخان ودم وبيوت وواجهات محروقة وجثث وأحذية عليها دم ودم بدون جثث، كل هذا رأيناه بعيوننا على الطريق، وكما كان طول الطريق يوجد قناصين، ولأجل أن يستطيع السائق الذي كان يرتدي غلابية، أن يكمل طريقه، صار يصرخ: هذول معنا أسرى، لا تقوسوا”.
تتابع فاتن :”قبل أن نطلع من السويداء أصيب السائق برصاصة في كتفه، عندها نزل الرجل الثاني وبدأ هو يسوق وصار يسأل ونحن نسير باتجاه درعا، عن أية نقطة طبية، وقد كان واضحاً أنه ليس من هذه المنطقة لأنه لم يكن يعرف الطرق، قالوا أن أقرب مشفى هو في مدينة أزرع، مشينا باتجاهو، وعلى طول الطريق رأيت أعداد كبيرة من مقاتلين العشائر، ومتوجهين إلى السويداء، وكلما أوقفتنا مجموعة منهم أو من الأمن العام وسألت السائق عنا، كان يجيب هؤلاء أسرى”.
“وحين وصلنا إلى مستشقى أزرع انشغل خاطفانا بمعالجة الرجل المصاب في قسم الإسعاف، وعندما رآنا مدير المستشفى صار يصرخ: “أني نسوان ما بحط عندي، بتعملولي مصيبة، بكرا بتصير هون شي مجزرة كمان”، عندها جاءت مجموعة من رجال الهلال الأحمر وأخذونا بسيارتهم من دون أن ينتبه لذلك خاطفانا، لأنهما كانوا خاطفينا، لأنهم كانا في قسم الإسعاف، أخذتنا سيارة الهلال إلى بيت عائلة مسيحية مؤلفة من رجل وزوجته، وقد كانوا جدا محترمين وصاروا يبكون معنا علينا وعلى أولادنا الذين تركناهن ورانا يسبحون بدمهم، طعمونا وشربونا واهتموا فينا وأيضا قدموا لنا بعض المال، لقد كانوا رائعين معنا”.
من السويداء إلى بصرى الشام… ثم دمشق !
تقول فاتن: “بعد ساعة، جاءت سيارة الهلال الأحمر مرة ثانية وأخونا بسرعة إلى مركز إيواء ببصرى الشام حيث بقينا فيه لثلاثة أيام، وللحقيقة عاملونا في المركز يللي كان يحتوي على عدد كبير من النساء والأطفال الصغار المخطوفين من السويداء، أيضاً بشكل جيد، وسمحولنا أنو نتّصل لمرة واحدة مع أهلنا، ونطمّنهم”.
“مضت هذه الليالي بألم وقهر لا يحتمل، كدنا نجن أنا وسلفتي كيف تركنا أولادنا هناك وحدهم، في اليوم الأخير حاولنا الاتصال بأحد أقارب زوجي الذي كان يسكن بعيداً عن بيتنا وطلبنا منه فقط أن يذهب ويدفنهم، كنا نخاف أن تأكلهم الكلاب الضالة أو أي حيوان آخر. في عصر ذلك اليوم، أخبرنا قريبنا أنه استطاع بصعوبة الوصول لبيتنا وأنه سيدفنهم في نفس الباحة لأنه لا يمكن نقلهم بسبب اشتداد المعارك، عندها طلبت أنا منه أن يصورهم لي قبل أن يدفنهم، وفعلا أرسل لي صورتهم كلهم وأفواههم على التراب الذي حن عليهم أكثر منا نحن أمهاتهم وزوجاتهم، والحمد لله لم يكن هناك أي أثر لاقتراب حيوان منهم، ثم دفنهم في باحة البيت الذي رباهم، الذي أحبوه جداً، وكانوا يوماً ضحكته وأجمل ما فيه”.
“في اليوم الثالث، جاء الهلال الأحمر وقال إنه سيأخذنا، أي سيفرج عنا أنا وسلفتي ونساء اثنتين أخريات من بيت الحلبي، ولا أدري إن كان هذا الإفراج جاء نتيجة صفقة تبادل للأسرى مع الأمن العام، أم غير ذلك، لكنني أعرف أني تركت نساء كثيرات ورائي هناك، وبما أن الطريق إلى السويداء غير آمنة نهائياً، سألنا إلى أين، عندها قلت له إلى جرمانا، فهناك لدي ابن أخي وسأكون معه”.
“بعدما وصلت إلى جرمانا وشحنت جوالي ووضعت صورهم على حالتي على الواتسآب، وصلتني رسالتان من رقمين لجيراني، قالوا فيهما: “هذول يعني يللي فطسوا، إلى جهنم وبئس المصير”، بعدين عرفت إنو هذه الرسائل فعلاً جاءت من جوالات جيراني التي كانت قوات الأمن العام قد سرقتها، وأنهم حين وجدوا أني غيرت صورة الواتسآب لصورة أولادي وزوجي وأولاد سلفي عرفوهم وقصدوا أن يطعنوني أكثر” .
“كانت جرمانا هي المحطة الآمنة والممكنة حينها، لكني لم أتخيل أن أبقى شهراً ونصف الشهر غير قادرة على العودة الى البيت، الذي دُفن في باحته زوجي وأولادي، كنت كل ليلة أستيقظ مذعورة، أراهم يُقتلون الآن، وأصرخ بأني أريد الذهاب إليهم، أريد أن أقبل وأشم ترابهم الذي ضمهم بدلاً عني. وأعرف أنهم كانوا ينتظرونني أيضاً، لم أتخيل ألا أكون قادرة على التواجد حين أقاموا لهم عزاء، وجاءت كل الناس والأقارب والأصدقاء إلى بيتي، كنت أريد أن أسمع كلام الناس في وصفهم، بكاء كل من يعرفهم لفقدهم صغاراً بريئين، كنت أريد أن أزفّهم عرساناً جميلين، بشار الأسد حرمني منهم في آخر سبع سنوات، وحكومة الجولاني قتلتهم، والآن أريد فقط أن أنام بجانبهم إلى الأبد”.











