في أحد أيام عام 1948، لا يُذكر تاريخ اليوم تحديداً وفق ما كانت الرواية، خرجت طفلة بعمر الست سنوات على كتف والدها من قرية اسمها (بربرة) قضاء غزة، ولجأت مع عائلتها إلى مدينة غزة، وتحديداً الى أحد المخيمات فيها. بعدها بعشرين سنة، مات والدها.
وفق تأريخ القرية، سقطت الأخيرة في يد الاحتلال وعصاباته بين في 4 أو 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948، وذلك بعد سقوط المجدل، إحدى المدن المركزية، وطرد سكانها على مدار العملية وهُجروا منها.
أما وفق الرواية، وراويتها (ٍستي) لأمي بأنها خرجت يوماً على كتف أبيها من قريتها تلك، وانتظرت أن تعود مرة أخرى على الكتف الآخر لكنها كبرت بما يكفي بأن تصير ثقيلة على كتف أبيها. وصلت الى الثمانين ونيف من عمرها وماتت في شباط/ فبراير 2023 في بيتها بمدينة غزة. من هناك على سريرها التي كانت تجلس عليه غالبية الوقت في أواخر أيامها، تذكر جملة وفق سياق الرواية (بكرا، بس نرجع) وتعيد الرواية مراراً “خرجت على كتف أبوي، ما بتذكر كيف كان الجو إن كان صيف أو شتا”.
كل ما تذكره أن كتف أبيها كان مصدر أمانها الوحيد آنذاك، وتروي عن القرية كمن عاش تفاصيلها، فهي تعرف المسجد وتاريخ بنائه، ومواقع توزيع العائلات والحمولة في القرية، وبعض مساحة الأراضي.
ما زال في ذاكرتي مشهد تلقّفها كتاباً يحكي تاريخ القرية كي تتحقق من صدق معلومات الكتاب وفق روايتها، وما إذا ذكر الكتاب أحد أعمامها الشيخ الأزهري في القرية آنذاك، وحمولتها وشجرة العائلة، وتتبع الأسماء. ست سنوات فقط، تذكر مساحة البيت، وحال الشجرة فيه، ودالية العنب في ساحته. حكاية مروية وفق ذاكرة طفلة عمرها ست سنوات صدقناها وانتظرنا معها حفيدات وأحفاداً، فعل (العودة) وشهادة (بكرا) لنتحقق جميعاً من صدق معلوماتها تلك.
ماتت ستي، آخر من تبقى من جيل وامتداد العائلة المهجرة هذه، وأورثتنا حكايتها المنتظرة النهاية.
في أحد أيام شتاء عام 1967 خرج رجل ستيني من غزة نحو الأردن باحثاً عن بقية العائلة التي طاولها الشتات، بترت حربا عامَي 1948 و1967 الأمل بالعودة، وتاهت العائلة وجذورها وامتداداتها بين حدود الهجرة والنكسة ووعود التحرير وانتظار العودة التي انتكست فيها الآمال بأن يعاد جمع شمل العائلة مجدداً. هناك بترت قدمه اليمنى قرب الحدود الفلسطينية – الأردنية تحديداً غرب نهر الأردن. وأعيد نحو الأردن لتلقي العلاج بعدما اطمأن لأماكن وجود العائلة وبقايا امتدادها هناك، التي هجرتها حربان خلال عشرين عاما.
حدثت معركة الكرامة في آذار/ مارس 1968، ونتيجة محاولته العبور نحو فلسطين انفجر لغم بالقرب منه، ففقد قدمه اليمنى، ثم عاد نحو غزة بعجز في جسده وروحه بأنه التقى ببقية العائلة لكن في بلاد غير تلك التي عرفوها، عائلة ضاعت في شتات البلاد المحيطة ومات عام 1993 بالقرب من شمال غزة في منزله وعلى سريره الذي شهد حكاية الشتات.
كان هذا جدّي لأبي، خرج تاركاً زوجة وخمسة أبناء آنذاك في مجينة لكنه عاد يحمل عجزه الذي امتد حتى مات. وفي نهاية الرواية يقول “بكرا بتتلاقوا” بعدما سبق ذلك شرحاً عن امتداد العائلة في مخيمات الشتات واللجوء.
في دير البلح وسط قطاع غزة، وفي أحد صباحات الحرب على غزة، أقف قرب الشباك الشمالي أرمم بشاعة ذاكرة الحرب بذاكرة عن البيت والمدينة وصور اللقاءات مع الأصدقاء، منهم الشهداء ومنهم من بترت الحرب الطريق إليهم، أحاول أن أمرن ذاكرتي على عدم النسيان وعلى التقاط ما يعين ذاكرتي على تجاوز البشاعة التي تحدث.
أخرجتني الحرب من مدينة غزة منذ نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بعدما أفقدتني البيت ولم يبق لي حائط واحد في المدينة أتّكئ عليه. الفارق بيني وبين ستي أنني كنت سيدة بالغة تحمل حقائبها وخوفها في يدي أبي، خرجنا نحو غرب المدينة واستمرت بعدها رحلة الشقاء في النزوح. في لحظة انغماسي بالذاكرة والذكريات، دخل ابن أخي يشاكسني وعمره سنتين ونصف السنة، حتى الآن يقول بلغة غير مفهومة لكنها واضحة تغرس في النفس أثراً موجعاً فوق وجع التأويل وبشاعة الخروج من الذاكرة وانتزاع صورة المكان وأيام القتل المتواصلة.
(لما كنا بغزة) وجملة أخرى (بكرا بس نروح غزة)، نزح هذا الطفل بعمر السنة ونصف السنة، في حضن والدته ووالده نحو رفح، ثم خانيونس في خيمة، ثم أعاد رحلة النزوح نحو دير البلح واستقر معي منذ تشرين الأول 2024 ويروي مجموعة من الجمل غير المفهومة أو غير المترابطة في أحداثها، لكنها تظهر أثر التعبئة الجماهيرية التي يعايشها طفل بعمره
(لما كنا بغزة، ما كان في خيمة)
(كان في بيت كبير)
(بكرا بدنا نروح)
هناك؟!
وين هناك؟!
غزة!
جمل غير مرتبة، غير منطقية، لذاكرة طفل بعمر السنتين ونصف السنة، وهو الذي خرج أو أخرجته الحرب من البيت والمدينة قسرياً بعمر السنة ونصف السنة، ما زال يتعلم خطواته الأولى وجرب الفطام في أوقات خلت الأسواق من بدائل حليب الأم، لكنه يقف أمامي الآن قبالة الشباك الشمالي في البيت المؤقت بدير البلح التي تبعد عن المدينة – غزة – 14 كيلومتراً. ويقول:
بكرا، بدنا نرجع على غزة. بلثغة بحرفي الزاي والكاف.
نحن الاثنين سلالة نسل ممتد لستي وسيدي، عائلة فلسطينية هُجر أحد أطرافها عام 1948، ونسل محاولة سيدي للبحث في بقايا العائلة ببلاد الشتات والهجرة وفقدان أمل.
نحن، جيل بعد جيل ممتد منذ عام 1948 حتى كانون الثاني/ يناير 2025 ورثة فعلي الذاكرة والمستقبل بين (كنا) و (بكرا)، إذ ندخل في الجيل الرابع الممتد لأثر النكبة ولدينا سؤال واحد ومكرر وممتد ربما كان واسعاً قبل تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لكنه اليوم صار أضيق أملاً (حدوث فعل العودة لغزة المدينة).
في ظل الحرب وفعل النزوح الذي سبب الاحتلال فيها تهجير حوالى مليون غزي من المدينة وشمالها نحو جنوب الوادي، بل لاحقت حتى ظروف نزوحه وضغطت الجنوب بين نازحين ومقيمين في مساحة أقل ما يقال فيها أنها لا تفي حاجة الآدمية آدميتها.
وفق علم (Epigenetics)، علم ما فوق الجينات، أن الموروث الجيني يصل حد الأثر الصحي والجسدي. أما وفق الحالة الفلسطينية فيبدو السؤال قدراً جينياً متوارثاً بشكل صادم، يقدم العلم في أساسه على دراسة التأثر الجيني وفق الظروف المحيطة، وخصوصاً تأثر الجينات بالتروما والأمراض، وفق تسلسل DNA، ليبدو السؤال الفلسطيني هنا نمطاً ظاهرياً وراثياً.
تدور في فعل (بكرا) دلائل بشأن ذلك تظهر في تتبّع العلم أثر الحرب الأهلية الأميركية، زاد معدل الوفيات بنسبة 11 في المئة لأحفاد الأجداد الأسرى في الحرب آنذاك، رغم تغيّر الظروف الاجتماعية ووجودهم في ظروف اجتماعية أفضل، أو كما حدث في تتبع نسل الأجداد الذين عاصروا المجاعة الهولندية التي حدثث أثناء حصار ألمانيا لهولندا في الحرب العالمية الثانية، حيث وصل استهلاك الفرد من الغذاء نسبة 500 سعرة حرارية في اليوم الواحد، أنتج ذلك آثاراً مرضية على الجيل الثاني من تلك الجينات عانوا من أمراض سوء تغذية وأمراض نفسية مثل انفصام الشخصية والتوحد.
في الحالة الفلسطينية، يمارس الاحتلال الأفعال والسياسات النازية ذاتها، تلك التي زادت في تغوّلها أكثر في حرب غزة من فرض سياسة تجويع عبر تحديد نوع السلع التي يتم إدخالها في ظل حرب مستمرة منذ 15 شهراً.
وصولاً إلى فرض حالة نزوح وتهجير ومنع وبتر عائلي للامتدادت العائلية، وهي السياسة المتبعة منذ نشأة الاحتلال لتدخل سلوكاً جديداً في سلوكيات الجيل الرابع الذي يشهد على النكبة الفلسطينية المستمرة وتهجير وملاحقة وقصف وقتل مشاع وغير مبرر لتخلق مساحة جديدة من الجينات في السلوك الموروث عن ستي، والتي تأصلت في ذاكرة المكان وعلاقتي به، وبتر الاحتلال طريق العودة وصار الأمل بعيداً في ظل استمرار القتل والتفاوض على القتل.
يكوّن ذلك حالة من السلوك الرافض بداخلي أيضاً استبدال ذاكرتي عن الأشياء والمكان بذاكرة جديدة لأيام النزوح، وذاك ما حدث لستي التي كانت ترفض الاعتراف بمنزلها بالمدينة وتذكر منزل القرية على الدوام.
وحالة الحلم الممتد الموروثة الآن في ذهن ابن أخي الذي ورثها عن جدي بمحاولة العودة وجمع الشمل (بكرا بس نرجع، بدي أعمل بيت) كأمل حقيقي بقرب نجاح المفاوضات وانتهاء الحرب، لكن يبدو شكل العودة عاجزاً، بذاك العجز الذي عاد به جدي آنذاك.
حين مسحت كل ملامح الأماكن!
لكن أملاً بأن يحدث فعل العودة المتخيل ربما اختبرته كشاهد متناسل وفق خيال غسان كنفاني في رواية عائد إلى حيفا وكيف صنع من سعيد وصفية مساراً متخيلاً لفهم العودة المرتبك أمام مسح ذاكرتنا مع المكان.
“إنني أعرف حيفا، لكنها تنكرني، وهذه الـ “لكن” المميتة والرهيبة والدامية” ربما تغيرت حيفا وفق خيال كنفاني بأنها استبدلت بملامح أخرى، وهو الفعل ذاته الذي يمارس الآن بغزة، ولكن بآلة أشد توحشاً، مسح وهدم كل ما تبقى من ملامح المدينة عبر استقدام شركات هدم. لتظهر المدينة وكأنها تنكرنا وننكرها. لينمو شعور الندم، ندم الترك، وندم العودة إلى مستقبل اللاشيء.
يظهر الفعل الموروث هذا أشبه بحالة من الحلم المتخيل عن فعل العودة ومظاهر العودة المرتبكة، نجربها كأجيال عبر خيالات رواية، وعبر شهود على العودة اللبناني في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، والسوري في كانون الأول/ ديسمبر 2024 لينبت الشعور مجدداً لجيل يحاول فهم الشعور وتصديق رواية سابقة وصولاً لأمنيات بأن يحدث الفعل هذا ولو إلى دمار ركام، أن يجرب الجيل المتمثل في الأبناء الآن شعور العودة الموروث المتخيل لانتشال الذاكرة من الاندثار لموروث السؤال الفلسطيني الأول:
متى نعود؟!
بكرا!
شو تأخر بكرا!
إقرأوا أيضاً: