ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“شهداء حرب تشرين”: سوريون يُمحون من أسماء المدارس… و”التاريخ الوطني”؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قد تختفي الأسماء من اللافتات، لكن الذاكرة لا تموت. لأنها ببساطة لا تُكتب في المكاتب، بل تُروى في البيوت. وربما، حين ننظر إلى ما تبقّى من حكايتنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سقط تاريخ 6 تشرين الأول/ أكتوبر من التقويم السوري الجديد، ويوم حرب تشرين/ حرب أكتوبر/ حرب يوم كيبور لم يعد جزءاً من الهوية الوطنية السوريّة، اليوم الذي كان عيداً وطنياً يرمز الى “التحرير والنصر”، ويحتفل به السوريون والمصريون، لم يظهر في روزنامة الأعياد الوطنية التي أقرها أحمد الشرع، رئيس المرحلة الانتقالية.

الروزنامة الوطنيّة الجديدة ترافقت مع إجراءات عدة يمكن القول إن الهدف منها إعادة بناء الذاكرة السورية حول تاريخ البلاد، ونزع أثر “البعث” من الفضاءات العامة والمؤسسات، لكن مهما كان الموقف من “حرب تشرين” وتفسير نتائجها المشكوك في أمرها، بالنسبة الى كثيرين وتحديداً أسر “الشهداء” الذين سقطوا في حربي 67 و73، كانت مناسبة لتخليد ذكرى أحبتهم وتقديراً رمزياً لتضحياتهم، تلك التي “كافأها” نظام الأسد بإطلاق أسماء بعض شهداء حربي 67 و73 على مدارس سورية، في خطوة بدت تكريماً لهم لكنها حملت استغلالًا سياسيًا، تمارسه أي سلطة حاكمة، ترسخ التاريخ الوطني الذي تتبناه. 

حذف العطلة الوطنية، وربط “الحرب” بالأسد فقط، أمران يتجاهلان أن ملكية هذا اليوم أو معناه أو قيمته تخص السوريين بكاملهم، خصوصاً الجيل الذي شارك في هذه الحرب. خسر الكثيرون حياتهم إيماناً بأنهم في معركة لتحرير أرض سوريا، لكن لم يكن حذف يوم العطلة هو الخطوة الوحيدة،  إذ غيّرت  السلطات الانتقالية أسماء عدد من المدارس التي حمل بعضها أسماء من سقطوا أثناء حرب تشرين.

 رافق هذا الفعل استهجان واسع عند السوريين، وبخاصة ممن يمسه ويعنيه هذا اليوم من خسارات أو تضحيات كبيرة قدمها ذووه أو أقرباؤه في يوم من الأيام. فعبر كثيرون عن هذا السخط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بخاصة أن التغيير لم يراعِ أبداً مشاعر “ذوي الشهداء”، وحقوقهم الرمزية، واعتُبر مصادرة لتضحيات الكثيرين، الذين لم يقاتلوا حينها لأجل الأسد، بل لأجل سوريا.

“رموز النظام البائد”؟

جاءت القرارات الجديدة بتغيير أسماء المدارس في اللاذقية مفاجئةً، كما في مدارس سوريّة كثيرة، بعضها تحول إلى تريند كحالة تغيير اسم مدرسة سعد الله ونوس ونزار قباني، حيث تدخل وزير الثقافة لحماية “الأسماء”. لكن في اللاذقية مثلاً تغير اسم مدرسة (رفيق سكاف) الذي قتل في حرب الـ67، الى (المقداد بن الأسود)، ومدرسة (غسان حرفوش) الى(دار الحكمة) وغيرها من المدارس، في حين مثلاً لم يتغير اسم مدرستي “يوسف العظمة” و”جول جمال”.

تغيير أسماء المدارس في سوريا جاء بناء على تعميم من وزارة التربية والتعليم “في إطار الجهود الوطنية الرامية إلى تعزيز الهوية الوطنية وترسيخ الانتماء المجتمعي، وانسجاماً مع توجهات الدولة في تجاوز آثار المرحلة السابقة، وحذف الأسماء المتعلقة برموز النظام البائد”، ليكمل الكتاب شروط تغيير الأسماء، والموافقة تأتي من المحافظ،  وفي حالة اللاذقية هو محمد عثمان.

الواضح أن التغيير يستهدف تاريخ سوريا في عهد الأسد، والأسماء التي تغيرت لا تنطبق عليها الشروط وتُحسب على “رموز النظام البائد”، الشأن الذي ترافق مع استنكار وغضب شعبيّين على صفحات السوشال ميديا؛ كان أبرزها منشور كتبه فادي سمان ابن شقيقة (رفيق سكاف)، على صفحته الشخصية على الفيسبوك، يعبر  فيه عن غضبه وحزنه من هذا التغيير.

قال فيه عن خاله: “استُشهد بحرب عام 1967، وهو ملازم أول احتياط (و عمله المدني محام) جنازته جالت مدينة اللاذقية بكل أحيائها وتسابقت الأكف لحمل نعشه الطاهر من كل طوائف المدينة، اسم المدرسة لا يعنيني. أبداً. لأن ذكراه ستبقى خالدة مهما تغيرت السلطات والأنظمة، خاض وبكل شجاعة المعركة  وأصاب طائرة العدو ودخلت شظاياها  مخترقة صدره وقلبه”.

التقينا في “درج” مع لؤي سليمة الذي يحمل اسم عمه الشهيد نفسه، وحدثنا عن صدمته حيال هذا التغيير في الأسماء وإلغاء ذكرى الحرب. يصف لؤي عمه بـأنه كان “من الشبان الغيورين على وطنهم، وشارك في حرب 73. آنذاك كان مندفعاً، فطلب أن يكون في الطلعة الهجومية الأولى وعند بداية الهجوم ومع أغنية فيروز (يا قمر مشغرة)”. يضيف لؤي: “سقط عمي شهيداً وبقيت جثته فوق مرتفعات الجولان، ولم يبق لأهله سوى اسم المدرسة التي خلّدت ذكراه”.

قابلنا أيضاً علي عيسى، الذي فقد عمه (محمد عيسى) في حرب 73، وكان عمره حينها لا يتجاوز العشرين. يخبرنا عيسى كيف لم تحصل الأسرة على الجثة، ووصلهم خبر “استشهاده” بقصف مدفعية عن طريق وفد من وزارة الدفاع. ويرى أن الحرب وقتها خاضها “كل السوريون بمختلف طوائفهم”.

من يكتب التاريخ ؟

تكرر سؤال تاريخ سوريا منذ سقوط النظام، وبدأت هذه الملامح تتضح مع إلغاء عطلة “عيد الشهداء” المرتبطة بمن أعدمهم جمال باشا السفاح، ثم ظهورهم في أحد الكتب المدرسية السورية الجديدة كـ”عملاء”، الجدل ذاته بدأ مع الحديث عن النشيد الوطني السوري، وهل سيتغير أم لا؟ ومن سيكتبه؟ وغيرها من التساؤلات،  التي لا تستشير فيها السلطة السوريين، بل تعيد “كتابة” التاريخ من دون الأسد.

تاريخ سوريا من دون الأسد مهمة ليست بالسهلة، ولا يمكن إنجازها عبر “المحو” الذي تمارسه السلطات الجديدة أو تمهد له، سياسة تمتد من سينما الكندي التي “استعادت ملكيتها” وزارة الأوقاف، انتهاءً بالسجون السورية التي ضاعت الأدلة من الكثير منها، هذا الاستخفاف من جهة والرغبة في “نزع البعث” إن أردنا الاستعارة من تاريخ العراق، نتائجه كانت كارثية، والسلطات الحالية ما زالت تتحرك بين هويات متصارعة داخل بنيتها نفسها ومع الخصوم، وربما الصراع حول المناهج التعليمية في مناطق سيطرة “قسد” هو الأشد وضوحاً.

بُنيت الذاكرة الرسمية في سوريا لعقود وفق رؤية واحدة قدّمت نفسها باعتبارها “ذاكرة الدولة”، والتركيز على دور “القيادة” أكثر من التضحيات الفردية الوطنية البعيدة عن التسييس، وعلى خطاب الانتصار أكثر من الأسئلة التاريخية. وهكذا، لم تعد الذكرى مجرّد تذكير بالنصر أو الفقد، بل أداة لتثبيت رواية سياسية محددة، تُختزل فيها الحروب المعقدة إلى مشهد واحد: صورة زعيمٍ يطلّ على الجماهير!

 جدّي وحربان لم تنتهيا

كبرتُ وأنا أعرف أن جزءًا من عائلتي وُلد في القنيطرة، من دون أن أفهم لماذا عاشوا هناك ونحن ننحدر من جبلة. لم يقبلوا أن يُقال عنهم “نازحون”،  فلعلّ الكلمة كانت تُذكّرهم بحجم الفقد لا بمعناه.

لاحقًا عرفت أن عائلة جدّي كانت ممّن نزحوا في حرب حزيران/ يونيو عام 1967، الحرب التي حارب فيها جدّي ودُمّرت دبابته وقتل قائد كتيبته، الجبلاوي محمد سعيد يونس. تلك الحرب التي سمّاها الناس “النكسة”، وسمّتها السلطات “مرحلة عابرة”، كانت بالنسبة الى جدّي كانت جرحًا لا يندمل.

لم أر جدي في حياته، لكن جدّتي كانت تسرد قصصه كأنها تحفظ الذاكرة السورية كلها في صوتها. كانت تقول إنهم في ليالي الصيف كانوا يسيرون في طريقٍ يطلّ على فلسطين — ببساطة، بلا خرائط ولا حدود. منها عرفت أنني سُمّيت على اسمه، وأنه قاتل في حربَي 67 و73، وأن شظايا دبابته بقيت في جسده حتى مات.

كان جدّي يزور والد الشهيد يونس دوماً، يطلب منه أن يحكي عن بطولات ابنه، الذي أُزيل اسمه لاحقًا من المدرسة التي كانت تحمل اسمه. أما أمي فحدّثتني سابقاً عن أخوالها: أحدهم طيّار غادر عالمنا عام 1970، والآخر مظلي سقط على قمة جبل الشيخ في حرب تشرين، حُذف اسم خالها الثاني من المدرسة التي كرّمته يومًا.

في هذه القصص الصغيرة تختبئ ذاكرة كاملة لا تكتبها الصحف ولا المناهج. ذاكرة تحكي عن رجالٍ آمنوا بأن الوطن فكرة أوسع من أي خطاب، وأن التضحية لا تُختصر في اسمٍ على لافتة. وحين أرى اليوم المدارس تغيّر أسماءها، والاحتفالات تمرّ بصمت، أفكّر أن التاريخ الحقيقي يعيش في مكانٍ آخر، في ذاكرة الأمهات والجدّات، وفي الصور القديمة المعلّقة في غرفٍ لم يدخلها الضوء منذ زمن.

قد تختفي الأسماء من اللافتات، لكن الذاكرة لا تموت. لأنها ببساطة لا تُكتب في المكاتب، بل تُروى في البيوت. وربما، حين ننظر إلى ما تبقّى من حكايتنا.

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
30.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes

قد تختفي الأسماء من اللافتات، لكن الذاكرة لا تموت. لأنها ببساطة لا تُكتب في المكاتب، بل تُروى في البيوت. وربما، حين ننظر إلى ما تبقّى من حكايتنا.

سقط تاريخ 6 تشرين الأول/ أكتوبر من التقويم السوري الجديد، ويوم حرب تشرين/ حرب أكتوبر/ حرب يوم كيبور لم يعد جزءاً من الهوية الوطنية السوريّة، اليوم الذي كان عيداً وطنياً يرمز الى “التحرير والنصر”، ويحتفل به السوريون والمصريون، لم يظهر في روزنامة الأعياد الوطنية التي أقرها أحمد الشرع، رئيس المرحلة الانتقالية.

الروزنامة الوطنيّة الجديدة ترافقت مع إجراءات عدة يمكن القول إن الهدف منها إعادة بناء الذاكرة السورية حول تاريخ البلاد، ونزع أثر “البعث” من الفضاءات العامة والمؤسسات، لكن مهما كان الموقف من “حرب تشرين” وتفسير نتائجها المشكوك في أمرها، بالنسبة الى كثيرين وتحديداً أسر “الشهداء” الذين سقطوا في حربي 67 و73، كانت مناسبة لتخليد ذكرى أحبتهم وتقديراً رمزياً لتضحياتهم، تلك التي “كافأها” نظام الأسد بإطلاق أسماء بعض شهداء حربي 67 و73 على مدارس سورية، في خطوة بدت تكريماً لهم لكنها حملت استغلالًا سياسيًا، تمارسه أي سلطة حاكمة، ترسخ التاريخ الوطني الذي تتبناه. 

حذف العطلة الوطنية، وربط “الحرب” بالأسد فقط، أمران يتجاهلان أن ملكية هذا اليوم أو معناه أو قيمته تخص السوريين بكاملهم، خصوصاً الجيل الذي شارك في هذه الحرب. خسر الكثيرون حياتهم إيماناً بأنهم في معركة لتحرير أرض سوريا، لكن لم يكن حذف يوم العطلة هو الخطوة الوحيدة،  إذ غيّرت  السلطات الانتقالية أسماء عدد من المدارس التي حمل بعضها أسماء من سقطوا أثناء حرب تشرين.

 رافق هذا الفعل استهجان واسع عند السوريين، وبخاصة ممن يمسه ويعنيه هذا اليوم من خسارات أو تضحيات كبيرة قدمها ذووه أو أقرباؤه في يوم من الأيام. فعبر كثيرون عن هذا السخط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بخاصة أن التغيير لم يراعِ أبداً مشاعر “ذوي الشهداء”، وحقوقهم الرمزية، واعتُبر مصادرة لتضحيات الكثيرين، الذين لم يقاتلوا حينها لأجل الأسد، بل لأجل سوريا.

“رموز النظام البائد”؟

جاءت القرارات الجديدة بتغيير أسماء المدارس في اللاذقية مفاجئةً، كما في مدارس سوريّة كثيرة، بعضها تحول إلى تريند كحالة تغيير اسم مدرسة سعد الله ونوس ونزار قباني، حيث تدخل وزير الثقافة لحماية “الأسماء”. لكن في اللاذقية مثلاً تغير اسم مدرسة (رفيق سكاف) الذي قتل في حرب الـ67، الى (المقداد بن الأسود)، ومدرسة (غسان حرفوش) الى(دار الحكمة) وغيرها من المدارس، في حين مثلاً لم يتغير اسم مدرستي “يوسف العظمة” و”جول جمال”.

تغيير أسماء المدارس في سوريا جاء بناء على تعميم من وزارة التربية والتعليم “في إطار الجهود الوطنية الرامية إلى تعزيز الهوية الوطنية وترسيخ الانتماء المجتمعي، وانسجاماً مع توجهات الدولة في تجاوز آثار المرحلة السابقة، وحذف الأسماء المتعلقة برموز النظام البائد”، ليكمل الكتاب شروط تغيير الأسماء، والموافقة تأتي من المحافظ،  وفي حالة اللاذقية هو محمد عثمان.

الواضح أن التغيير يستهدف تاريخ سوريا في عهد الأسد، والأسماء التي تغيرت لا تنطبق عليها الشروط وتُحسب على “رموز النظام البائد”، الشأن الذي ترافق مع استنكار وغضب شعبيّين على صفحات السوشال ميديا؛ كان أبرزها منشور كتبه فادي سمان ابن شقيقة (رفيق سكاف)، على صفحته الشخصية على الفيسبوك، يعبر  فيه عن غضبه وحزنه من هذا التغيير.

قال فيه عن خاله: “استُشهد بحرب عام 1967، وهو ملازم أول احتياط (و عمله المدني محام) جنازته جالت مدينة اللاذقية بكل أحيائها وتسابقت الأكف لحمل نعشه الطاهر من كل طوائف المدينة، اسم المدرسة لا يعنيني. أبداً. لأن ذكراه ستبقى خالدة مهما تغيرت السلطات والأنظمة، خاض وبكل شجاعة المعركة  وأصاب طائرة العدو ودخلت شظاياها  مخترقة صدره وقلبه”.

التقينا في “درج” مع لؤي سليمة الذي يحمل اسم عمه الشهيد نفسه، وحدثنا عن صدمته حيال هذا التغيير في الأسماء وإلغاء ذكرى الحرب. يصف لؤي عمه بـأنه كان “من الشبان الغيورين على وطنهم، وشارك في حرب 73. آنذاك كان مندفعاً، فطلب أن يكون في الطلعة الهجومية الأولى وعند بداية الهجوم ومع أغنية فيروز (يا قمر مشغرة)”. يضيف لؤي: “سقط عمي شهيداً وبقيت جثته فوق مرتفعات الجولان، ولم يبق لأهله سوى اسم المدرسة التي خلّدت ذكراه”.

قابلنا أيضاً علي عيسى، الذي فقد عمه (محمد عيسى) في حرب 73، وكان عمره حينها لا يتجاوز العشرين. يخبرنا عيسى كيف لم تحصل الأسرة على الجثة، ووصلهم خبر “استشهاده” بقصف مدفعية عن طريق وفد من وزارة الدفاع. ويرى أن الحرب وقتها خاضها “كل السوريون بمختلف طوائفهم”.

من يكتب التاريخ ؟

تكرر سؤال تاريخ سوريا منذ سقوط النظام، وبدأت هذه الملامح تتضح مع إلغاء عطلة “عيد الشهداء” المرتبطة بمن أعدمهم جمال باشا السفاح، ثم ظهورهم في أحد الكتب المدرسية السورية الجديدة كـ”عملاء”، الجدل ذاته بدأ مع الحديث عن النشيد الوطني السوري، وهل سيتغير أم لا؟ ومن سيكتبه؟ وغيرها من التساؤلات،  التي لا تستشير فيها السلطة السوريين، بل تعيد “كتابة” التاريخ من دون الأسد.

تاريخ سوريا من دون الأسد مهمة ليست بالسهلة، ولا يمكن إنجازها عبر “المحو” الذي تمارسه السلطات الجديدة أو تمهد له، سياسة تمتد من سينما الكندي التي “استعادت ملكيتها” وزارة الأوقاف، انتهاءً بالسجون السورية التي ضاعت الأدلة من الكثير منها، هذا الاستخفاف من جهة والرغبة في “نزع البعث” إن أردنا الاستعارة من تاريخ العراق، نتائجه كانت كارثية، والسلطات الحالية ما زالت تتحرك بين هويات متصارعة داخل بنيتها نفسها ومع الخصوم، وربما الصراع حول المناهج التعليمية في مناطق سيطرة “قسد” هو الأشد وضوحاً.

بُنيت الذاكرة الرسمية في سوريا لعقود وفق رؤية واحدة قدّمت نفسها باعتبارها “ذاكرة الدولة”، والتركيز على دور “القيادة” أكثر من التضحيات الفردية الوطنية البعيدة عن التسييس، وعلى خطاب الانتصار أكثر من الأسئلة التاريخية. وهكذا، لم تعد الذكرى مجرّد تذكير بالنصر أو الفقد، بل أداة لتثبيت رواية سياسية محددة، تُختزل فيها الحروب المعقدة إلى مشهد واحد: صورة زعيمٍ يطلّ على الجماهير!

 جدّي وحربان لم تنتهيا

كبرتُ وأنا أعرف أن جزءًا من عائلتي وُلد في القنيطرة، من دون أن أفهم لماذا عاشوا هناك ونحن ننحدر من جبلة. لم يقبلوا أن يُقال عنهم “نازحون”،  فلعلّ الكلمة كانت تُذكّرهم بحجم الفقد لا بمعناه.

لاحقًا عرفت أن عائلة جدّي كانت ممّن نزحوا في حرب حزيران/ يونيو عام 1967، الحرب التي حارب فيها جدّي ودُمّرت دبابته وقتل قائد كتيبته، الجبلاوي محمد سعيد يونس. تلك الحرب التي سمّاها الناس “النكسة”، وسمّتها السلطات “مرحلة عابرة”، كانت بالنسبة الى جدّي كانت جرحًا لا يندمل.

لم أر جدي في حياته، لكن جدّتي كانت تسرد قصصه كأنها تحفظ الذاكرة السورية كلها في صوتها. كانت تقول إنهم في ليالي الصيف كانوا يسيرون في طريقٍ يطلّ على فلسطين — ببساطة، بلا خرائط ولا حدود. منها عرفت أنني سُمّيت على اسمه، وأنه قاتل في حربَي 67 و73، وأن شظايا دبابته بقيت في جسده حتى مات.

كان جدّي يزور والد الشهيد يونس دوماً، يطلب منه أن يحكي عن بطولات ابنه، الذي أُزيل اسمه لاحقًا من المدرسة التي كانت تحمل اسمه. أما أمي فحدّثتني سابقاً عن أخوالها: أحدهم طيّار غادر عالمنا عام 1970، والآخر مظلي سقط على قمة جبل الشيخ في حرب تشرين، حُذف اسم خالها الثاني من المدرسة التي كرّمته يومًا.

في هذه القصص الصغيرة تختبئ ذاكرة كاملة لا تكتبها الصحف ولا المناهج. ذاكرة تحكي عن رجالٍ آمنوا بأن الوطن فكرة أوسع من أي خطاب، وأن التضحية لا تُختصر في اسمٍ على لافتة. وحين أرى اليوم المدارس تغيّر أسماءها، والاحتفالات تمرّ بصمت، أفكّر أن التاريخ الحقيقي يعيش في مكانٍ آخر، في ذاكرة الأمهات والجدّات، وفي الصور القديمة المعلّقة في غرفٍ لم يدخلها الضوء منذ زمن.

قد تختفي الأسماء من اللافتات، لكن الذاكرة لا تموت. لأنها ببساطة لا تُكتب في المكاتب، بل تُروى في البيوت. وربما، حين ننظر إلى ما تبقّى من حكايتنا.

30.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية