ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

شهر على جيرة البحيرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اليوم الثلاثون… بعيدة ووحيدة وحزينة، ليس برفقتي سوى ذنب النجاة، يقتلني الإحساس بالأمان، أردّد ما قاله الجواهري: “أنا عندي من الأسى جبلُ/ يتمشّى معي وينتقلُ”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شهر على جيرة البحيرة في كندا، كوّنت خلاله صداقات لطيفة مع منزّهي الكلاب في ممشى الغابة، وبجعات البحيرة المُقيمات والعابرات، وعصافير الماء، وأنواع السناجب الأربعة التي تتقافز فوق سياج الحديقة، والأرانب البرّية البيضاء والرمادية. 

شهر أزكمت فيه أنوف أناس لا أعرفهم ولا يعرفونني، بروائح مناقيش الزعتر، وشوربة العدس، وتقلايات الثوم والكزبرة، وكم مرّة وأنا أعدّها، نظرت من شبّاك مطبخي فلمحت أرواحاً مسحورة تنتظر دعوتي! وهل الإنسان سوى مجموعة روائح ومذاقات ولمسات ومشاهد وأصوات، وجعلنا لها جسداً يمشي فيه بين البلاد؟

شهر بأيّامه ولياليه، كنت شاهدة فيه كيف تخلع المدينة كسوة الشتاء وترتدي كسوة الربيع، وراقبت كيف يُبدع الدفء في رسم عناصر الغابة، بألوانها وأضوائها وأصواتها، بعدما عرّاها الصقيع وتركها هياكل عظميّة مرعبة. الربيع هنا خيّاطة الفصول الماهرة، يطرّز فساتين الغابة بإبرته السحرية، يستغلّ عُري الشجرات في الشتاء ليأخذ مقاساتها، ثم يخيط لكلّ شجرة ثوبها ولونها في أيّام معدودة، ومع كلّ طلعة شمس يعلن افتتاح عرض أزياء جديد، ويسري هذا السحر على الزهور البرّية، وأعواد القصب عند حافّة البحيرة، وورود الأحواض على الشرفات.

ثلاثون يوماً بالتمام والكمال، لم أشعر فيها بالغربة ولا بالألفة، بقيت واقفة حيث أُجيد الوقوف دائماً، في المنطقة الرمادية، على الحياد من كلّ شيء، أقفز بين عقارب الوقت، وأركض عكس الاتجاهات، زلقة خاوية مثل كرة المطّاط، إن وقعت في الماء لا تغرق، وإن اصطدمت بجدار لا تنكسر.

جلست مع نفسي كثيراً وطويلاً، وحكينا في ثلاثين يوماً عن خمسين سنة، راجعنا ما مرّ علينا من تجارب أليمة، توقّفنا قليلاً عند التجارب السعيدة؛ لا بأس أن يأخذ سيزيف نفساً عميقاً وهو يصعد الجبل. فاجأتني نفسي بحكمتها بل أدهشتني، فهي تدرك أنها عاجزة ولا تكتئب، ولا تيأس من المحاولة على رغم أن لا قدرة لها على تغيير شيء، وتعرف أن الظلم ثرثار لذلك تواجهه بالصمت! ووجدت خلال مكاشفاتنا أن نفسي مرآة تحتويني ولا أضيع فيها، حين تحاول ملء وقتي لئلا يتّسع فراغي، وحين تمنحني شعوراً بالوجود من دون أن تدفعني إلى تقمّص وجه آخر، وتذكّرت كم ساعدتني على تقبّل الألم، ودرّبت قلبي على الحبّ.

في الصباحات الثلاثين المتوالية، حللت ألغازاً كثيرة كانت مستعصية عليّ قبل جيرتي البحيرة، اكتشفت أن كلّ السكاكين التي اقتنيتها في مطبخي لم تساعدني على تقطيع الوقت، الوقت هو الذي قطعني، واكتشفت أيضاً وأنا أعدّ قهوتي الصباحية أن أيّامي أكثر مرارة من طعم البن، وأن كلّ سكّر الدنيا لا يحلّي الأقدار، وأن الأشياء التي نفقدها نفقد معها الرغبة في استرجاعها، وأن حياتنا عالقة في ثلاث دوائر: دائرة الأحلام، دائرة التوقّعات، دائرة الأحداث…

ثلاثون شروقاً وثلاثون غروباً، رأيت في الوقت المستقطع بينهما، عدداً لا يُحصى من الأرانب والعصافير والأسماك والبجع والقنادس وأنواع السناجب الأربعة، والكلّ في حالة استرخاء، لا أحد في عجلة من أمره، كلّ واحد يؤدّي الدورالذي حفظه من دون أي خطأ، في سلسلة مشاهد طبيعية مرسومة بدقّة، معدّة بعناية فائقة، بالوتيرة والهدوء والرتابة نفسها، الشيء الوحيد النافر فيها هو أنا، ومنشر الغسيل الذي نصبته تحت الشمس، وشتلة النعناع التي حملتها معي، وقشور الفواكه والخضار التي أرميها في زاوية الحديقة لأستدرج الأرانب وأنواع السناجب الأربعة لصداقتي، وصوت فيروز في الصباح يصل إلى الطرف الآخر للبحيرة… 

هل يقتل التكرار الدهشة؟ هل تُصاب البحيرة بالضجر؟ هل تملّ خلائقها من الأمان؟ هذه البهجات بحاجة إلى تصفيق، إلى احتفال، إلى الكثير من الفوضى الخلّاقة لتصبح حياة. الخيال يتغلّب على الواقع: تذكّرت حين حوّل بضعة أطفال سوريين بركة الماء في ساحة سمير قصير يوماً إلى كائن حيّ، وناديتهم في سرّي: “تعالوا اقفزوا هنا، هذه البركة تكاد تموت من الوحدة، هذه البركة تحلم بأقدام صغيرة تحرّك صفحتها الجامدة”.

ثلاثون يوماً وليلة تُضاف إلى عشرين شهراً مضى، وأنا أحمل غزّة في قلبي وضميري، كذنب لم أرتكبه ويعذّبني، كحزن عتيق لا يفارقني. الطفل الذي رماه الانفجار إلى سطح المبنى المقابل، وجهه الجميل أمام عينيّ حتى حين أُغلقهما، يرافقني في منامي وفي صحوي، أراه فوق كلّ السطوح يلوّح لي بيده، أسمعه يقول لي:”خذيني إلى الأمان”، فأنثني على قلبي من الحزن، أحسّه سيخرج من صدري.

الواقع يتغلّب على الخيال: طفل يسيح الدم من رأسه، يغطّي وجهه، مصاب لا يقوى على الحركة، يده فقط التي تتحرّك، يطلب بها النجاة، خائف، يبكي، محاط بجثث عائلته، والده ممدّد خلفه، أخته مقطوعة إلى نصفين، وأشلاء متناثرة من حوله، كان ينبغي أن يطلّ من على السطح حاملاً بيده طائرة من ورق وخيطان، وهو يغنّي: “وينساني الزمان على سطح الجيران”.

قبل أن أبتعد، كنت أواسي قلبي بأني مثلهم في دائرة الخطر، بأن نجاتي كلّ يوم أصحو فيه بعد ليلة قصف واستهدافات مرعبة، نصيبي من مأساتهم الطويلة. هنا انقلبت عليّ مشاعري، نصب لي قلبي محكمة مفتوحة: لا تأكلي إنهم جائعون، لا تنامي القصف مستمرّ، الدفء خيانة إنهم يرتجفون من البرد، لا تفرحي بشيء، أبواب الحزن هناك مشرّعة على مصارعها! أحلام كثيرة تراودني، وأمنيات مستحيلة، لو أن بلادنا الجميلة تعيش بعض هذا الهدوء، لو أن أطفالنا ينعمون بالقليل من هذا الأمان.

جئت بينما كان الذبح يلاحق العلويين في الساحل السوري، وصلت والسكّين قد غُرزت في قلوب الدروز، حديث الأقلّيات يطغى على كلّ الأحاديث، ماذا نفعل؟ أين نذهب؟ من يحمي وجودنا؟ هنا الأقلّية هم سكّان البلاد الأصليون، الذين أبادهم الرجل الأبيض في غزواته الدموية. لا أدري كيف استطاعوا بناء حياة جديدة مع ذاكرة مثقلة بالوجع إلى هذا الحدّ؟ كيف يعيشون وبلادهم تحتلّها كلّ شعوب العالم؟ بلاد لا هوّية لها ولا ثقافة ولا تاريخ، سوى ما كتبه الغزاة! الحكومة تمنحهم كلّ شيء بسخاء، وتقدّم لهم كلّ الخدمات مجاناً، لهم بيوتهم وتجمّعاتهم وأشغالهم ومجتمعاتهم، ومن يريد أن يشتغل في الشأن العامّ منهم فله الأفضلية، لكنّهم أقلّية غير مؤثّرة، قلّة عددية بوجع كبير، وذاكرة ملأى بالصور المرعبة، ووجوه محايدة وعيون تهرب من النظر…

هل هذا ما يعدّه لنا الغزاة الجدد في بلادنا؟ أن يحوّلونا إلى أيقونات في متاحف يشيّدونها لنا، بعد أن يُبقوا على عدد قليل من عرقنا للذكرى أو للعبرة؟ ثم يبالغون في خدمتنا حين تستيقظ إنسانيتهم لاحقاً، ليس من منطلق الندم إنما من موقع السيطرة، حافظ على وجودك بالسكوت، إذا اعترضت فالإبادة بانتظارك!

اليوم الثلاثون… بعيدة ووحيدة وحزينة، ليس برفقتي سوى ذنب النجاة، يقتلني الإحساس بالأمان، أردّد ما قاله الجواهري: “أنا عندي من الأسى جبلُ/ يتمشّى معي وينتقلُ”.

ابراهيم الغريب - صحافي لبناني | 15.11.2025

على خطّ طرابلس – حمص: حدود سائبة ودولة غائبة و”كزدورة” بأقلّ من 200 دولار

الفساد يعمّق اقتصاد التهريبفي ظلّ الانهيارين الماليين في لبنان وسوريا، تحوّل التهريب إلى شريان اقتصادي رئيسي. مهرّبون، ضبّاط، وسماسرة يعيشون من هذه التجارة التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً. وبحسب مصادر أمنية لبنانية سابقة، فإن بعض المعابر "يُفتح ويُغلق بتنسيق سياسي محلّي مقابل رشى شهرية". النتيجة: حدود سائبة تموّلها الفوضى وتغطّيها المصالح.
23.05.2025
زمن القراءة: 5 minutes

اليوم الثلاثون… بعيدة ووحيدة وحزينة، ليس برفقتي سوى ذنب النجاة، يقتلني الإحساس بالأمان، أردّد ما قاله الجواهري: “أنا عندي من الأسى جبلُ/ يتمشّى معي وينتقلُ”.

شهر على جيرة البحيرة في كندا، كوّنت خلاله صداقات لطيفة مع منزّهي الكلاب في ممشى الغابة، وبجعات البحيرة المُقيمات والعابرات، وعصافير الماء، وأنواع السناجب الأربعة التي تتقافز فوق سياج الحديقة، والأرانب البرّية البيضاء والرمادية. 

شهر أزكمت فيه أنوف أناس لا أعرفهم ولا يعرفونني، بروائح مناقيش الزعتر، وشوربة العدس، وتقلايات الثوم والكزبرة، وكم مرّة وأنا أعدّها، نظرت من شبّاك مطبخي فلمحت أرواحاً مسحورة تنتظر دعوتي! وهل الإنسان سوى مجموعة روائح ومذاقات ولمسات ومشاهد وأصوات، وجعلنا لها جسداً يمشي فيه بين البلاد؟

شهر بأيّامه ولياليه، كنت شاهدة فيه كيف تخلع المدينة كسوة الشتاء وترتدي كسوة الربيع، وراقبت كيف يُبدع الدفء في رسم عناصر الغابة، بألوانها وأضوائها وأصواتها، بعدما عرّاها الصقيع وتركها هياكل عظميّة مرعبة. الربيع هنا خيّاطة الفصول الماهرة، يطرّز فساتين الغابة بإبرته السحرية، يستغلّ عُري الشجرات في الشتاء ليأخذ مقاساتها، ثم يخيط لكلّ شجرة ثوبها ولونها في أيّام معدودة، ومع كلّ طلعة شمس يعلن افتتاح عرض أزياء جديد، ويسري هذا السحر على الزهور البرّية، وأعواد القصب عند حافّة البحيرة، وورود الأحواض على الشرفات.

ثلاثون يوماً بالتمام والكمال، لم أشعر فيها بالغربة ولا بالألفة، بقيت واقفة حيث أُجيد الوقوف دائماً، في المنطقة الرمادية، على الحياد من كلّ شيء، أقفز بين عقارب الوقت، وأركض عكس الاتجاهات، زلقة خاوية مثل كرة المطّاط، إن وقعت في الماء لا تغرق، وإن اصطدمت بجدار لا تنكسر.

جلست مع نفسي كثيراً وطويلاً، وحكينا في ثلاثين يوماً عن خمسين سنة، راجعنا ما مرّ علينا من تجارب أليمة، توقّفنا قليلاً عند التجارب السعيدة؛ لا بأس أن يأخذ سيزيف نفساً عميقاً وهو يصعد الجبل. فاجأتني نفسي بحكمتها بل أدهشتني، فهي تدرك أنها عاجزة ولا تكتئب، ولا تيأس من المحاولة على رغم أن لا قدرة لها على تغيير شيء، وتعرف أن الظلم ثرثار لذلك تواجهه بالصمت! ووجدت خلال مكاشفاتنا أن نفسي مرآة تحتويني ولا أضيع فيها، حين تحاول ملء وقتي لئلا يتّسع فراغي، وحين تمنحني شعوراً بالوجود من دون أن تدفعني إلى تقمّص وجه آخر، وتذكّرت كم ساعدتني على تقبّل الألم، ودرّبت قلبي على الحبّ.

في الصباحات الثلاثين المتوالية، حللت ألغازاً كثيرة كانت مستعصية عليّ قبل جيرتي البحيرة، اكتشفت أن كلّ السكاكين التي اقتنيتها في مطبخي لم تساعدني على تقطيع الوقت، الوقت هو الذي قطعني، واكتشفت أيضاً وأنا أعدّ قهوتي الصباحية أن أيّامي أكثر مرارة من طعم البن، وأن كلّ سكّر الدنيا لا يحلّي الأقدار، وأن الأشياء التي نفقدها نفقد معها الرغبة في استرجاعها، وأن حياتنا عالقة في ثلاث دوائر: دائرة الأحلام، دائرة التوقّعات، دائرة الأحداث…

ثلاثون شروقاً وثلاثون غروباً، رأيت في الوقت المستقطع بينهما، عدداً لا يُحصى من الأرانب والعصافير والأسماك والبجع والقنادس وأنواع السناجب الأربعة، والكلّ في حالة استرخاء، لا أحد في عجلة من أمره، كلّ واحد يؤدّي الدورالذي حفظه من دون أي خطأ، في سلسلة مشاهد طبيعية مرسومة بدقّة، معدّة بعناية فائقة، بالوتيرة والهدوء والرتابة نفسها، الشيء الوحيد النافر فيها هو أنا، ومنشر الغسيل الذي نصبته تحت الشمس، وشتلة النعناع التي حملتها معي، وقشور الفواكه والخضار التي أرميها في زاوية الحديقة لأستدرج الأرانب وأنواع السناجب الأربعة لصداقتي، وصوت فيروز في الصباح يصل إلى الطرف الآخر للبحيرة… 

هل يقتل التكرار الدهشة؟ هل تُصاب البحيرة بالضجر؟ هل تملّ خلائقها من الأمان؟ هذه البهجات بحاجة إلى تصفيق، إلى احتفال، إلى الكثير من الفوضى الخلّاقة لتصبح حياة. الخيال يتغلّب على الواقع: تذكّرت حين حوّل بضعة أطفال سوريين بركة الماء في ساحة سمير قصير يوماً إلى كائن حيّ، وناديتهم في سرّي: “تعالوا اقفزوا هنا، هذه البركة تكاد تموت من الوحدة، هذه البركة تحلم بأقدام صغيرة تحرّك صفحتها الجامدة”.

ثلاثون يوماً وليلة تُضاف إلى عشرين شهراً مضى، وأنا أحمل غزّة في قلبي وضميري، كذنب لم أرتكبه ويعذّبني، كحزن عتيق لا يفارقني. الطفل الذي رماه الانفجار إلى سطح المبنى المقابل، وجهه الجميل أمام عينيّ حتى حين أُغلقهما، يرافقني في منامي وفي صحوي، أراه فوق كلّ السطوح يلوّح لي بيده، أسمعه يقول لي:”خذيني إلى الأمان”، فأنثني على قلبي من الحزن، أحسّه سيخرج من صدري.

الواقع يتغلّب على الخيال: طفل يسيح الدم من رأسه، يغطّي وجهه، مصاب لا يقوى على الحركة، يده فقط التي تتحرّك، يطلب بها النجاة، خائف، يبكي، محاط بجثث عائلته، والده ممدّد خلفه، أخته مقطوعة إلى نصفين، وأشلاء متناثرة من حوله، كان ينبغي أن يطلّ من على السطح حاملاً بيده طائرة من ورق وخيطان، وهو يغنّي: “وينساني الزمان على سطح الجيران”.

قبل أن أبتعد، كنت أواسي قلبي بأني مثلهم في دائرة الخطر، بأن نجاتي كلّ يوم أصحو فيه بعد ليلة قصف واستهدافات مرعبة، نصيبي من مأساتهم الطويلة. هنا انقلبت عليّ مشاعري، نصب لي قلبي محكمة مفتوحة: لا تأكلي إنهم جائعون، لا تنامي القصف مستمرّ، الدفء خيانة إنهم يرتجفون من البرد، لا تفرحي بشيء، أبواب الحزن هناك مشرّعة على مصارعها! أحلام كثيرة تراودني، وأمنيات مستحيلة، لو أن بلادنا الجميلة تعيش بعض هذا الهدوء، لو أن أطفالنا ينعمون بالقليل من هذا الأمان.

جئت بينما كان الذبح يلاحق العلويين في الساحل السوري، وصلت والسكّين قد غُرزت في قلوب الدروز، حديث الأقلّيات يطغى على كلّ الأحاديث، ماذا نفعل؟ أين نذهب؟ من يحمي وجودنا؟ هنا الأقلّية هم سكّان البلاد الأصليون، الذين أبادهم الرجل الأبيض في غزواته الدموية. لا أدري كيف استطاعوا بناء حياة جديدة مع ذاكرة مثقلة بالوجع إلى هذا الحدّ؟ كيف يعيشون وبلادهم تحتلّها كلّ شعوب العالم؟ بلاد لا هوّية لها ولا ثقافة ولا تاريخ، سوى ما كتبه الغزاة! الحكومة تمنحهم كلّ شيء بسخاء، وتقدّم لهم كلّ الخدمات مجاناً، لهم بيوتهم وتجمّعاتهم وأشغالهم ومجتمعاتهم، ومن يريد أن يشتغل في الشأن العامّ منهم فله الأفضلية، لكنّهم أقلّية غير مؤثّرة، قلّة عددية بوجع كبير، وذاكرة ملأى بالصور المرعبة، ووجوه محايدة وعيون تهرب من النظر…

هل هذا ما يعدّه لنا الغزاة الجدد في بلادنا؟ أن يحوّلونا إلى أيقونات في متاحف يشيّدونها لنا، بعد أن يُبقوا على عدد قليل من عرقنا للذكرى أو للعبرة؟ ثم يبالغون في خدمتنا حين تستيقظ إنسانيتهم لاحقاً، ليس من منطلق الندم إنما من موقع السيطرة، حافظ على وجودك بالسكوت، إذا اعترضت فالإبادة بانتظارك!

اليوم الثلاثون… بعيدة ووحيدة وحزينة، ليس برفقتي سوى ذنب النجاة، يقتلني الإحساس بالأمان، أردّد ما قاله الجواهري: “أنا عندي من الأسى جبلُ/ يتمشّى معي وينتقلُ”.