fbpx

صراع العرش في الأردن: الاختناق الاقتصادي جذر التوتر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعتقد معظم المراقبين أنه لم تكن هناك مؤامرة خارجية حقيقية ولا وجود لمشروع انقلاب داخلي، بل كان الأردن يتصرف بدافع من حساسيته المفرطة تجاه الانتقادات المحلية وغضبه من التجاهل المتصاعد إقليمياً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

احتفل الأردن بالذكرى المئوية لتأسيسه على وقع تداعيات مؤامرة مزعومة لزعزعة  نظام الحكم في البلاد أو قلبه. 

بعيداً من العراضة السياسية التي شهدها مجلس الأمة، حيث وقع شجار بين النواب على خلفية الأحداث الأخيرة من دون التعمق حقيقة فيها، انشغلت وسائل إعلام غربية بوقائع ما حصل، بصفته إزعاجاً حقيقياً وإن لم يكن تهديداً وجودياً للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني. 

أتى الاحتفال بذكرى تأسيس الأردن بعد أسبوع اشتعلت فيه مواقع التواصل الاجتماعي وبخاصة من جانب الأطراف المحسوبة على المعارضة بالتعليقات على شرائط فيديو وصوت، مسربة للأمير حمزة،  المتهم الرئيسي بتزعم “الفتنة (التي) وُئدت” في مهدها، بحسب تعبير الملك، وبخاصة شريط صوت يقرّع فيه الأمير رئيس أركان الجيش بعدما طلب منه التوقف عن جولاته المحلية ولقاءاته العشائرية التي تتردد فيها انتقادات للحكومة، ويدعوه إلى التوقف عن التغريد على “تويتر”! 

انتقد موالون للقصر حمزة بدعوى أنه اشترط تولي قيادة الجيش والأجهزة الأمنية “ليتوقف عن الأنشطة المناوئة للحكم”، وأن المتأمرين من حوله كانوا يتحدثون عن “ساعة الصفر… ووقت التحرك”، وقال معلق مقرب للقصر إن خطاب تجديد للولاء أرسله حمزة للملك بعد وساطة عائلية قادها ولي العهد السابق الأمير حسن ليس كافياً، ويجب أن تُتخذ إجراءات أخرى، بينما أعلن مؤيد لحمزة على أحد غرف تطبيق “كلوب هاوس” البيعة للأمير حمزة الذي أُزيح من منصب ولي العهد عام 2004.

وبعد نحو الأسبوع من اشتعال الجدل الميلودرامي واعتقال حوالى 18 شخصاً من المحسوبين على الأمير حمزة أو المتهمين بالتورط في تلك المؤامرة المزعومة، وقف الملك، وبجواره ابنه وولي عهده الأمير الحسين، وحولهما كبار أمراء الأسرة المالكة، بما فيهم حمزة نفسه يقرأون الفاتحة على أرواح اسلافهم في المقبرة الهاشمية، احتفالاً بالذكرى المئوية لتأسيس الأردن.

من السهل والمريح تفسير ما حصل في الأردن على أنه صراعات قصر ومشاحنات قبائل، وهذه لا شك صراعات حقيقية ولكنها تؤثر في ملابسات ما حصل أكثر مما تفسره. عشرات القصص والإشاعات وغرف “كلوب هاوس”، تردد قصصاً قديمة، من غضب حمزة منذ إزاحته من منصبه، ومروراً برغبة الملك في تثبيت ابنه ولي العهد الحسين على العرش والتقاعد المبكر الذي يتطلب إزاحة قوية لأي منافسة محتملة، ونهاية بالمنافسة بين نساء القصر: نور زوجة الملك الراحل حسين وأم حمزة الغاضبة منذ تقليص دورها عام 2000 بعد وفاة الملك حسين، ورانيا زوجة الملك الحالي والتي ينتقدها بعض الأردنيين لأصلها الفلسطيني حيناً وتدخلها المزعوم في السياسة واكتناز النفوذ أحياناً أخرى. 

ولا شك في أن بعض ما حصل في الأردن مذ وجه اللواء يوسف الحنيطي تحذيره المهذب، الذي تسرب تسجيله، للأمير حمزة في الثالث من نيسان/ أبريل نيسان، له علاقة ما بهذا كله، ولكن الأردن يواجه أزمة أكبر وأعمق زادت حدتها مع وباء “كورونا” وصفقة القرن والتقارب الخليجي- الإسرائيلي. ومن أحد أهم مظاهر هذه الأزمة والتي تجلت في احتجاجات علنية متكررة في السنوات القليلة الماضية هو الامتعاض المتزايد بين قبائل شرق الأردن التي ترى أنها هي، لا المواطنون الأردنيون من أصل فلسطيني، من استقبلت الأمير عبد الله الأول ومكنته وقبلت حكم الأسرة الهاشمية، وترى أن لها حقوقاً وامتيازات باتت منتقصة مع تزايد العجز المالي المزمن للدولة وضعف قدرتها على مواصلة منح المخصصات المالية والوظائف الطيبة لأبناء العشائر كما في السابق. 

إقرأوا أيضاً:

هذه الأزمة اقتصادية في جذورها، إذ اعتمدت الدولة الأردنية منذ نشأتها وطوال معظم المئة عام المنصرمة على التحويلات المالية والاقتراض من اجل سد العجز الدائم في موازنتها. ولا يمكن فهم ما يحصل في البلاد من دون النظر إلى المصاعب الاقتصادية والمالية التي تواجهها عمّان، والتي تفاقمها ادعاءات لا تنتهي عن الفساد المؤسسي في العقود القليلة الماضية.

وفي سنوات البدايات، اعتمد الأردن على تحويلات منتظمة من بريطانيا، وفي عقود تالية تحولت الرعاية المالية إلى الولايات المتحدة ودول الخليج النفطية إضافة إلى الاستدانة المستمرة.

ويقول ديفيد شينكر، “كانت دائماً بارعة في جمع الأموال، ولكنها كانت أيضاً دولة مدنية معظم الوقت، إذ اعتادت الحصول على منح وقروض من دول الخليج، والعراق تحت حكم صدام حسين، والولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان”. ويشير شينكر الذي كان مساعداً لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترامب إلى أن “الولايات المتحدة تساهم حالياً في نحو 10 في المئة من ميزانية الأردن السنوية.”

عام 2016 على سبيل المثال، زودت الولايات المتحدة الأردن بمساعدات عسكرية واقتصادية زادت عن 1.6 مليار دولار. ووفقاً لمذكرة تفاهم موقعة عام 2018، يتلقى الأردن نحو 1.3 مليار دولار سنوياً من الولايات المتحدة من أجل دعم الموازنة وتمويل برامج عسكرية مشتركة ومشتروات أسلحة أميركية. ولكن في ميزانية إدارة ترامب الراحلة للسنة المالية 2020/ 2021، كان هناك تخفيض مقترح بواقع 30 في المئة في هذه المساعدات وهو تخفيض مؤلم لبلد تصل موازنته السنوية لنحو 11 مليار دولار فقط، ولحسن حظ الأردن ألغى الكونغرس الأميركي هذه التخفيضات ربما تحت ضغط إسرائيلي وجهات أخرى مهتمة باستقرار الأردن ومساعدته في تحمل مسؤولياته، وبخاصة مع عبء وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في البلاد. 

وحتى قبل صفقة القرن وما صاحبها من تطبيع إماراتي- إسرائيلي وما سبقها من تباعد سعودي- أردني كان هناك انخفاض كبير في الدعم المالي الخليجي، دفع الأردن إلي عقد اتفاقات قروض مع صندوق النقد الدولي والاستمرار في مساعٍ لتخفيض الإنفاق العام وبخاصة على بنود مثل رواتب موظفي الدولة. وألهبت هذه التخفيضات والمزاعم المستمرة عن الفساد بين مستويات عليا من المسؤولين، مشاعر قطاعات واسعة من الأردنيين في أحد أغلى بلدان المنطقة في ما يتعلق بتكاليف المعيشة. وأظهر استطلاع رأي قام به مركز “الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية”، ومقره عمان في أواخر عام 2016، أن 57 في المئة من الأردنيين يعتقدون أن الاقتصاد في حالة صعبة، بينما توقع 85 في المئة من المشاركين أن الأوضاع ستسوء أو لن تتحسن في المستقبل. 

وليست هذه التوقعات ببعيدة مما جرى بل وفاقم منها الآثار الاقتصادية السلبية لوباء “كورونا”. وعندما أقرت الحكومة الأردنية  موازنة هذا العام كان العجز المتوقع نحو 2.9 مليار دولار من الإنفاق العام المخصص له 14 مليار دولار، على رغم ادراج اكثر من 800 مليون دولار كمنح خارجية مقررة، ما يعني أن البلاد ستحتاج إلى سد هذا العجز من طريق الاقتراض والمعونات الخارجية فيما زادت الديون الخارجية عن إجمالي الناتج المحلي، بينما يهدد التباطؤ الاقتصادي تحويلات العمال في الخارج ومعظمها في الخليج.

وأدى وباء “كورونا” وإجراءات الحكومة لمكافحته، إلى تباطؤ الاقتصاد أكثر، إذ اقترب عدد الحالات المصابة من 700 ألف، وتُوفي قرابة 8 آلاف شخص في بلد تعداد سكانه 10 ملايين نسمة، ووصلت معدلات البطالة إلى نسب غير مسبوقة، بينما ارتفعت معدلات الفقر بنحو 39 في المئة، في نهاية عام 2020، مقارنة بالعام الذي سبقه. وتشير استطلاعات رأي إلى تدني الثقة في الحكومة والسياسات العامة، بسبب التصور السائد حول انعدام كفاءتها وفسادها وزاد الطين بلة حادث مستشفى السلط في شهر آذار/ مارس، حيث تُوفي 7 أشخاص بسبب انقطاع إمدادات الاوكسيجين عن قسم عناية مركزة كان يضم عدداً من المصابين بالفايروس. 

وخرجت تظاهرات، على رغم التشديدات والقيود الأمنية التي حدت من اعداد المشاركين بعد هذا الحادث، وصارت الحكومة التي لا تتقبل النقد بسهولة، وبخاصة إذا وُجه للقصر الملكي او أجهزة المخابرات، أكثر حساسية إزاء أي انتقادات بخاصة إذا جاءت من أشخاص ذوي شعبية نسبية مثل الأمير حمزة الذي كرر اتهاماته للحكومة والأجهزة الأمنية متحاشياً توجيهها مباشرة للقصر. وأدت هذه الحساسية المفرطة مع شبه اختفاء الإعلام النقدي المستقل إلى ردود فعل مبالغ فيها على الانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي وصلت إلى حد حظر تطبيق “كلوب هاوس” الجديد بعدما انتشرت فيه أصوات أردنية معارضة. 

وباستثناء أصوات قليلة ومتباعدة مقربة من القصر، يستبعد معظم المحللين الأردنيين وجود محاولة فعلية  لقلب نظام الحكم، ويعتقدون أن الإشارات إلى أصابع خارجية تعود إلى إحساس متزايد بالضيق لدى الدوائر الحاكمة في المملكة، بسبب الإهمال والضغوط المتزايدة العام الماضي إبان إعلان صفقة القرن التي روج لها جاريد كوشنر، صهر ترامب، لحل القضية الفلسطينية. ولا تزال عمان منزعجة من تجاهل كوشنر لها، قبل إطلاق الصفقة القرن بشقيها السياسي والاقتصادي، على رغم ما فيهما من إجراءات تؤثر في الأردن أو تحتاج إلى تعاونه، إضافة إلى تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو وعجرفته بشأن ضم أراضٍ شاسعة في الضفة الغربية منها أراض ملاصقة لحدود الضفة مع الأردن.

وهكذا يعتقد معظم المراقبين أنه لم تكن هناك مؤامرة خارجية حقيقية ولا وجود لمشروع انقلاب داخلي، بل كان الأردن يتصرف بدافع من حساسيته المفرطة تجاه الانتقادات المحلية وغضبه من التجاهل المتصاعد إقليمياً. وقال روبرت ساتلوف رئيس معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى المقرب من إسرائيل ووثيق الصلة بمصادر استخباراتية وحكومية رفيعة في المنطقة، إن تطورات قصة الأمير حمزة تكشف عن صراعات عائلية داخلية تغلي منذ فترة، ولكنها قد تؤدي في النهاية إلى تخفيف الضغط على القصر لأنها ستحول الاهتمام بعيداً من تحديات اقتصادية واجتماعية عميقة مستمرة وتحدي “كورونا” متوسط الأجل نحو قصص ميلودرامية.

ولكن هذا التطور قد يعني أيضاً دعم القطاع الأمني ويده العليا في البلاد على حساب الإصلاحات الخجولة التي توقفت منذ سنوات، واعتقد البعض بإمكان  استئناف بعضها وغل يد الجهاز الأمني نسبياً بعد خطاب علني أرسله الملك عبدالله الى رئيس جهاز المخابرات العامة في شباط/ فبراير الماضي حول صلاحيات الجهاز وأهمية أن يتوقف تدخله في مجالات الاستثمار والتمويل ومكافحة الفساد.

مشكلة الأردن ليست حقيقة في الفساد الذي يحصل من طريق التلاعب في التعاقدات وتخصيص الأراضي والاحتكارات، فهذه المسائل هي في أحيان كثيرة، عوارض لمرض مزمن وهو الضعف الهيكلي في اقتصاد الأردن القائم على الريع وتوزيعه، وهذا الريع (سواء مساعدات مالية من الخارج أو تحويلات مالية أو ضرائب مرتفعة أو منح وهبات حكومية لأفراد وفئات) لم يعد تكفي لإرضاء الجميع، والوقت قد حان لإعادة تقاسم تكاليف تشغيل الدولة وتوزيع عطاياها. ومن هنا يمكن فهم حديث حمزة عن الفساد وحديث المؤسسات الأمنية عن المؤامرة، وحديث اليمين في الشرق الأردني عن التأثير السلبي للفلسطينيين، كل هذا دخان ناتج عن نيران أزمة صلبها اقتصادي عسير الحل وحلها سياسي صعب المنال، وفي الأغلب سيتدحرج الأردن ببطء نحو مزيد من المشاحنات والأزمات الداخلية، من دون حل واضح في الأفق، ما قد يجعل الاضطرابات السياسية والتصعيدات الأمنية العناوين الرئيسية للمملكة في السنوات القليلة المقبلة، مع اضمحلال دور الأردن الإقليمي وتناقص الريع الآتي من الخارج.

ويبقى هناك نمط معتاد في سلوك الدولة والمجتمع الأردني، في حال وجود تهديدات داخلية، بدءاً من هجمات القاعدة على فنادق العاصمة في 2005، وقبلها في الصراعات المستعرة في نهاية الخمسينات والستينات مع دول مجاورة أو مع “منظمة التحرير” عام 1970. انتهت هذه التهديدات لأسباب وبملابسات عدة، ولكن في نهايتها تنادت القوى السياسية من أنحاء المملكة لدعم الأسرة الهاشمية ورفع علم البلاد فوق كل الخلافات، بينما دعمت قوى خارجية أو بلدان مجاورة وبخاصة بريطانيا وإسرائيل والولايات المتحدة استقرار الدولة الأردنية في محيط شديد الاضطراب.

لا أحد يريد زعزعة استقرار الأردن بشكل جدي. وهكذا وعلى رغم عدم اتفاق التقييمات الاستخبارية الأميركية والإسرائيلية مع بعض التصريحات شبه الرسمية الأردنية حول وجود مؤامرة لقلب نظام الحكم، إلا أن واشنطن والرياض ودولاً أخري سارعت إلى طمأنة عمّان والتشديد على أهمية استقراره، ودعمت العاهل الاردني، الذي وصفه متحدث الخارجية الأميركية نيد برايس بأنه “شريك رئيسي”، ويحصل على “الدعم الكامل” من إدارة بايدن. ولعل في هذا إشارة الى استمرار وربما ارتفاع الدعم المالي الأميركي الذي سيحصل عليه الأردن في هذا العام العصيب اقتصادياً، وربما تضغط  واشنطن على حلفائها في الخليج لاستئناف الدعم السعودي على سبيل المثال.

وهكذا يكون حمزة قد لعب دوراً مهماً لدعم بلاده من دون أن يقصد! ولكن إلى متى يمكن أن يستمر الأردن بهذا الشكل من دون هزات أكثر عنفاً وتهديدات ذات تأثيرات أعمق في المرات المقبلة؟ 

إقرأوا أيضاً:

13.04.2021
زمن القراءة: 8 minutes

يعتقد معظم المراقبين أنه لم تكن هناك مؤامرة خارجية حقيقية ولا وجود لمشروع انقلاب داخلي، بل كان الأردن يتصرف بدافع من حساسيته المفرطة تجاه الانتقادات المحلية وغضبه من التجاهل المتصاعد إقليمياً.

احتفل الأردن بالذكرى المئوية لتأسيسه على وقع تداعيات مؤامرة مزعومة لزعزعة  نظام الحكم في البلاد أو قلبه. 

بعيداً من العراضة السياسية التي شهدها مجلس الأمة، حيث وقع شجار بين النواب على خلفية الأحداث الأخيرة من دون التعمق حقيقة فيها، انشغلت وسائل إعلام غربية بوقائع ما حصل، بصفته إزعاجاً حقيقياً وإن لم يكن تهديداً وجودياً للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني. 

أتى الاحتفال بذكرى تأسيس الأردن بعد أسبوع اشتعلت فيه مواقع التواصل الاجتماعي وبخاصة من جانب الأطراف المحسوبة على المعارضة بالتعليقات على شرائط فيديو وصوت، مسربة للأمير حمزة،  المتهم الرئيسي بتزعم “الفتنة (التي) وُئدت” في مهدها، بحسب تعبير الملك، وبخاصة شريط صوت يقرّع فيه الأمير رئيس أركان الجيش بعدما طلب منه التوقف عن جولاته المحلية ولقاءاته العشائرية التي تتردد فيها انتقادات للحكومة، ويدعوه إلى التوقف عن التغريد على “تويتر”! 

انتقد موالون للقصر حمزة بدعوى أنه اشترط تولي قيادة الجيش والأجهزة الأمنية “ليتوقف عن الأنشطة المناوئة للحكم”، وأن المتأمرين من حوله كانوا يتحدثون عن “ساعة الصفر… ووقت التحرك”، وقال معلق مقرب للقصر إن خطاب تجديد للولاء أرسله حمزة للملك بعد وساطة عائلية قادها ولي العهد السابق الأمير حسن ليس كافياً، ويجب أن تُتخذ إجراءات أخرى، بينما أعلن مؤيد لحمزة على أحد غرف تطبيق “كلوب هاوس” البيعة للأمير حمزة الذي أُزيح من منصب ولي العهد عام 2004.

وبعد نحو الأسبوع من اشتعال الجدل الميلودرامي واعتقال حوالى 18 شخصاً من المحسوبين على الأمير حمزة أو المتهمين بالتورط في تلك المؤامرة المزعومة، وقف الملك، وبجواره ابنه وولي عهده الأمير الحسين، وحولهما كبار أمراء الأسرة المالكة، بما فيهم حمزة نفسه يقرأون الفاتحة على أرواح اسلافهم في المقبرة الهاشمية، احتفالاً بالذكرى المئوية لتأسيس الأردن.

من السهل والمريح تفسير ما حصل في الأردن على أنه صراعات قصر ومشاحنات قبائل، وهذه لا شك صراعات حقيقية ولكنها تؤثر في ملابسات ما حصل أكثر مما تفسره. عشرات القصص والإشاعات وغرف “كلوب هاوس”، تردد قصصاً قديمة، من غضب حمزة منذ إزاحته من منصبه، ومروراً برغبة الملك في تثبيت ابنه ولي العهد الحسين على العرش والتقاعد المبكر الذي يتطلب إزاحة قوية لأي منافسة محتملة، ونهاية بالمنافسة بين نساء القصر: نور زوجة الملك الراحل حسين وأم حمزة الغاضبة منذ تقليص دورها عام 2000 بعد وفاة الملك حسين، ورانيا زوجة الملك الحالي والتي ينتقدها بعض الأردنيين لأصلها الفلسطيني حيناً وتدخلها المزعوم في السياسة واكتناز النفوذ أحياناً أخرى. 

ولا شك في أن بعض ما حصل في الأردن مذ وجه اللواء يوسف الحنيطي تحذيره المهذب، الذي تسرب تسجيله، للأمير حمزة في الثالث من نيسان/ أبريل نيسان، له علاقة ما بهذا كله، ولكن الأردن يواجه أزمة أكبر وأعمق زادت حدتها مع وباء “كورونا” وصفقة القرن والتقارب الخليجي- الإسرائيلي. ومن أحد أهم مظاهر هذه الأزمة والتي تجلت في احتجاجات علنية متكررة في السنوات القليلة الماضية هو الامتعاض المتزايد بين قبائل شرق الأردن التي ترى أنها هي، لا المواطنون الأردنيون من أصل فلسطيني، من استقبلت الأمير عبد الله الأول ومكنته وقبلت حكم الأسرة الهاشمية، وترى أن لها حقوقاً وامتيازات باتت منتقصة مع تزايد العجز المالي المزمن للدولة وضعف قدرتها على مواصلة منح المخصصات المالية والوظائف الطيبة لأبناء العشائر كما في السابق. 

إقرأوا أيضاً:

هذه الأزمة اقتصادية في جذورها، إذ اعتمدت الدولة الأردنية منذ نشأتها وطوال معظم المئة عام المنصرمة على التحويلات المالية والاقتراض من اجل سد العجز الدائم في موازنتها. ولا يمكن فهم ما يحصل في البلاد من دون النظر إلى المصاعب الاقتصادية والمالية التي تواجهها عمّان، والتي تفاقمها ادعاءات لا تنتهي عن الفساد المؤسسي في العقود القليلة الماضية.

وفي سنوات البدايات، اعتمد الأردن على تحويلات منتظمة من بريطانيا، وفي عقود تالية تحولت الرعاية المالية إلى الولايات المتحدة ودول الخليج النفطية إضافة إلى الاستدانة المستمرة.

ويقول ديفيد شينكر، “كانت دائماً بارعة في جمع الأموال، ولكنها كانت أيضاً دولة مدنية معظم الوقت، إذ اعتادت الحصول على منح وقروض من دول الخليج، والعراق تحت حكم صدام حسين، والولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان”. ويشير شينكر الذي كان مساعداً لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترامب إلى أن “الولايات المتحدة تساهم حالياً في نحو 10 في المئة من ميزانية الأردن السنوية.”

عام 2016 على سبيل المثال، زودت الولايات المتحدة الأردن بمساعدات عسكرية واقتصادية زادت عن 1.6 مليار دولار. ووفقاً لمذكرة تفاهم موقعة عام 2018، يتلقى الأردن نحو 1.3 مليار دولار سنوياً من الولايات المتحدة من أجل دعم الموازنة وتمويل برامج عسكرية مشتركة ومشتروات أسلحة أميركية. ولكن في ميزانية إدارة ترامب الراحلة للسنة المالية 2020/ 2021، كان هناك تخفيض مقترح بواقع 30 في المئة في هذه المساعدات وهو تخفيض مؤلم لبلد تصل موازنته السنوية لنحو 11 مليار دولار فقط، ولحسن حظ الأردن ألغى الكونغرس الأميركي هذه التخفيضات ربما تحت ضغط إسرائيلي وجهات أخرى مهتمة باستقرار الأردن ومساعدته في تحمل مسؤولياته، وبخاصة مع عبء وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في البلاد. 

وحتى قبل صفقة القرن وما صاحبها من تطبيع إماراتي- إسرائيلي وما سبقها من تباعد سعودي- أردني كان هناك انخفاض كبير في الدعم المالي الخليجي، دفع الأردن إلي عقد اتفاقات قروض مع صندوق النقد الدولي والاستمرار في مساعٍ لتخفيض الإنفاق العام وبخاصة على بنود مثل رواتب موظفي الدولة. وألهبت هذه التخفيضات والمزاعم المستمرة عن الفساد بين مستويات عليا من المسؤولين، مشاعر قطاعات واسعة من الأردنيين في أحد أغلى بلدان المنطقة في ما يتعلق بتكاليف المعيشة. وأظهر استطلاع رأي قام به مركز “الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية”، ومقره عمان في أواخر عام 2016، أن 57 في المئة من الأردنيين يعتقدون أن الاقتصاد في حالة صعبة، بينما توقع 85 في المئة من المشاركين أن الأوضاع ستسوء أو لن تتحسن في المستقبل. 

وليست هذه التوقعات ببعيدة مما جرى بل وفاقم منها الآثار الاقتصادية السلبية لوباء “كورونا”. وعندما أقرت الحكومة الأردنية  موازنة هذا العام كان العجز المتوقع نحو 2.9 مليار دولار من الإنفاق العام المخصص له 14 مليار دولار، على رغم ادراج اكثر من 800 مليون دولار كمنح خارجية مقررة، ما يعني أن البلاد ستحتاج إلى سد هذا العجز من طريق الاقتراض والمعونات الخارجية فيما زادت الديون الخارجية عن إجمالي الناتج المحلي، بينما يهدد التباطؤ الاقتصادي تحويلات العمال في الخارج ومعظمها في الخليج.

وأدى وباء “كورونا” وإجراءات الحكومة لمكافحته، إلى تباطؤ الاقتصاد أكثر، إذ اقترب عدد الحالات المصابة من 700 ألف، وتُوفي قرابة 8 آلاف شخص في بلد تعداد سكانه 10 ملايين نسمة، ووصلت معدلات البطالة إلى نسب غير مسبوقة، بينما ارتفعت معدلات الفقر بنحو 39 في المئة، في نهاية عام 2020، مقارنة بالعام الذي سبقه. وتشير استطلاعات رأي إلى تدني الثقة في الحكومة والسياسات العامة، بسبب التصور السائد حول انعدام كفاءتها وفسادها وزاد الطين بلة حادث مستشفى السلط في شهر آذار/ مارس، حيث تُوفي 7 أشخاص بسبب انقطاع إمدادات الاوكسيجين عن قسم عناية مركزة كان يضم عدداً من المصابين بالفايروس. 

وخرجت تظاهرات، على رغم التشديدات والقيود الأمنية التي حدت من اعداد المشاركين بعد هذا الحادث، وصارت الحكومة التي لا تتقبل النقد بسهولة، وبخاصة إذا وُجه للقصر الملكي او أجهزة المخابرات، أكثر حساسية إزاء أي انتقادات بخاصة إذا جاءت من أشخاص ذوي شعبية نسبية مثل الأمير حمزة الذي كرر اتهاماته للحكومة والأجهزة الأمنية متحاشياً توجيهها مباشرة للقصر. وأدت هذه الحساسية المفرطة مع شبه اختفاء الإعلام النقدي المستقل إلى ردود فعل مبالغ فيها على الانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي وصلت إلى حد حظر تطبيق “كلوب هاوس” الجديد بعدما انتشرت فيه أصوات أردنية معارضة. 

وباستثناء أصوات قليلة ومتباعدة مقربة من القصر، يستبعد معظم المحللين الأردنيين وجود محاولة فعلية  لقلب نظام الحكم، ويعتقدون أن الإشارات إلى أصابع خارجية تعود إلى إحساس متزايد بالضيق لدى الدوائر الحاكمة في المملكة، بسبب الإهمال والضغوط المتزايدة العام الماضي إبان إعلان صفقة القرن التي روج لها جاريد كوشنر، صهر ترامب، لحل القضية الفلسطينية. ولا تزال عمان منزعجة من تجاهل كوشنر لها، قبل إطلاق الصفقة القرن بشقيها السياسي والاقتصادي، على رغم ما فيهما من إجراءات تؤثر في الأردن أو تحتاج إلى تعاونه، إضافة إلى تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو وعجرفته بشأن ضم أراضٍ شاسعة في الضفة الغربية منها أراض ملاصقة لحدود الضفة مع الأردن.

وهكذا يعتقد معظم المراقبين أنه لم تكن هناك مؤامرة خارجية حقيقية ولا وجود لمشروع انقلاب داخلي، بل كان الأردن يتصرف بدافع من حساسيته المفرطة تجاه الانتقادات المحلية وغضبه من التجاهل المتصاعد إقليمياً. وقال روبرت ساتلوف رئيس معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى المقرب من إسرائيل ووثيق الصلة بمصادر استخباراتية وحكومية رفيعة في المنطقة، إن تطورات قصة الأمير حمزة تكشف عن صراعات عائلية داخلية تغلي منذ فترة، ولكنها قد تؤدي في النهاية إلى تخفيف الضغط على القصر لأنها ستحول الاهتمام بعيداً من تحديات اقتصادية واجتماعية عميقة مستمرة وتحدي “كورونا” متوسط الأجل نحو قصص ميلودرامية.

ولكن هذا التطور قد يعني أيضاً دعم القطاع الأمني ويده العليا في البلاد على حساب الإصلاحات الخجولة التي توقفت منذ سنوات، واعتقد البعض بإمكان  استئناف بعضها وغل يد الجهاز الأمني نسبياً بعد خطاب علني أرسله الملك عبدالله الى رئيس جهاز المخابرات العامة في شباط/ فبراير الماضي حول صلاحيات الجهاز وأهمية أن يتوقف تدخله في مجالات الاستثمار والتمويل ومكافحة الفساد.

مشكلة الأردن ليست حقيقة في الفساد الذي يحصل من طريق التلاعب في التعاقدات وتخصيص الأراضي والاحتكارات، فهذه المسائل هي في أحيان كثيرة، عوارض لمرض مزمن وهو الضعف الهيكلي في اقتصاد الأردن القائم على الريع وتوزيعه، وهذا الريع (سواء مساعدات مالية من الخارج أو تحويلات مالية أو ضرائب مرتفعة أو منح وهبات حكومية لأفراد وفئات) لم يعد تكفي لإرضاء الجميع، والوقت قد حان لإعادة تقاسم تكاليف تشغيل الدولة وتوزيع عطاياها. ومن هنا يمكن فهم حديث حمزة عن الفساد وحديث المؤسسات الأمنية عن المؤامرة، وحديث اليمين في الشرق الأردني عن التأثير السلبي للفلسطينيين، كل هذا دخان ناتج عن نيران أزمة صلبها اقتصادي عسير الحل وحلها سياسي صعب المنال، وفي الأغلب سيتدحرج الأردن ببطء نحو مزيد من المشاحنات والأزمات الداخلية، من دون حل واضح في الأفق، ما قد يجعل الاضطرابات السياسية والتصعيدات الأمنية العناوين الرئيسية للمملكة في السنوات القليلة المقبلة، مع اضمحلال دور الأردن الإقليمي وتناقص الريع الآتي من الخارج.

ويبقى هناك نمط معتاد في سلوك الدولة والمجتمع الأردني، في حال وجود تهديدات داخلية، بدءاً من هجمات القاعدة على فنادق العاصمة في 2005، وقبلها في الصراعات المستعرة في نهاية الخمسينات والستينات مع دول مجاورة أو مع “منظمة التحرير” عام 1970. انتهت هذه التهديدات لأسباب وبملابسات عدة، ولكن في نهايتها تنادت القوى السياسية من أنحاء المملكة لدعم الأسرة الهاشمية ورفع علم البلاد فوق كل الخلافات، بينما دعمت قوى خارجية أو بلدان مجاورة وبخاصة بريطانيا وإسرائيل والولايات المتحدة استقرار الدولة الأردنية في محيط شديد الاضطراب.

لا أحد يريد زعزعة استقرار الأردن بشكل جدي. وهكذا وعلى رغم عدم اتفاق التقييمات الاستخبارية الأميركية والإسرائيلية مع بعض التصريحات شبه الرسمية الأردنية حول وجود مؤامرة لقلب نظام الحكم، إلا أن واشنطن والرياض ودولاً أخري سارعت إلى طمأنة عمّان والتشديد على أهمية استقراره، ودعمت العاهل الاردني، الذي وصفه متحدث الخارجية الأميركية نيد برايس بأنه “شريك رئيسي”، ويحصل على “الدعم الكامل” من إدارة بايدن. ولعل في هذا إشارة الى استمرار وربما ارتفاع الدعم المالي الأميركي الذي سيحصل عليه الأردن في هذا العام العصيب اقتصادياً، وربما تضغط  واشنطن على حلفائها في الخليج لاستئناف الدعم السعودي على سبيل المثال.

وهكذا يكون حمزة قد لعب دوراً مهماً لدعم بلاده من دون أن يقصد! ولكن إلى متى يمكن أن يستمر الأردن بهذا الشكل من دون هزات أكثر عنفاً وتهديدات ذات تأثيرات أعمق في المرات المقبلة؟ 

إقرأوا أيضاً:

13.04.2021
زمن القراءة: 8 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية