في شباط/ فبراير 2024، استطاعت أختي التي لم تنزح من الشمال نحو الجنوب، الوصول إلى منطقة سكناي (السودانية) حيث البيت، أو البيت الذي صار جثة منذ تشرين الأول/ 2023. بعد تراجع آليات الاحتلال عن المنطقة، وصلت هناك ومن تحت الركام، انتشلت بعض الأشياء؛ وأستبدلها بالأشلاء، فكل ما كان في البيت وللبيت هو روح مثلنا تماماً، ومن المؤكد أنها صارت أشلاء تقطعت وتناثرت في ساحات الغرف والصالون وحديقة البيت، ومنها صارت أشلاء في شارع البيت، تقلبها الحيوانات في طريق مرورها على الجثث، ربما منها ما ذاب تحت حمم الاشتعال والانفجار، ومنها ما سُحق من أثر ارتطام السقف بالسقف، لا أستطيع أن أتجاوز تلك الصورة التي تقفز في ذهني، كلما جاءت سيرة البيت ـ الجثة.
هناك من تحت ركامه، انتشلت أختي بعض الأشلاء: قميص لابن أخي، حذاء لآخر، بيجاما لأخرى، براد الشاي ذو الحجم العائلي، فناجين شاي، ملاعق، صحون، بعض الملابس الممزقة الأكمام، والأواني المشوهة الملامح، لكنها على أية حال، مهما كان مظهرها فهي من ذاكرة البيت، من ريحة البيت!
هكذا قال الأولاد حين اجتمعوا لحظة استقبال الأشلاء المهربة، في منتصف نيسان/ إبريل 2024.
مهربة!
نعم تلك معجزة الفلسطيني بالتحايل على الممنوعات الإسرائيلية الكثيرة، نطف مهربة على رغم السجن! وأشلاء البيت على رغم قطع الطريق!
وصلت الأشلاء في كيسين، واحد أزرق وآخر أبيض، في رفح، هناك وضعتهما أمامي، أترقب موعداً يجبرني على أن أزيح الغطاء عن الأشلاء، كلما حاولت سماع صوت انفجار، أبتعد! وكلما حاولت الاقتراب أشعر بارتطام في داخلي يسقط، وصراخ يعلو في رأسي!
لا العائدين من الحرب، ولا من الحب، ولا من الموت، ولا حتى رحلات الصيد، ولا السفر، ولا من رحلات الوداع، ولا العائدين من الحزن والاغتراب، ورحلات البكاء الطويل والألم والانتظار، الجميع يعود بشظايا زجاج مكسور في روحه.
ظهر في إحدى محاولاتي مرة، صوت سقوط خزانات الماء عن السطح وانسياب الماء في الشارع كالدم! هذا كله يحدث كلما اقتربت، فيما الكل مجتمع متأهب للحصول على حصته من أشلائه الخاصة.
يتمتم ابن أخي الصغير: يا رب تكون كرتي!
وتناجي صغيرة قرب الكيس الأبيض تتفقد: يا رب ألواني!
وآخر: يا ريت يكون آخر شيء اشتريته في الأكياس (حذائي الجميل، من مصروفي استغليت فترة التنزيلات يومها)
وأخرى: فستاني، فستان عيد ميلادي!
الجميع يضع أمنيات في حجري، وأنا أتلقف هذا كله، وأحاول إطفاء حواسي عن كل ما يحدث من أصوات في رأسي وروحي الآن!!
صوت آخر جاء متمركزاً غارساً كرسيه في ثنايا رأسي، الذي بات يؤلمني، ماذا لو صارت كل الأمنيات هذه خيبات، ولم يجد الجميع ما تمنوه؟! غالباً سيصير الضجيج صوت صحراء! سيتضاعف شعور العزلة! لكن يظهر سؤال أشد قسوة في غرسه: ماذا عن حسرة أولئك الذين لم يجدوا ما تمنوه، أمام أولئك الذين وجدوا ما تمنوه؟!
يمشي هذا كله ويقف ويركض ويوجع ويلوح أمامي، فيما الأكياس ثابتة أمامي، لا نمتلك جرأة لأن نزيح الغطاء عن الأشلاء! لنمنحها فرصة الراحة.
لم؟! ربما كانت تشعر بخوف المرور من أمام الجندي والآليات عن الحاجز، لكنها مشتاقة! لو كانت مشتاقة كانت ستقفز من الأكياس نحونا! لنتركها ونتجهز لعتابها الذي ستقوله بعد حين!
مضت أيام والأكياس ثابتة في زاوية الغرفة (في رفح)، قطعت أكثر من 35 كيلومتراً بين الخوف والتوتر.
بعدها فتحت الأكياس، كنت قد اشترطت على أختي ألا تمسح أو تغسل شيئاً عن ملامح الأشلاء، إنه اعتذار صغير استباقي لعتبها أننا تركناها وحدها.
سأغسل عنها ملامح الغبار والركام والصراخ والخوف كاعتذار!
فتحت الكيس الأول، سقطت دمعة، فثار غبار من الكيس.
أجلت بكاء البيت شهوراً، إذ لم أمتلك شجاعة البكاء على جثّته الغائبة أمامي الآن، أجّلته إلى حين الوقوف أمامه هناك، تحت سماء حارتي القريبة من البحر.
سقطت دمعة أخرى فلمع طرف براد الشاي، تناولته من الكيس مسحت عنه الغبار، كمن يدعك الفانوس، دعكته فظهرت أمامي صورة من لمة البيت، اجتماع عائلي إيذاناً بموعد الشاي، أدعك الغبار عنه وأمسح أكثر، أريد صوراً عن البيت، وأداوي جروحاً أحدثها القصف في ذاكري، أليس هذا براد الشاي الذي كان يجمع الكل، على أن هذا مصنع “أزكى” شاي يمكن أن نشربه!
أريد أن يخرج هذا المشهد من احتكاك يدي بالبراد… أيقظني صوت أبي من وهمي حين قال: رح نشرب شاي من ريحة البيت! غسلت البراد بالماء، استعرت من صورتها المسكوبة عليه، صورة دمعي الذي يسقط على جسد (البراد) بين يدي!
ركض ابن أخي يشمشم قميصه ويلوح به أمامنا ويصرخ: يا الله! ريحة البيت! ريحة البلاد! ريحة البيت!
وبحسرة سألت صغيرة: لكن أين فستاني؟!
وقلت معها: لم يأتِ فستاني أنا أيضاً!
قالت: هناك تحت البيت يؤنسان بعضهما بعضاً!
نظرت إليها وقلت: ستنتهي الحرب، وسنجده!
قالت: سأكون كبرت على فستاني!
قلت لها بابتسامة المواساة: سيكون فستاني بانتظارك!
مسحت دمعة الحسرة، ومضت تشم أثر البيت في الأكياس.
وتوافق أخرى وتقول: آه، عنجد هاي هي ريحة البيت.
ترى ما هي ريحة البيت التي وجدها الجميع؟
وحين تعود الأشياء من رحلتها هل تعود كما كانت؟
في كانون الثاني/ يناير 2022، وجدت واحدة من جواربي المفقودة، ظننت يومها أن الغسالة التهمتها، يومها لم أعرف ما هي المصادفة التي حدثت كي أرى الحقيبة وأفتش فيها، إذ لا أبحث عن شيء ضاع مني أو أضعته، فقد ضاع مني الكثير من الأصدقاء، وأضعت من قالوا لي “حبيبتي” في بداية حديثهم، وأضعت أصابعي يوم جاع الندم، وضاع مني صوتي في الزحام لحظة وداع، وعاد وحده في أغنية. لم أبحث عن الجوارب، كانت باللونين (الرمادي والأزرق) تفوح منها رائحة الفانيلا، أعطتني إياها جدتي مرة حين عرفت أن أطراف أصابعي يقصها برد، يومها كانت تعد المعمول في يديها، رائحة الفانيلا، ومطيبات المعمول المميزة، وكلما ارتديت الجوارب تذكرت طعم المعمول ورائحة الفانيلا في يدي جدتي.
لقد صارت الجوارب بين يدي بعدما فقدتها فترة لا بأس بها، قرابة الشهرين الآن، كنت أحرص على أن يكون أول شيء أرتديه إذا جاء البرد، كي أطعم ذاكرتي معمول جدتي وأشبع ذاكرة أنفي برائحة الفانيلا، لحظة وجدت الجوارب ذات الفردة الواحدة لا طعم معمول في فمي، ولم تقفز رائحة فانيلا في روحي.
الأشلاء الآن أيضاً معنا في أكياس، أخرجت بعضاً منها نشتم فيها رائحة البيت، سنشرب الشاي بريحة البيت، الأشياء حين تعود بعد ضياع، لا تعود كما كانت، فهي بحاجة إلى هوية جديدة تصنعها لها هذه الأيام الآن.
لا العائدين من الحرب، ولا من الحب، ولا من الموت، ولا حتى رحلات الصيد، ولا السفر، ولا من رحلات الوداع، ولا العائدين من الحزن والاغتراب، ورحلات البكاء الطويل والألم والانتظار، الجميع يعود بشظايا زجاج مكسور في روحه.
حتى تلك الأكياس التي جاءت بعد خمسة شهور، الآن من رحلة انتظار تحت الركام، كلما اقتربت منها أو أخذت منها شيئاً، أشم فيها ريحة البيت، لكنني أمضغ معها زجاجاً مكسوراً في فمي!!
ترى ما هي ريحة البيت من دون هذا الوجع تحت أسناني الآن!
إقرأوا أيضاً: