في ذروة انقسام العالم إلى معسكرين، وفي ذروة الصراع الأيديولوجي السائد، في حينه، أطلق ماوتسي تونغ صيحته الشهيرة: “الإمبريالية الأميركية نمر من ورق”، وهو مجرد كلام شعاراتي دعائي، أي أنه ليس أيديولوجياً ولا مقرراً، أو مبحثاً، فلسفياً أو اقتصادياً أو سياسياً، كما قد يخيَّل للبعض.
وإذا كان يحق لماو، أو من المشروع له، وهو زعيم الثورة الصينية والشعب الصيني (أكبر شعوب العالم)، أن يتحدث على هذا النحو، في ذلك الزمن (1946)، أي قبل سبعة عقود، فإن التشبّث بما قاله، بعد اختبار مآلات مقولته، يبدو ضرباً من اللامعقول، والفصام عن الواقع، أو تعبيراً عن روح إرادية وقدرية لا تفيد بشيء، بل ربما تؤدي إلى مزيد من الكوارث.
وفي الواقع فإن الذي انهار، كما شهدنا، قبل قرابة ثلاثة عقود، هو المعسكر الاشتراكي، وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي، الذي انهار بالورق فعلاً، أي بوسائل الإعلام، وليس بالسلاح، ومن الداخل، وليس من الخارج، وذلك بحكم إخفاقه، إزاء شعبه، أمام النموذج الذي قدمه الغرب، في إدارة المجتمع وحريات المواطنين والنظام الديموقراطي وتطور العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد ومستوى المعيشة.
اقرأ أيضاً: مخيم اليرموك: “المقاومة” و”الممانعة” تدمّران عاصمة اللاجئين الفلسطينيين!
لكن الحديث عن الورق ما كان يمكن أن يصل، ولا في أي تصورات، إلى حد تخيّل نشوء وحدة عسكرية، تسمي نفسها “وحدة الطائرات الورقية”، في عصر الصواريخ الباليستية والارتجاجية والفراغية، والأسلحة الليزرية، ناهيك بالطائرات والدبابات والغواصات بالغة التفوق والمبرمجة إلكترونياً، أو التي تدار بالروبوت.
لكن ما لم يكن بالحسبان حصل، وفي غزة، التي تعتبر أكثر المناطق كثافة في العالم، إذ يعيش فيها مليونا فلسطيني في 360 كلم2، في منطقة تفتقد إلى الموارد الطبيعية، وتعاني الحصار منذ 12 عاماً، تعرضت في غضونها إلى ثلاثة حروب إسرائيلية مدمرة (2008 – 2012 – 2014)، علماً أنها تعتمد على إسرائيل، أي على عدوها، في مواردها من المواد التموينية والصيدلانية والعمرانية وكذلك بالنسبة إلى بناها التحتية (المياه والكهرباء والمحروقات)، فاعتمادها على إسرائيل.
متى ستتعلم بعض الفصائل أن المقاومة لا تكمن فقط في تأثيرها في العدو، وإنما تكمن، أيضاً، في حرمانه من الظهور بمثابة ضحية، وحرمانه من استخدام أقصى ما في حوزته من سلاح، والتمكن من الاستثمار السياسي للمقاومة، والحفاظ على سلامة المجتمع الذي تدعي المقاومة أنها تدافع عنه أو تناضل من أجل حقوقه؟
عدا هذه المفارقة، فإن حركة حماس، التي تسيطر على هذه المنطقة بطريقة أحادية واقصائية منذ 12 عاماً، لا تعرف ما الذي ستفعله في هذه البقعة، وبمليوني فلسطيني، فهي غير قادرة على الاستثمار في هيمنتها على غزة سياسياً، بحكم محدودية المكان، والحصار المفروض عليه، وهي لا تستطيع أن تستخدم قطاع غزة لتأكيد ممارستها الكفاح المسلح، ولم تعد تستطيع شن حرب صاروخية، للأثمان الباهظة لذلك، إذ إنها استجرت ثلاثة حروب، وعندما ذهبت إلى حفر الأنفاق، أو ما تسميه حرب الأنفاق، ظناً منها أنها تحاكي التجربة الفيتنامية، وجدت أن الأمر ليس بتلك السهولة، إذ تحولت تلك الانفاق إلى كارثة على حافريها او سالكيها، بفعل التفوق التقني الإسرائيلي. طبعاً لا ننسى هنا أن قيادة هذه الحركة ممثلة بخالد مشعل صرحت مرة بأن الكفاح الشعبي هو أحد أشكال النضال الفلسطيني، وأن هذه الحركة تبنت أخيراً مسيرات العودة، في محاولة منها لتمثل ذلك، إلا أنه بقي أمراً عارضاً، أو للاستهلاك، لا أكثر، وهو ما تبين عبر محاولاتها ركوب موجة مسيرات العودة، قبل ثلاثة أشهر (منذ 30 آذار/ مارس)، ثم بالتحول إلى وحدة الطائرات الورقية.
والفكرة من هذا العرض ملاحظة أن حركة حماس انتقلت من العمليات التفجيرية إلى وحدة الطائرات الورقية، مروراً بالحرب الصاروخية وحرب الانفاق والمقاومة الشعبية، وهي السيرة ذاتها التي حكت تجارب سابقة لفصائل فلسطينية، التي كانت نادت بحرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، وبحرب العصابات، ثم أقامت قواعد فدائية في الأردن والجولان ثم لبنان، ثم وجدت نفسها تقوم بخطف طائرات أو بواخر، أو تقوم بعمليات بواسطة طائرات شراعية، ثم تعلي من شأن الانتفاضة حيناً، والمقاومة الشعبية حيناً آخر، وتؤكد الكفاح الديبلوماسي والمفاوضة في أحيان كثيرة، من دون أن توقف حنينها الطوباوي، أو المتخيّل، إلى الكفاح المسلح.
واضح من كل ذلك أن محاولات تلك الفصائل، في تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني، وطولها أكثر من خمسة عقود، لم تكن تصدر عن ادراكات موضوعية وواقعية لطبيعة الصراع ضد إسرائيل، ولمكامن قوتها الذاتية والخارجية، ولا عن استراتيجية عسكرية واضحة، أي لم تكن تنبع من ظروف الفلسطينيين، وإمكاناتهم، وحدود قدراتهم، ولا سيما إمكان استثمار هذا الشكل او ذاك في إنجازات سياسية، ولا من وعي صحيح لإمكانات إسرائيل، ولدرجة ردود فعلها، وضمن ذلك قدرتها على امتصاص هذا الشكل أو ذاك وتحويله إلى عبء على أصحابه، ناهيك بتمتعها بفائض قوة غاية في الأهمية ينبع من تمتعها بدعم القوى الدولية الكبرى ورعايتها وضمانتها، وبخاصة الولايات المتحدة وأيضاً روسيا على ما نشهد هذه الأيام، لأمنها وتفوقها وسياساتها إزاء محيطها.
الطائرات الورقية الحارقة لا تفعل شيئاً يذكر لإسرائيل، ولا تغير من موازين القوى، مثلها مثل الصواريخ التي كانت تطلق من غزة، أما بخصوص أن هذا “السلاح” أو ذاك يشيع نوعاً من الخوف بين الإسرائيليين، من سكان غلاف غزة، فهذا لا يعني قلب المعادلات العسكرية، ولا يعني أن ثمة نوعاً من “توازع الرعب”، كما يدعّي أو يروّج البعض، عن دعاية أو عن سذاجة. إذ لا تفيد هذه “الأسلحة” إلا في التشويش على معاناة أهلنا في غزة الذين يقبعون تحت الحصار، بادعاء أنهم باتوا في منطقة محررة، وأنهم ينتجون صواريخ ودبابات وطائرات، وأنهم باتوا بمثابة جيش في مقابل جيش، فكل ذلك يسهل على إسرائيل الإمعان في قتل شبابهم وتدمير عمرانهم، وتشديد الحصار عليهم، وتنغيص عيشهم.
متى ستتعلم بعض الفصائل أن المقاومة لا تكمن فقط في تأثيرها في العدو، وإنما تكمن، أيضاً، في حرمانه من الظهور بمثابة ضحية، وحرمانه من استخدام أقصى ما في حوزته من سلاح، والتمكن من الاستثمار السياسي للمقاومة، والحفاظ على سلامة المجتمع الذي تدعي المقاومة أنها تدافع عنه أو تناضل من أجل حقوقه؟
اقرأ أيضاً: “تعفيش” مخيم اليرموك: حثالة الاستبداد…