لا تزال رهبة الساعات الأولى تلك تلاحقني في صحوتي ومنامي، فمن مثلي، (وربما كل السوريين)، لا يتقنُ اعتياد أحداثٍ نظيرة لسقوط نظام عمَّر على قلوب السوريين دهراً؛ فأن تصحو على فجر دمشقي حرّ ونقيّ من آخر آثار آل الأسد وإجرامهم، كانت أمنية ظننت تحقيقها ضرباً من ضروب الخيال.
فرارُ الساقط لم يكن نهاية للحقبة الأكثر ظلماً وظلاماً في سوريا فحسب، بل هو انهيار لرمز البطش الأشد تأثيراً وصخباً في تاريخ المنطقة الحديث، ولربّما في تاريخ العالم الحديث برمّته، وهو الطغيان الذي -لشدّة شططه- ظننّاه ماكثاً “إلى الأبد”، وكأنه كابوس متجدّد لا ينتهي. اثنا عشر يوماً كانت كفيلة بانتهاء الأبد ودخول التاريخ، نهاية تركت إرثاً ثقيلاً من الدماء والدمار والفساد.
والآن بعد شهر من “السقوط”، تبدو ذكريات وأحداث تلك الليلة من أكثر ما يستعيده السوريون في محاولة لاستيعاب ما جرى، أو ربّما ليؤكّدوا لأنفسهم أنَّ ما حصل كان حقيقة لا تقبل الشكّ، وهو ما أنا بصدده أيضاً .
سقوط قبل السقوط
كانت الساعات الـ24 السابقة على سقوط النظام البائد شاهدةً على تغيّر جذري بالمشهد العام في مختلف محافظات البلاد ولا سيما دمشق وريفها، إذ أماطت هذه الساعات اللثام عن التماسك والسيطرة الوهميين اللذين حاول الأسد تصديرهما عبر أبواقه الإعلامية منذ انطلاق عملية “ردع العدوان” في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر من ريف إدلب.
ساعات كانت كفيلة بفضح الانهيار المعنوي لجنود النظام والسذاجة العسكرية لقياداته، لتنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصوّرة لجنود الجيش السوري وهم يخلعون ملابسهم العسكرية ويرمون سلاحهم وعتادهم في الطرقات متخلّين عن قائد لطالما خذلهم وحرمهم العيش الهانئ تحت ذريعة “حماية الوطن”.
مهَّد انطلاق عمليات عسكرية من الجنوب بالتوازي مع عملية “ردع العدوان”، الطريق لأهالي ريف دمشق ليلحقوا بركب التحرير، فخرج أهالي المعضميّة وداريا وجرمانا وغيرهم لإسقاط النظام في ساحاتهم العامة، وأطاحوا بتماثيل رموزه ومزّقوا صور “القائد” الفار.
ولحسن الحظّ، كنت شاهدةً على التظاهرة التاريخية لأهالي مدينة جرمانا وسط ساحة الكرامة (الرئيس سابقاً)؛ حيث أسقط المتظاهرون التمثال الرأسي لحافظ الأسد قبل 13 ساعة تقريباً من إعلان المعارضة المسلّحة عن سقوط النظام وفرار الأسد من البلاد.
كان المشهد هناك مهولاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، سرت القشعريرة في جسدي من رأسي حتى أخمص قدميّ، أطلتُ الشرود بالمتظاهرين وهم ينزعون رأس طاغية قضّت أفاعيله مضجعهم لسنوات وسنوات، تدافع الكبار والصغار لإسقاط التمثال وجرّه إلى مركز الساحة، سمعت أحدهم يصيح: “جرّوه.. اشحطوه عالساحة” وآخر يقول وهو يدوس صلعته: “هي من حازم يا واطي…”.
في هذه الأثناء كانت قدمي تحاول أن تطاوله، إلّا أنّ المسافة بيننا لم تكن فقط عشرات الشبّان، بل في ما يبدو كانت روح “حازم” وآلاف من رفاقه بين مختفٍ ومقتول ومشرّد قسرياً.
يوم لن أنساه ما حييت، يوم أعطى لحياتي في بلاد الأشياء الأخيرة معناها الحقيقيّ.
بعد 53 عاماً من “الله يفرّج” إلى “فرّج الله” حقاً!
عند الخامسة فجراً، رنَّ هاتفي، فتحت الخطّ ليصدر صوت صديقي باكياً: “سقط النظام.. لك سقطط.. جهزي حالك”، لطالما حلمت بهذه اللحظة، لحظة رسمت ورفاقي تفاصيلها بكلّ دقّة وخطّطنا لكلّ تحرّك في حال حدوثها، ولكن هول الحدث وجلاله قد لاشى كلّ تلك المخطّطات وانفتحَ على عشوائية محبّبة لن ننساها.
نزلت إلى الشارع في غضون دقائق، جميع من حولي كانوا مثلي في ثياب نومهم؛ اختلطت دموعهم بالتكبيرات، واتجهنا على الفور إلى ساحة الأمويين، وعلى جانبي الطرقات كان جنود النظام السابق يخلعون بدلاتهم ويستجدون السيّارات أن تقلّهم من مقرّاتهم العسكرية والأمنية، وصلنا إلى ساحة الأمويين عند السادسة صباحاً؛ فصمَّ آذاننا أزيز الرصاص المتدفّق. في هذه اللحظة، وفي هذه اللحظة فقط، تيقّنت بأنّ الأبد قد سقط “كلّه”.
أمعنَ السوريون حينها في إذلال تماثيل “الخالد” التي نصبها النظام في كلّ ساحة ومبنى حكومي تأبيداً للقهر، رأيت الشباب والشيب يتزاحمون لإسقاطه، وكلّما عاندهم الحجر الأصم زاد إصرارهم فعاجلوه بأداة جديدة.
بعضهم أسقطه ضرباً بالعصي على مؤخّرته، وبعضهم الآخر جلده بحزام بنطاله مع وابل من الأحذية المنهمرة على وجهه مقطَّب الحاجبين؛ وهو ما يفسّر مشهد المتظاهرين الذين يسيرون حفاةً في الأمويين صباح ذلك اليوم، فيما تبوّل بعضهم على بقايا حجارته.
تفنّنٌ في التحقير من رموز جعلت من كلّ مظهر للحرّية في البلاد خطيئة كبرى؛ صور وأصنام سُحقت تحت الأرجل معلنةً النهاية؛ نهاية رجال جعلوا من أنفسهم أنصاف آلهة تحيي وتميت بسلطة مغتصبة، فحوّل الناس رؤوس أصنامهم إلى “زحليقة” لأطفالهم، أو حتى قاذورات تُرمى في النفايات.
فوضى “الإنسان المقهور”
بعد ساعات من سقوط الطاغية، انتشرت مظاهر الفوضى في أرجاء العاصمة؛ سيارات تحترق، وآليات متروكة مشرّعة الأبواب لعناصر فرّوا يلوذون بحياتهم وأسلحة مرمية على الطرقات، ممتلكات أقرباء الأسد وحاشيته في دمشق تُخرَّب وتُنهب في وضح النهار، وقصر الشعب -الذي لم يعرف الشعب له طريقاً طيلة 5 عقود- قد اقتحمه الأهالي إلى جانب قصور الأسد الأخرى، التي سرعان ما أصبحت بازاراً للتبضّع، وموقعاً لتسويق المنتجات، ومنتزهاً ترفيهياً.
مشاهد مألوفة لمن واكب ثورات الشعوب عبر التاريخ واطّلع على سيروراتها، وربّما المثال الأقرب إلى الذاكرة هو اقتحام الشعب السيرلانكي القصور والمقار الرسمية للحكام في عام 2022، وتحويلها إلى منتزهات، ومسابح عمومية، وأسواق مجّانية للمتسوّقين.
ولربّما هو مثال من مئات الأمثلة لفوضى أحدثتها الشعوب عقب تحرّرها من أنظمة شمولية واستبدادية لم تفهم الإنسان، فظنّته خائفاً أبداً، ليفاجئها بعد حين بفطرة لا تقبل الذلّ والهوان.
وهي طبيعة “الإنسان المقهور” حسب مصطلح مصطفى حجازي، الإنسان الذي وإن لم يثر فوراً على قاهريه إلّا أنه لا يلبث أن يستغلّ اللحظة المناسبة ليفجّر غضبه فيهم، وينتقل من حالة الاستكانة إلى حالة الثورة الحتمية كما يشير حجازي.
فالإنسان المقهور “يستطيع أن يعيش من دون خبز، ولكنه يفقد كيانه الإنساني إذا فقد كرامته وظلَّ عارياً أمام عاره. تلك هي النقطة التي تنهار معها الطاقة على احتمال مأساة القهر والبؤس”، وهو ما حلّ بالسوريين عام 2011 عندما خرجوا من كلّ محافظات البلاد يهتفون للحرّية بصوت واحد، وواجهتهم واحدة من أقسى آلات القمع التي عرفها التاريخ.
وبالعودة إلى أحداث اقتحام القصر، فإن مبالغة السوريين في التعامل مع مقتنياته ليست من باب المصادفة، وقد لا يكون الهدف من أخذ الصحون والمأكولات وصور الأسد الكلسونية هو قيمتها المادية، وإنما السخرية المعادلة للغضب من هذا الفارّ، ومحاولة جادّة لتفكيك صورته الرمزية، وتحويله إلى مهرّج أبله في الذاكرة الجمعيّة للسوريين.
وبتعبير حجازي، “الإنسان المقهور متربّص دائماً للمتسلّط كي ينال منه كلما استطاع، وبالأسلوب الذي تسمح به الظروف”.
إقرأوا أيضاً: