fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

صراع مصري- سعودي على الإنتاج التلفزيوني: ماذا يحدث في “المتّحدة”؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يدور صراع خفيّ بين مصر والسعودية في ساحة القوّة الناعمة، وتحديداً عبر صناعة الدراما. فمصر تاريخياً هي “هوليوود الشرق الأوسط”، التي استخدمت الدراما كسلاح رئيسي للتأثير الثقافي عربياً، وبثّ الهوّية والقيم الوطنية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في أواخر العام 2024، شهدت كواليس الإعلام المصري حدثاً غير مألوف. خرج العميد أحمد شعبان – الرجل الذي كان يُشار إليه بوصفه مهندس المشهد الإعلامي الخفي – من منصبه بهدوء، ليُفسح المجال لاسم لامع لكن مفاجئ: طارق نور. فقد أعلنت “الشركة المتّحدة” للخدمات الإعلامية في كانون الأول/ ديسمبر 2024، عن تحالف جديد مع “مجموعة طارق نور” وقناة “المحور”، وتعيين رجل الإعلانات المخضرم طارق نور رئيساً لمجلس إدارتها. كان هذا التحوّل صادماً لكثيرين، خاصّة وأن وسائل الإعلام التابعة لـ”الشركة المتّحدة” نفسها شنّت حملات تشهير سابقة ضدّ نور، واتّهمته بكلّ شيء من نشر “إمبراطورية الرقص” إلى الاستيلاء غير المشروع على أراضي الدولة. ومع ذلك، جرت إزالة تلك المقالات الهجومية بصمت، وكأنما طُويت صفحة قديمة ليُفتح فصل جديد لتوازنات السلطة داخل الإعلام المصري.

خلفيات تغيير الحرس القديم

لم يكن أحمد شعبان شخصيّة عامّة معروفة، لكنه كمساعد مقرّب من أحد المسؤولين الكبار في جهة سيادية، أشرف على إمبراطورية من 44 وسيلة إعلامية وإعلانية خلف الستار. شملت إمبراطوريته صحفاً ومواقع شهيرة مثل “اليوم السابع” و”الوطن”، وقنوات تلفزيونية مثل DMC وON وCBC وExtra News، وصولاً إلى شركات إنتاج ودعاية ومنصّة البثّ الرقمي “واتش إت”. وبهذا النفوذ، اكتسب شعبان سمعة “اليد الأمنية” التي تُحرّك المشهد الدرامي والإعلامي وفقاً لأهواء الدولة. لذلك، فإن إقالته الهادئة واستبداله بقطب إعلانات مدني مثل طارق نور، حملت دلالات عميقة. 

رأى بعض المراقبين أن النظام اعتمد “سياسة تغيير الوجوه” أكثر منه تغيير السياسات. فاستقدام شخصيّات جديدة ذات كفاءة – سواء في الاقتصاد كما حدث في الحكومة أو في الإعلام كما هو الحال هنا – يبعث برسالة أمل شكلي للمواطنين، من دون أن يعني بالضرورة انفتاحاً حقيقياً في هامش الحرية أو تحوّلاً في استراتيجية السيطرة. وكما قال الباحث عمرو الشوبكي في تصريح لـ”زاوية ثالثة”: “التغيير الحقيقي في إدارة الإعلام يحتاج إرادة سياسية عليا تسمح برؤى متنوّعة ضمن إطار الدستور والقانون” بعبارة أخرى، قد يكون طارق نور مجرّد وجه جديد لنهج قديم.

مع ذلك، يحمل وصول نور إلى قمّة الشركة المتّحدة دلالات على تحوّل توازن القوى داخل المنظومة الإعلامية. فبعد سنوات من إدارة الضبّاط للمشهد من وراء الستار، هناك اعتراف ضمني بأن هذه المقاربة بلغت حدودها. فخلال الأعوام 2017 إلى 2020 تكبّدت “الشركة المتّحدة” خسائر فادحة تُقدّر بنحو 637 مليون جنيه بسبب سياسات الإنتاج المكلفة التي أُمليت أمنياً، ولم تبدأ الشركة في تحقيق أرباح إلا في موسم رمضان 2021، حين أعلنت عن ربح صافٍ يقارب 256.7 مليون جنيه لذلك العام. هذا التحوّل المالي أتى بعد ضبط النفقات، ووضع حدّ للأجور الخيالية لبعض النجوم، وتقليص عدد الأعمال المنتجة سنوياً. بالتالي، يمكن قراءة تعيين نور – المعروف بحسّه التجاري – كمحاولة من الدولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مالياً، عبر رجل يفهم سوق الإعلانات وآليّاته.

نور نفسه يمتلك تاريخاً حافلاً؛ فهو أحد روّاد صناعة الإعلان في مصر منذ الثمانينيات، ومؤسّس شبكة قنوات “القاهرة والناس”، وتُقدّر إمبراطوريته الإعلانية بحصّة سنوية تفوق 400 مليون دولار من سوق الإعلانات. ويرى محلّلون أن اختيار شخصيّة بخلفية إعلانية لقيادة “المتّحدة” يهدف إلى استقدام استثمارات جديدة وضبط الانفلات المالي. 

فقد أوضحت أستاذة الإعلام سارة فوزي أن “قادة المنصّات الإعلامية الكبرى عالمياً وعربياً، يأتون غالباً من مجال الإعلان لقدرتهم على جذب الشركات الدولية وتقليل النفقات”، وأشارت إلى أن “نور يمكنه معالجة فجوة الأجور الضخمة والإسراف في إنتاج محتوى ضعيف المشاهدة، وكذلك إنهاء حالة المال الدائر في حلقة مفرغة داخل المتّحدة، حيث تُنتج الشركة المحتوى وتبثّه على قنواتها مع إعلانات من شركاتها من دون عائد حقيقي”. 

هذه الإجراءات التصحيحية قد تُمهّد الطريق لطرح أسهم الشركة في البورصة المصرية وجذب مستثمرين جدد، وليس سراً أن المستثمرين الخليجيين، السعوديين تحديداً، أبرز المرشّحين لضخّ أموال في هذا الكيان الإعلامي الضخم، سواء عبر شراء حصّة عند الطرح، أو عبر شراكات إستراتيجية مباشرة. فصندوق الاستثمارات السعودي وغيره، انخرط مؤخراً في الاستحواذ على أصول مصرية مختلفة، والإعلام ليس استثناءً، ولعلّ تحالف المتّحدة مع قناة “المحور” – التي تردّد حديث عن تلقّيها دعماً خليجياً – مؤشّر إلى هذا الاتّجاه الجديد نحو خلط التمويل الحكومي بالاستثمار الخاصّ.

صراع ناعم: عندما تتنافس القاهرة والرياض على الشاشة

في خلفية هذه التحوّلات الإدارية والمالية، يدور صراع خفيّ بين مصر والسعودية في ساحة القوّة الناعمة، وتحديداً عبر صناعة الدراما. فمصر تاريخياً هي “هوليوود الشرق الأوسط”، التي استخدمت الدراما كسلاح رئيسي للتأثير الثقافي عربياً، وبثّ الهوّية والقيم الوطنية. باللهجة المصرية المفهومة والخطاب المتّزن – كما تصفه الصحافة الرسمية – استطاعت القاهرة لعقود تكريس حضورها في وجدان الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج. لكن المشهد الإقليمي تغيّر مع صعود شهيّة المملكة العربية السعودية للإنتاج الفنّي ضمن رؤية 2030، التي يتبنّاها ولي العهد محمد بن سلمان. فبعد انفتاح دور السينما وإطلاق مشاريع ترفيه كبرى في الرياض، بدأت السعودية تضخّ أموالاً هائلة لإنتاج أعمال درامية تنافسية، ساعية لفرض رؤيتها الخاصّة على الشاشات.

تجلّى هذا الطموح السعودي في مسلسل تاريخي ضخم مثل “معاوية”، هذا العمل الذي أنتجته شبكة MBC السعودية بميزانية قياسية قُدّرت بنحو 100 مليون دولار – رقم غير مسبوق في الدراما العربية – يروي سيرة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان. جمعت MBC لتنفيذه نجوماً وفنّيين من مختلف الدول العربية (بما في ذلك مصر) وصوّرته في استوديوهات فخمة في تونس، لتقدّم إنتاجاً يُضاهي الأعمال العالمية في قيمته الإنتاجية، ورغم تأجيل عرضه لعامين بسبب حساسية موضوعه الديني والتاريخي، أصرّ السعوديون على طرحه في رمضان 2025. وكما كان متوقعاً، أثار المسلسل عاصفة من الجدل السياسي والطائفي؛ إذ سارعت العراق إلى منعه بدعوى أنه قد يؤجّج الانقسام المذهبي، واعترضت مؤسّسة الأزهر في مصر على تجسيد شخصيات الصحابة. هذا الجدل كشف بوضوح أن السعودية مستعدّة لدفع ثمن باهظ – مالياً ومعنوياً – في سبيل طرح روايتها للتاريخ وتعزيز نفوذها الثقافي، حتى لو اصطدمت مع حساسيات دينية أو مع روايات تاريخية منافسة.

في المقابل، سلكت مصر نهجاً مغايراً في موسم دراما 2025 تحت إدارة “المتّحدة” الجديدة، فبدلاً من  الأعمال التاريخية ذات التكلفة الضخمة والإشكاليات المحتملة، راهنت القاهرة على إنتاج موسم متنوّع يلبّي كلّ الأذواق لكنّه آمن المحتوى. تفاخرت “الشركة المتّحدة” بأنها قدّمت موسماً “عابراً للحدود”، يجمع الأسرة المصرية والعربية حول الشاشة، ويحسّن “الحالة المعنوية” للمشاهد المصري والعربي عبر أعمال خفيفة وترفيهية. أشاد نواب البرلمان بالتنوّع اللافت في دراما “المتّحدة” للعام 2025 وابتعادها عن الإحباط السائد إقليمياً، بعبارة أخرى، فضّلت مصر رسالة التفاؤل ولمّ الشمل على المغامرة بمواضيع خلافية، وهذا يعكس رؤية القاهرة للقوّة الناعمة حالياً: محتوى يخلو مما يعتبره النظام سلبيات اجتماعية أو سياسية، ويقدّم صورة وردية تعزّز الهوّية الوطنية، وترفع المعنويات في زمن الأزمات الاقتصادية والإقليمية.

رغم التحالف السياسي الوثيق بين مصر والسعودية، فإن تنافسهما الخفيّ في ميدان الدراما واضح للعيان. الرياض تملك المال والرغبة في فرض حضورها الثقافي، والقاهرة تملك الإرث والخبرة وجمهوراً عريضاً. السعوديون يُغدقون بالإنفاق ويغامرون بمواضيع جديدة لبناء ريادة فنّية، والمصريون يُراهنون على خبرتهم وتمسّك الجمهور العربي بالدراما المصرية التقليدية، وبينما يتشارك الطرفان أحياناً – كما في استعانة الإنتاجات السعودية بممثّلين ومخرجين مصريين – يبقى الهدف النهائي لكلّ منهما هو فرض رؤيته الخاصّة للقوّة الناعمة في المنطقة. إننا إزاء سباق غير مُعلن على “قلوب وعقول” المشاهدين العرب: هل يقودهم بريق الإنتاج السعودي الفخم؟ أم دفء الحكاية المصرية الأصيلة؟

لجنة المحتوى ورقابة مزدوجة على الإبداع

وسط هذه المنافسة الإقليمية، تخوض “الشركة المتّحدة” نفسها صراعاً آخر داخلياً يتعلّق بطبيعة المحتوى وحدود الرقابة. فمنذ مجيء الإدارة الجديدة، تبنّت الدولة نبرة صارمة حيال ما يُعرض على الشاشات. خلال حفل إفطار للقوّات المسلّحة في مطلع 2025، أكّد الرئيس عبد الفتاح السيسي ضرورة تقديم أعمال درامية “هادفة” تعزّز القيم المجتمعية، وتحدّ من مشاهد العنف والابتذال، كانت تلك إشارة علنية نادرة إلى استياء السلطة من بعض الأنماط الدارجة في الدراما المصرية، ونيّتها إعادة ضبط البوصلة الأخلاقية والإيديولوجية لهذه الأعمال، وبعدها بأيام، أعلنت “الشركة المتّحدة” تشكيل لجنة متخصّصة للمحتوى، تتولّى مراجعة النصوص ووضع خطط للإنتاج الدرامي في السنوات المقبلة. ضمّت اللجنة خبراء ومبدعين، وكُشف أنها ستراجع كلّ عمل درامي مقدّم للشركة لضمان اتّساقه مع “الأهداف الوطنية والتوعوية” المحدّدة. بهذا، أصبح لدى الدراما المصرية مصفاتان للرقابة بدل واحدة: رقابة الدولة بأجهزتها ولجانها، ورقابة السوق والمموّلين الذين يبحثون عن الربح ويتجنّبون الحساسية.

بالرغم من أن موسم دراما رمضان 2025 في مصر، شهد مساحة نسبية من الحرّية في تناول موضوعات اجتماعية حسّاسة، مثل قضايا التحرّش الجنسي بالأطفال، التي طرحها مسلسل “لام شمسية” بجرأة غير معهودة في الدراما المصرية، لم تمرّ هذه الحرّية من دون ردّ فعل رسمي، فقد أثارت بعض الأعمال جدلاً واسعاً حول صورة المجتمع المصري في الدراما، وواجهت تهماً بترويج العنف أو تقديم صورة سلبية، مما دفع القيادة السياسية إلى التدخّل العلني.

عقب تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي شدّد فيها على ضرورة أن تعكس الدراما القيم الإيجابية والانتماء الوطني، سارعت الحكومة إلى تشكيل لجنة عليا للدراما والإعلام، تضمّ خبراء ومبدعين، بهدف مراجعة تأثير الدراما واقتراح مسارات لإصلاح المزاج العامّ وبناء الشخصية المصرية، كما أعلنت “الشركة المتّحدة” للخدمات الإعلامية عن لجنة متخصّصة لمراجعة المحتوى وتوجيه الإنتاج الدرامي، إلى جانب لجان أخرى تابعة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والمجالس القومية المعنيّة بصورة المرأة وحقوق الإنسان في الدراما.

هذا التحرّك الرسمي المكثّف جاء مباشرة بعد موسم شهد اتساعاً نسبياً في حرّية الطرح، ليعكس رغبة الدولة في ضبط السرديات الدرامية وإعادة توجيهها بما يتوافق مع رؤيتها للقوّة الناعمة. وبينما تؤكّد الجهات الرسمية أن هدف هذه اللجان هو تطوير الدراما وليس تقييدها، يُبدي بعض النقّاد والمبدعين تخوّفهم من أن تتحوّل هذه اللجان إلى أدوات رقابية تحدّ من حرّية الإبداع، خصوصاً مع غياب الشفافية حول صلاحياتها وحدود تدخّلها. هكذا، يظهر الربط بين اتّساع الحرّية الدرامية المؤقتة وتشكيل لجان المراجعة، كعلامة على قلق الدولة من انفلات السرديات الإعلامية، وسعيها الدائم لاستعادة زمام المبادرة في رسم صورة المجتمع المصري على الشاشة.

وتتعدّى الرقابة المزدوجة حدود المنع الصريح، إلى توجيه المحتوى المسموح نحو تلميع الصورة العامّة. فعلى سبيل المثال، لاحظ النقّاد أن الأعمال الدرامية لموسم 2025 خلت تقريباً من مشاهد تعاطي مخدرات فجّة، أو عنف دموي مفرط، وجرى التركيز بدل ذلك على قصص نجاح فردية ورسائل وطنية ضمنية، وحتى عند عرض مشاكل اجتماعية كالجريمة والعشوائيات، قُدّمت بحلول ميلودرامية، وفي إطار يؤكّد انتصار الخير في النهاية. هذه التوليفة ليست عشوائية، بل تبدو انعكاساً مباشراً لتوصيات لجنة المحتوى الجديدة ورؤيتها “للتوازن بين الإبداع والمسؤولية الاجتماعية”، أي أن المطلوب فنّ يتناول واقع المجتمع، ولكن بانتقائية شديدة تُعلّي “الإيجابيات” وتهمّش السلبيات، تحت شعار “بناء الوعي ومراعاة القيم”.

بالطبع، لم يمرّ هذا التحجيم للإبداع من دون ضجيج في الوسط الفنّي. كثير من الكُتّاب والمخرجين باتوا يتساءلون: كيف نروي حكايات صادقة عن مجتمعنا إن كان علينا تجنّب زواياه المظلمة وتلميعه باستمرار؟ لكنّ هامش الاعتراض ضيّق، فغالبيتهم يعملون بعقود مع شركات تابعة لـ”المتّحدة” – أي تحت مظلّة الدولة – وأي خروج عن النصّ قد يعني استبعادهم من “جنّة الإنتاج” الحالية. هكذا يجد المبدعون أنفسهم بين سندان الدولة التي تراقب الكلمة والصورة، ومطرقة رأس المال (الذي أصبح خليجياً جزئياً) ويفرض ذائقته المحافظة وأولوياته التجارية، والنتيجة غالباً هي رقابة ذاتية يمارسها الفنان على نفسه، قبل أن تمارسها عليه أي جهة رقابية، تفادياً للمشاكل أو منعاً لرفض عمله مستقبلاً.

انسحاب الكبار واحتواء الخطاب

هذه البيئة الجديدة ذات القيود المزدوجة، بدأت بالفعل تدفع بعض كبار صنّاع الدراما إلى إعادة النظر في مسارهم. ففي آذار/ مارس 2025، أعلن المخرج والكاتب الجماهيري محمد سامي – أحد ألمع الأسماء في دراما العقد الأخير – اعتزال إخراج المسلسلات التلفزيونية بشكل مفاجئ. جاء هذا القرار بعد أسابيع من انتهاء موسم رمضان، الذي قدّم فيه سامي عملين دفعة واحدة: مسلسل “سيد الناس” من إخراجه، ومسلسل “إش إش” من تأليفه وبطولة زوجته مي عمر. هذان العملان تعرّضا لانتقادات لاذعة؛ اعتبر كثيرون أن “سيد الناس” لم يكن سوى استنساخ باهت لنجاح سامي السابق في “جعفر العمدة”، مع التيمات نفسها من صراع عائلي وصعود بطل شعبي، لكن بجرعة أعلى من الصراخ والمبالغة. أما “إش إش” فاتّهمه النقّاد بالمجاملة المفرطة، إذ أسند سامي بطولته إلى زوجته في دور راقصة شعبية لم يناسب إمكاناتها التمثيلية، فبدا وكأنه فرضها على المشاهدين، وعلى الرغم من أن أعمال سامي تحصد مشاهدات عالية دائماً، وتتصدّر قوائم الترند، فإن موجة الهجوم الأخيرة وضعته في مواجهة سؤال حاسم: هل فقدت الدراما الشعبية الصاخبة التي تميّز بها بريقها، خصوصاً في ظلّ المُناخ الجديد الداعي إلى “التهذيب” والرسائل الإيجابية؟

بحسب سامي نفسه، فإنه فكّر طويلاً قبل قرار الاعتزال خوفاً من التكرار وفقدان الجمهور شغفه بأسلوبه، لكن التوقيت كان لافتاً، إذ تزامن مع التحوّلات الكبرى في المشهد الدرامي المحلّي. فالدولة – كما أسلفنا – صارت تُشدّد على المحتوى الهادف المنضبط، والشركة المتّحدة دشّنت لجنة المحتوى الرقابية، والهيئة الوطنية للإعلام أعلنت عن مؤتمر بعنوان “مستقبل الدراما في مصر، للبحث في كيفية تعزيز القيم الإيجابية والحدّ من العنف على الشاشة”، هذه المُناخات الضاغطة قد تكون ساهمت في شعور مخرج معتاد على جرعة عالية من الإثارة والصدامية في أعماله، بأنه لم يعد له مكان مريح ليبدع كما يشاء. وكما تساءلت صحيفة “الأخبار” البيروتية تعليقاً على قراره: هل أصبحت الدراما المصرية “مهذّبة” أكثر من اللازم بالنسبة إلى مبدع اعتاد كسر المحظورات الاجتماعية والصراخ بواقعية؟ ربما فضّل سامي الانسحاب المؤقت والعودة إلى مقاعد الدراسة – وفق ما صرّح – على أن يُقيّد أسلوبه أو يُنتج أعمالاً فاترة لا تشبهه.

وفي حين انقسم الجمهور والنقّاد في حكمهم على خطوة سامي، فإنها سلّطت الضوء على تأثير التحوّلات الأخيرة على مزاج المبدعين. صحيح أن سامي حالة خاصّة بحكم جماهيريته وجدل أعماله، لكنّ زملاءه شعروا أيضاً برياح التغيير. هناك من رحّب ضمنياً بمساعي ضبط السوق بعد فوضى السنوات الماضية – خاصّة من أُقصوا سابقاً في ظلّ احتكار الشركة الواحدة للمشهد – إذ يرون فرصة جديدة للعودة في ظلّ إدارة أكثر انفتاحاً على الكفاءات المهَمَّشة. 

الإعلامية والمحاضرة نشوى عقل تفاءلت بأن قيادة نور قد تُعيد وجوهاً خبيرة إلى الشاشة بعد أن همّشتها “شِللية” المرحلة السابقة، لكنها في الوقت نفسه حذّرت من الإفراط في التفاؤل: “فالسياسات الإعلامية لن تتغيّر بمجرّد تغيير الأسماء، ما لم تتغيّر العقلية الأمنية الحاكمة. أي أن صُنّاع المحتوى قد يجدون أنفسهم أمام إدارة أكثر حرفية في الإنتاج والتسويق، لكنّها لن تتساهل قيد أنملة في الخطوط السياسية الحمراء”.

رؤية جديدة بأدوات قديمة: إلى أين تمضي “المتحدة”؟

المشهد الذي يتكّشف لنا منذ نهاية 2024 وحتى ربيع 2025، يُوحي بأن “الشركة المتّحدة” تسعى لفرض رؤية مستقبلية مختلفة للإعلام والدراما في مصر؛ رؤية قد تبدو جديدة في أدواتها لكنها استمرار لمنهج قديم في جوهرها، تقوم هذه الرؤية على ركائز أساسية يمكن تلخيصها في: نموذج إنتاج منخفض التكلفة عالي الربحية، والتركيز على المنصّات الرقمية، واستلهام التجارب الإقليمية الناجحة، وفي مقدّمتها النموذج التركي في صناعة الدراما.

فعلى صعيد النموذج الاقتصادي، بات واضحاً أن “المتّحدة” تريد التحوّل من ذراع حكومي مثقل بالخسائر، إلى كيان ربحي مُستدام، مما يفرض عقلية تجارية بحتة في الإدارة. هذا يعني المزيد من إحكام الحزام المالي: إنتاج عدد أقلّ من المسلسلات لكن ذات جودة أعلى، وضمان تسويقها جيداً، وضبط أجور النجوم، وربما تقليص طول المواسم الدرامية. وبالفعل لوحظ مؤخراً اتّجاه نحو تقديم مسلسلات من 15 حلقة فقط في رمضان، بدلاً من 30، مما يخفّض التكلفة إلى النصف تقريباً، ويُتيح تنوّعاً أكبر على الخريطة البرامجية، كذلك ستسعى “المتّحدة” لزيادة تكرار التعاون مع القطاع الخاصّ المحلّي، عبر إشراك شركات إعلان وإنتاج مصرية مستقلّة، وكذلك الشراكات مع منصّات عربية وعالمية لتوزيع أعمالها، بهدف تقاسم التكلفة والمخاطرة.

أما التحوّل الرقمي، فهو حجر زاوية آخر. تمتلك “المتّحدة” بالفعل منصّة Watch iT التي أُطلقت قبل سنوات، لكنّها لم تحقّق انتشاراً واسعاً بعد. الإدارة الجديدة تدرك أن مستقبل المشاهدة يتّجه بخطى سريعة نحو المنصّات عند الطلب، لذا من المتوقّع ضخّ محتوى حصري على “واتش إت” وجعلها المنصّة الأولى في مصر، وربما التعاون مع منصّة “شاهد” السعودية أو غيرها لتوسيع الانتشار الإقليمي، أضف إلى ذلك دمج المحتوى الرقمي القصير ووسائل التواصل؛ فقد أشارت الدكتورة نشوى عقل إلى أهميّة استقطاب صناع المحتوى الشباب من “يوتيوب” و”تيك توك” إلى المنظومة التقليدية. هذا الدمج سيضخّ دماء جديدة ويجذب شرائح أصغر سناً من الجمهور التي هجرت التلفزيون إلى الهاتف. الفكرة باختصار: أن تكون “المتّحدة” موجودة على كلّ الشاشات – كبيرة كانت أو صغيرة – بمحتوى يناسب طبيعتها، من الدراما الطويلة إلى مقاطع الـReels السريعة.

مع ذلك، يواجه “نموذج المتّحدة” المنشود تحدّيات حقيقية، فالمعادلة التي تحاول تحقيقها صعبة: محتوى يُرضي الدولة ورقابتها، ويحقّق الربح للمستثمرين، ويجذب الجمهور المحلّي والعربي، وفي الوقت نفسه لا يفقد روح الإبداع وبصمة الهوّية المصرية التي صنعت أمجاد الدراما في الماضي. يخشى البعض أن تتحوّل الشركة إلى ماكينة إنتاج تجاري تكرّر الوصفات الناجحة حدّ الابتذال لضمان الربح، فتفقد الدراما نكهتها الإنسانية العميقة، كما أن إرضاء جميع “الرعاة”؛ الدولة والمموّلين والجمهور، مهمّة شبه مستحيلة؛ فربما يأتي يوم يضغط فيه مستثمر سعودي من أجل محتوى معيّن يتعارض مع الرؤية المصرية، أو تصرّ الدولة على رسالة دعائية قد يراها الجمهور مفتعلة وينفر منها.

لكن في المقابل، هناك من يرى بصيص أمل في هذه التحوّلات. فربما تدفع عقلية السوق التنافسية نحو رفع الجودة الفنّية بعد سنوات من الركود تحت مظلّة الاحتكار الحكومي، وقد تنتج عن الشراكات الجديدة أعمال جريئة الشكل، وإن كانت حذرة المضمون، كأن نشهد تطوراً في تقنيات التصوير والإخراج يواكب المعايير الدولية، حتى لو ظلّ الخطّ الدرامي محافظاً، ولعلّ دخول أموال خليجية يفتح الباب لإنتاج أعمال ضخمة عن موضوعات مشتركة (عربية أو تاريخية) كانت مصر تعجز عن تمويلها وحدها. إن تقاطع رأس المال السعودي ورمزية القوّة الناعمة المصرية قد يثمران، إن أُحسن استغلالهما، دراما عربية عابرة للحدود بحقّ، وهذا ما تعد به “الشركة المتّحدة” نفسها في خطاباتها.

في النهاية، ما يحدث في “الشركة المتّحدة” هو مرآة لما يحدث في مصر ككلّ: تغييرات ظاهرية كبيرة لضبط الأزمات العميقة، من دون مساس بجوهر السلطة أو طريقة إدارتها، إنه محاولة لخلق توازن جديد في الإعلام، يجمع بين قبضة الدولة واستثمارات السوق، وبين الإمتاع والفائدة، وبين المحلّي والعابر للحدود، وستبقى عين الرقيب ساهرة، لكنّ يد المستثمر ستمتدّ لتتحسّس نبض الجمهور، وفي هذه المنطقة الرمادية قد تولد معادلة مختلفة للإعلام المصري: معادلة تأمل الدولة أن تضمن لها السيطرة والرضا الشعبي معاً، ويأمل الجمهور أن تمنحه ترفيهاً أصدق وأقرب لواقعه. 

وحدها الأشهر والسنوات المقبلة ستكشف ما إذا كانت “المتّحدة” قادرة على فرض هذه الرؤية المستقبلية بنجاح، أم أنها مجرّد إعادة ترتيب للكراسي تحت سقف واحد، سرعان ما تكشف محدوديتها أمام تطلّعات شعب عطش لإعلام حرّ وخلّاق بحقّ. فهل نكتفي بأن تكون الدراما مجرّد “ترفيه نظيف” يُمرّر الرسائل الرسمية بانسيابية، أم نطمح إلى دراما جريئة تعبّر عنّا فعلاً؟ 

رنا الصبّاغ- كاتبة وصحافية أردنية | 23.05.2025

الرقص على أوجاع الغزّيين !…عندما تعطّل واشنطن وتل أبيب ديناميات الأمم المتّحدة 

أثناء كتابة هذا المقال، بدأت كوادر في الشركات الجديدة ومتعهّدون أمنيون ومرتزقة، بالوصول مع معدّاتهم إلى إسرائيل، استعداداً لدخول غزّة، وتطبيق الخطّة الإشكالية البديلة عن المسار الأممي.
03.05.2025
زمن القراءة: 13 minutes

يدور صراع خفيّ بين مصر والسعودية في ساحة القوّة الناعمة، وتحديداً عبر صناعة الدراما. فمصر تاريخياً هي “هوليوود الشرق الأوسط”، التي استخدمت الدراما كسلاح رئيسي للتأثير الثقافي عربياً، وبثّ الهوّية والقيم الوطنية.


في أواخر العام 2024، شهدت كواليس الإعلام المصري حدثاً غير مألوف. خرج العميد أحمد شعبان – الرجل الذي كان يُشار إليه بوصفه مهندس المشهد الإعلامي الخفي – من منصبه بهدوء، ليُفسح المجال لاسم لامع لكن مفاجئ: طارق نور. فقد أعلنت “الشركة المتّحدة” للخدمات الإعلامية في كانون الأول/ ديسمبر 2024، عن تحالف جديد مع “مجموعة طارق نور” وقناة “المحور”، وتعيين رجل الإعلانات المخضرم طارق نور رئيساً لمجلس إدارتها. كان هذا التحوّل صادماً لكثيرين، خاصّة وأن وسائل الإعلام التابعة لـ”الشركة المتّحدة” نفسها شنّت حملات تشهير سابقة ضدّ نور، واتّهمته بكلّ شيء من نشر “إمبراطورية الرقص” إلى الاستيلاء غير المشروع على أراضي الدولة. ومع ذلك، جرت إزالة تلك المقالات الهجومية بصمت، وكأنما طُويت صفحة قديمة ليُفتح فصل جديد لتوازنات السلطة داخل الإعلام المصري.

خلفيات تغيير الحرس القديم

لم يكن أحمد شعبان شخصيّة عامّة معروفة، لكنه كمساعد مقرّب من أحد المسؤولين الكبار في جهة سيادية، أشرف على إمبراطورية من 44 وسيلة إعلامية وإعلانية خلف الستار. شملت إمبراطوريته صحفاً ومواقع شهيرة مثل “اليوم السابع” و”الوطن”، وقنوات تلفزيونية مثل DMC وON وCBC وExtra News، وصولاً إلى شركات إنتاج ودعاية ومنصّة البثّ الرقمي “واتش إت”. وبهذا النفوذ، اكتسب شعبان سمعة “اليد الأمنية” التي تُحرّك المشهد الدرامي والإعلامي وفقاً لأهواء الدولة. لذلك، فإن إقالته الهادئة واستبداله بقطب إعلانات مدني مثل طارق نور، حملت دلالات عميقة. 

رأى بعض المراقبين أن النظام اعتمد “سياسة تغيير الوجوه” أكثر منه تغيير السياسات. فاستقدام شخصيّات جديدة ذات كفاءة – سواء في الاقتصاد كما حدث في الحكومة أو في الإعلام كما هو الحال هنا – يبعث برسالة أمل شكلي للمواطنين، من دون أن يعني بالضرورة انفتاحاً حقيقياً في هامش الحرية أو تحوّلاً في استراتيجية السيطرة. وكما قال الباحث عمرو الشوبكي في تصريح لـ”زاوية ثالثة”: “التغيير الحقيقي في إدارة الإعلام يحتاج إرادة سياسية عليا تسمح برؤى متنوّعة ضمن إطار الدستور والقانون” بعبارة أخرى، قد يكون طارق نور مجرّد وجه جديد لنهج قديم.

مع ذلك، يحمل وصول نور إلى قمّة الشركة المتّحدة دلالات على تحوّل توازن القوى داخل المنظومة الإعلامية. فبعد سنوات من إدارة الضبّاط للمشهد من وراء الستار، هناك اعتراف ضمني بأن هذه المقاربة بلغت حدودها. فخلال الأعوام 2017 إلى 2020 تكبّدت “الشركة المتّحدة” خسائر فادحة تُقدّر بنحو 637 مليون جنيه بسبب سياسات الإنتاج المكلفة التي أُمليت أمنياً، ولم تبدأ الشركة في تحقيق أرباح إلا في موسم رمضان 2021، حين أعلنت عن ربح صافٍ يقارب 256.7 مليون جنيه لذلك العام. هذا التحوّل المالي أتى بعد ضبط النفقات، ووضع حدّ للأجور الخيالية لبعض النجوم، وتقليص عدد الأعمال المنتجة سنوياً. بالتالي، يمكن قراءة تعيين نور – المعروف بحسّه التجاري – كمحاولة من الدولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مالياً، عبر رجل يفهم سوق الإعلانات وآليّاته.

نور نفسه يمتلك تاريخاً حافلاً؛ فهو أحد روّاد صناعة الإعلان في مصر منذ الثمانينيات، ومؤسّس شبكة قنوات “القاهرة والناس”، وتُقدّر إمبراطوريته الإعلانية بحصّة سنوية تفوق 400 مليون دولار من سوق الإعلانات. ويرى محلّلون أن اختيار شخصيّة بخلفية إعلانية لقيادة “المتّحدة” يهدف إلى استقدام استثمارات جديدة وضبط الانفلات المالي. 

فقد أوضحت أستاذة الإعلام سارة فوزي أن “قادة المنصّات الإعلامية الكبرى عالمياً وعربياً، يأتون غالباً من مجال الإعلان لقدرتهم على جذب الشركات الدولية وتقليل النفقات”، وأشارت إلى أن “نور يمكنه معالجة فجوة الأجور الضخمة والإسراف في إنتاج محتوى ضعيف المشاهدة، وكذلك إنهاء حالة المال الدائر في حلقة مفرغة داخل المتّحدة، حيث تُنتج الشركة المحتوى وتبثّه على قنواتها مع إعلانات من شركاتها من دون عائد حقيقي”. 

هذه الإجراءات التصحيحية قد تُمهّد الطريق لطرح أسهم الشركة في البورصة المصرية وجذب مستثمرين جدد، وليس سراً أن المستثمرين الخليجيين، السعوديين تحديداً، أبرز المرشّحين لضخّ أموال في هذا الكيان الإعلامي الضخم، سواء عبر شراء حصّة عند الطرح، أو عبر شراكات إستراتيجية مباشرة. فصندوق الاستثمارات السعودي وغيره، انخرط مؤخراً في الاستحواذ على أصول مصرية مختلفة، والإعلام ليس استثناءً، ولعلّ تحالف المتّحدة مع قناة “المحور” – التي تردّد حديث عن تلقّيها دعماً خليجياً – مؤشّر إلى هذا الاتّجاه الجديد نحو خلط التمويل الحكومي بالاستثمار الخاصّ.

صراع ناعم: عندما تتنافس القاهرة والرياض على الشاشة

في خلفية هذه التحوّلات الإدارية والمالية، يدور صراع خفيّ بين مصر والسعودية في ساحة القوّة الناعمة، وتحديداً عبر صناعة الدراما. فمصر تاريخياً هي “هوليوود الشرق الأوسط”، التي استخدمت الدراما كسلاح رئيسي للتأثير الثقافي عربياً، وبثّ الهوّية والقيم الوطنية. باللهجة المصرية المفهومة والخطاب المتّزن – كما تصفه الصحافة الرسمية – استطاعت القاهرة لعقود تكريس حضورها في وجدان الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج. لكن المشهد الإقليمي تغيّر مع صعود شهيّة المملكة العربية السعودية للإنتاج الفنّي ضمن رؤية 2030، التي يتبنّاها ولي العهد محمد بن سلمان. فبعد انفتاح دور السينما وإطلاق مشاريع ترفيه كبرى في الرياض، بدأت السعودية تضخّ أموالاً هائلة لإنتاج أعمال درامية تنافسية، ساعية لفرض رؤيتها الخاصّة على الشاشات.

تجلّى هذا الطموح السعودي في مسلسل تاريخي ضخم مثل “معاوية”، هذا العمل الذي أنتجته شبكة MBC السعودية بميزانية قياسية قُدّرت بنحو 100 مليون دولار – رقم غير مسبوق في الدراما العربية – يروي سيرة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان. جمعت MBC لتنفيذه نجوماً وفنّيين من مختلف الدول العربية (بما في ذلك مصر) وصوّرته في استوديوهات فخمة في تونس، لتقدّم إنتاجاً يُضاهي الأعمال العالمية في قيمته الإنتاجية، ورغم تأجيل عرضه لعامين بسبب حساسية موضوعه الديني والتاريخي، أصرّ السعوديون على طرحه في رمضان 2025. وكما كان متوقعاً، أثار المسلسل عاصفة من الجدل السياسي والطائفي؛ إذ سارعت العراق إلى منعه بدعوى أنه قد يؤجّج الانقسام المذهبي، واعترضت مؤسّسة الأزهر في مصر على تجسيد شخصيات الصحابة. هذا الجدل كشف بوضوح أن السعودية مستعدّة لدفع ثمن باهظ – مالياً ومعنوياً – في سبيل طرح روايتها للتاريخ وتعزيز نفوذها الثقافي، حتى لو اصطدمت مع حساسيات دينية أو مع روايات تاريخية منافسة.

في المقابل، سلكت مصر نهجاً مغايراً في موسم دراما 2025 تحت إدارة “المتّحدة” الجديدة، فبدلاً من  الأعمال التاريخية ذات التكلفة الضخمة والإشكاليات المحتملة، راهنت القاهرة على إنتاج موسم متنوّع يلبّي كلّ الأذواق لكنّه آمن المحتوى. تفاخرت “الشركة المتّحدة” بأنها قدّمت موسماً “عابراً للحدود”، يجمع الأسرة المصرية والعربية حول الشاشة، ويحسّن “الحالة المعنوية” للمشاهد المصري والعربي عبر أعمال خفيفة وترفيهية. أشاد نواب البرلمان بالتنوّع اللافت في دراما “المتّحدة” للعام 2025 وابتعادها عن الإحباط السائد إقليمياً، بعبارة أخرى، فضّلت مصر رسالة التفاؤل ولمّ الشمل على المغامرة بمواضيع خلافية، وهذا يعكس رؤية القاهرة للقوّة الناعمة حالياً: محتوى يخلو مما يعتبره النظام سلبيات اجتماعية أو سياسية، ويقدّم صورة وردية تعزّز الهوّية الوطنية، وترفع المعنويات في زمن الأزمات الاقتصادية والإقليمية.

رغم التحالف السياسي الوثيق بين مصر والسعودية، فإن تنافسهما الخفيّ في ميدان الدراما واضح للعيان. الرياض تملك المال والرغبة في فرض حضورها الثقافي، والقاهرة تملك الإرث والخبرة وجمهوراً عريضاً. السعوديون يُغدقون بالإنفاق ويغامرون بمواضيع جديدة لبناء ريادة فنّية، والمصريون يُراهنون على خبرتهم وتمسّك الجمهور العربي بالدراما المصرية التقليدية، وبينما يتشارك الطرفان أحياناً – كما في استعانة الإنتاجات السعودية بممثّلين ومخرجين مصريين – يبقى الهدف النهائي لكلّ منهما هو فرض رؤيته الخاصّة للقوّة الناعمة في المنطقة. إننا إزاء سباق غير مُعلن على “قلوب وعقول” المشاهدين العرب: هل يقودهم بريق الإنتاج السعودي الفخم؟ أم دفء الحكاية المصرية الأصيلة؟

لجنة المحتوى ورقابة مزدوجة على الإبداع

وسط هذه المنافسة الإقليمية، تخوض “الشركة المتّحدة” نفسها صراعاً آخر داخلياً يتعلّق بطبيعة المحتوى وحدود الرقابة. فمنذ مجيء الإدارة الجديدة، تبنّت الدولة نبرة صارمة حيال ما يُعرض على الشاشات. خلال حفل إفطار للقوّات المسلّحة في مطلع 2025، أكّد الرئيس عبد الفتاح السيسي ضرورة تقديم أعمال درامية “هادفة” تعزّز القيم المجتمعية، وتحدّ من مشاهد العنف والابتذال، كانت تلك إشارة علنية نادرة إلى استياء السلطة من بعض الأنماط الدارجة في الدراما المصرية، ونيّتها إعادة ضبط البوصلة الأخلاقية والإيديولوجية لهذه الأعمال، وبعدها بأيام، أعلنت “الشركة المتّحدة” تشكيل لجنة متخصّصة للمحتوى، تتولّى مراجعة النصوص ووضع خطط للإنتاج الدرامي في السنوات المقبلة. ضمّت اللجنة خبراء ومبدعين، وكُشف أنها ستراجع كلّ عمل درامي مقدّم للشركة لضمان اتّساقه مع “الأهداف الوطنية والتوعوية” المحدّدة. بهذا، أصبح لدى الدراما المصرية مصفاتان للرقابة بدل واحدة: رقابة الدولة بأجهزتها ولجانها، ورقابة السوق والمموّلين الذين يبحثون عن الربح ويتجنّبون الحساسية.

بالرغم من أن موسم دراما رمضان 2025 في مصر، شهد مساحة نسبية من الحرّية في تناول موضوعات اجتماعية حسّاسة، مثل قضايا التحرّش الجنسي بالأطفال، التي طرحها مسلسل “لام شمسية” بجرأة غير معهودة في الدراما المصرية، لم تمرّ هذه الحرّية من دون ردّ فعل رسمي، فقد أثارت بعض الأعمال جدلاً واسعاً حول صورة المجتمع المصري في الدراما، وواجهت تهماً بترويج العنف أو تقديم صورة سلبية، مما دفع القيادة السياسية إلى التدخّل العلني.

عقب تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي شدّد فيها على ضرورة أن تعكس الدراما القيم الإيجابية والانتماء الوطني، سارعت الحكومة إلى تشكيل لجنة عليا للدراما والإعلام، تضمّ خبراء ومبدعين، بهدف مراجعة تأثير الدراما واقتراح مسارات لإصلاح المزاج العامّ وبناء الشخصية المصرية، كما أعلنت “الشركة المتّحدة” للخدمات الإعلامية عن لجنة متخصّصة لمراجعة المحتوى وتوجيه الإنتاج الدرامي، إلى جانب لجان أخرى تابعة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والمجالس القومية المعنيّة بصورة المرأة وحقوق الإنسان في الدراما.

هذا التحرّك الرسمي المكثّف جاء مباشرة بعد موسم شهد اتساعاً نسبياً في حرّية الطرح، ليعكس رغبة الدولة في ضبط السرديات الدرامية وإعادة توجيهها بما يتوافق مع رؤيتها للقوّة الناعمة. وبينما تؤكّد الجهات الرسمية أن هدف هذه اللجان هو تطوير الدراما وليس تقييدها، يُبدي بعض النقّاد والمبدعين تخوّفهم من أن تتحوّل هذه اللجان إلى أدوات رقابية تحدّ من حرّية الإبداع، خصوصاً مع غياب الشفافية حول صلاحياتها وحدود تدخّلها. هكذا، يظهر الربط بين اتّساع الحرّية الدرامية المؤقتة وتشكيل لجان المراجعة، كعلامة على قلق الدولة من انفلات السرديات الإعلامية، وسعيها الدائم لاستعادة زمام المبادرة في رسم صورة المجتمع المصري على الشاشة.

وتتعدّى الرقابة المزدوجة حدود المنع الصريح، إلى توجيه المحتوى المسموح نحو تلميع الصورة العامّة. فعلى سبيل المثال، لاحظ النقّاد أن الأعمال الدرامية لموسم 2025 خلت تقريباً من مشاهد تعاطي مخدرات فجّة، أو عنف دموي مفرط، وجرى التركيز بدل ذلك على قصص نجاح فردية ورسائل وطنية ضمنية، وحتى عند عرض مشاكل اجتماعية كالجريمة والعشوائيات، قُدّمت بحلول ميلودرامية، وفي إطار يؤكّد انتصار الخير في النهاية. هذه التوليفة ليست عشوائية، بل تبدو انعكاساً مباشراً لتوصيات لجنة المحتوى الجديدة ورؤيتها “للتوازن بين الإبداع والمسؤولية الاجتماعية”، أي أن المطلوب فنّ يتناول واقع المجتمع، ولكن بانتقائية شديدة تُعلّي “الإيجابيات” وتهمّش السلبيات، تحت شعار “بناء الوعي ومراعاة القيم”.

بالطبع، لم يمرّ هذا التحجيم للإبداع من دون ضجيج في الوسط الفنّي. كثير من الكُتّاب والمخرجين باتوا يتساءلون: كيف نروي حكايات صادقة عن مجتمعنا إن كان علينا تجنّب زواياه المظلمة وتلميعه باستمرار؟ لكنّ هامش الاعتراض ضيّق، فغالبيتهم يعملون بعقود مع شركات تابعة لـ”المتّحدة” – أي تحت مظلّة الدولة – وأي خروج عن النصّ قد يعني استبعادهم من “جنّة الإنتاج” الحالية. هكذا يجد المبدعون أنفسهم بين سندان الدولة التي تراقب الكلمة والصورة، ومطرقة رأس المال (الذي أصبح خليجياً جزئياً) ويفرض ذائقته المحافظة وأولوياته التجارية، والنتيجة غالباً هي رقابة ذاتية يمارسها الفنان على نفسه، قبل أن تمارسها عليه أي جهة رقابية، تفادياً للمشاكل أو منعاً لرفض عمله مستقبلاً.

انسحاب الكبار واحتواء الخطاب

هذه البيئة الجديدة ذات القيود المزدوجة، بدأت بالفعل تدفع بعض كبار صنّاع الدراما إلى إعادة النظر في مسارهم. ففي آذار/ مارس 2025، أعلن المخرج والكاتب الجماهيري محمد سامي – أحد ألمع الأسماء في دراما العقد الأخير – اعتزال إخراج المسلسلات التلفزيونية بشكل مفاجئ. جاء هذا القرار بعد أسابيع من انتهاء موسم رمضان، الذي قدّم فيه سامي عملين دفعة واحدة: مسلسل “سيد الناس” من إخراجه، ومسلسل “إش إش” من تأليفه وبطولة زوجته مي عمر. هذان العملان تعرّضا لانتقادات لاذعة؛ اعتبر كثيرون أن “سيد الناس” لم يكن سوى استنساخ باهت لنجاح سامي السابق في “جعفر العمدة”، مع التيمات نفسها من صراع عائلي وصعود بطل شعبي، لكن بجرعة أعلى من الصراخ والمبالغة. أما “إش إش” فاتّهمه النقّاد بالمجاملة المفرطة، إذ أسند سامي بطولته إلى زوجته في دور راقصة شعبية لم يناسب إمكاناتها التمثيلية، فبدا وكأنه فرضها على المشاهدين، وعلى الرغم من أن أعمال سامي تحصد مشاهدات عالية دائماً، وتتصدّر قوائم الترند، فإن موجة الهجوم الأخيرة وضعته في مواجهة سؤال حاسم: هل فقدت الدراما الشعبية الصاخبة التي تميّز بها بريقها، خصوصاً في ظلّ المُناخ الجديد الداعي إلى “التهذيب” والرسائل الإيجابية؟

بحسب سامي نفسه، فإنه فكّر طويلاً قبل قرار الاعتزال خوفاً من التكرار وفقدان الجمهور شغفه بأسلوبه، لكن التوقيت كان لافتاً، إذ تزامن مع التحوّلات الكبرى في المشهد الدرامي المحلّي. فالدولة – كما أسلفنا – صارت تُشدّد على المحتوى الهادف المنضبط، والشركة المتّحدة دشّنت لجنة المحتوى الرقابية، والهيئة الوطنية للإعلام أعلنت عن مؤتمر بعنوان “مستقبل الدراما في مصر، للبحث في كيفية تعزيز القيم الإيجابية والحدّ من العنف على الشاشة”، هذه المُناخات الضاغطة قد تكون ساهمت في شعور مخرج معتاد على جرعة عالية من الإثارة والصدامية في أعماله، بأنه لم يعد له مكان مريح ليبدع كما يشاء. وكما تساءلت صحيفة “الأخبار” البيروتية تعليقاً على قراره: هل أصبحت الدراما المصرية “مهذّبة” أكثر من اللازم بالنسبة إلى مبدع اعتاد كسر المحظورات الاجتماعية والصراخ بواقعية؟ ربما فضّل سامي الانسحاب المؤقت والعودة إلى مقاعد الدراسة – وفق ما صرّح – على أن يُقيّد أسلوبه أو يُنتج أعمالاً فاترة لا تشبهه.

وفي حين انقسم الجمهور والنقّاد في حكمهم على خطوة سامي، فإنها سلّطت الضوء على تأثير التحوّلات الأخيرة على مزاج المبدعين. صحيح أن سامي حالة خاصّة بحكم جماهيريته وجدل أعماله، لكنّ زملاءه شعروا أيضاً برياح التغيير. هناك من رحّب ضمنياً بمساعي ضبط السوق بعد فوضى السنوات الماضية – خاصّة من أُقصوا سابقاً في ظلّ احتكار الشركة الواحدة للمشهد – إذ يرون فرصة جديدة للعودة في ظلّ إدارة أكثر انفتاحاً على الكفاءات المهَمَّشة. 

الإعلامية والمحاضرة نشوى عقل تفاءلت بأن قيادة نور قد تُعيد وجوهاً خبيرة إلى الشاشة بعد أن همّشتها “شِللية” المرحلة السابقة، لكنها في الوقت نفسه حذّرت من الإفراط في التفاؤل: “فالسياسات الإعلامية لن تتغيّر بمجرّد تغيير الأسماء، ما لم تتغيّر العقلية الأمنية الحاكمة. أي أن صُنّاع المحتوى قد يجدون أنفسهم أمام إدارة أكثر حرفية في الإنتاج والتسويق، لكنّها لن تتساهل قيد أنملة في الخطوط السياسية الحمراء”.

رؤية جديدة بأدوات قديمة: إلى أين تمضي “المتحدة”؟

المشهد الذي يتكّشف لنا منذ نهاية 2024 وحتى ربيع 2025، يُوحي بأن “الشركة المتّحدة” تسعى لفرض رؤية مستقبلية مختلفة للإعلام والدراما في مصر؛ رؤية قد تبدو جديدة في أدواتها لكنها استمرار لمنهج قديم في جوهرها، تقوم هذه الرؤية على ركائز أساسية يمكن تلخيصها في: نموذج إنتاج منخفض التكلفة عالي الربحية، والتركيز على المنصّات الرقمية، واستلهام التجارب الإقليمية الناجحة، وفي مقدّمتها النموذج التركي في صناعة الدراما.

فعلى صعيد النموذج الاقتصادي، بات واضحاً أن “المتّحدة” تريد التحوّل من ذراع حكومي مثقل بالخسائر، إلى كيان ربحي مُستدام، مما يفرض عقلية تجارية بحتة في الإدارة. هذا يعني المزيد من إحكام الحزام المالي: إنتاج عدد أقلّ من المسلسلات لكن ذات جودة أعلى، وضمان تسويقها جيداً، وضبط أجور النجوم، وربما تقليص طول المواسم الدرامية. وبالفعل لوحظ مؤخراً اتّجاه نحو تقديم مسلسلات من 15 حلقة فقط في رمضان، بدلاً من 30، مما يخفّض التكلفة إلى النصف تقريباً، ويُتيح تنوّعاً أكبر على الخريطة البرامجية، كذلك ستسعى “المتّحدة” لزيادة تكرار التعاون مع القطاع الخاصّ المحلّي، عبر إشراك شركات إعلان وإنتاج مصرية مستقلّة، وكذلك الشراكات مع منصّات عربية وعالمية لتوزيع أعمالها، بهدف تقاسم التكلفة والمخاطرة.

أما التحوّل الرقمي، فهو حجر زاوية آخر. تمتلك “المتّحدة” بالفعل منصّة Watch iT التي أُطلقت قبل سنوات، لكنّها لم تحقّق انتشاراً واسعاً بعد. الإدارة الجديدة تدرك أن مستقبل المشاهدة يتّجه بخطى سريعة نحو المنصّات عند الطلب، لذا من المتوقّع ضخّ محتوى حصري على “واتش إت” وجعلها المنصّة الأولى في مصر، وربما التعاون مع منصّة “شاهد” السعودية أو غيرها لتوسيع الانتشار الإقليمي، أضف إلى ذلك دمج المحتوى الرقمي القصير ووسائل التواصل؛ فقد أشارت الدكتورة نشوى عقل إلى أهميّة استقطاب صناع المحتوى الشباب من “يوتيوب” و”تيك توك” إلى المنظومة التقليدية. هذا الدمج سيضخّ دماء جديدة ويجذب شرائح أصغر سناً من الجمهور التي هجرت التلفزيون إلى الهاتف. الفكرة باختصار: أن تكون “المتّحدة” موجودة على كلّ الشاشات – كبيرة كانت أو صغيرة – بمحتوى يناسب طبيعتها، من الدراما الطويلة إلى مقاطع الـReels السريعة.

مع ذلك، يواجه “نموذج المتّحدة” المنشود تحدّيات حقيقية، فالمعادلة التي تحاول تحقيقها صعبة: محتوى يُرضي الدولة ورقابتها، ويحقّق الربح للمستثمرين، ويجذب الجمهور المحلّي والعربي، وفي الوقت نفسه لا يفقد روح الإبداع وبصمة الهوّية المصرية التي صنعت أمجاد الدراما في الماضي. يخشى البعض أن تتحوّل الشركة إلى ماكينة إنتاج تجاري تكرّر الوصفات الناجحة حدّ الابتذال لضمان الربح، فتفقد الدراما نكهتها الإنسانية العميقة، كما أن إرضاء جميع “الرعاة”؛ الدولة والمموّلين والجمهور، مهمّة شبه مستحيلة؛ فربما يأتي يوم يضغط فيه مستثمر سعودي من أجل محتوى معيّن يتعارض مع الرؤية المصرية، أو تصرّ الدولة على رسالة دعائية قد يراها الجمهور مفتعلة وينفر منها.

لكن في المقابل، هناك من يرى بصيص أمل في هذه التحوّلات. فربما تدفع عقلية السوق التنافسية نحو رفع الجودة الفنّية بعد سنوات من الركود تحت مظلّة الاحتكار الحكومي، وقد تنتج عن الشراكات الجديدة أعمال جريئة الشكل، وإن كانت حذرة المضمون، كأن نشهد تطوراً في تقنيات التصوير والإخراج يواكب المعايير الدولية، حتى لو ظلّ الخطّ الدرامي محافظاً، ولعلّ دخول أموال خليجية يفتح الباب لإنتاج أعمال ضخمة عن موضوعات مشتركة (عربية أو تاريخية) كانت مصر تعجز عن تمويلها وحدها. إن تقاطع رأس المال السعودي ورمزية القوّة الناعمة المصرية قد يثمران، إن أُحسن استغلالهما، دراما عربية عابرة للحدود بحقّ، وهذا ما تعد به “الشركة المتّحدة” نفسها في خطاباتها.

في النهاية، ما يحدث في “الشركة المتّحدة” هو مرآة لما يحدث في مصر ككلّ: تغييرات ظاهرية كبيرة لضبط الأزمات العميقة، من دون مساس بجوهر السلطة أو طريقة إدارتها، إنه محاولة لخلق توازن جديد في الإعلام، يجمع بين قبضة الدولة واستثمارات السوق، وبين الإمتاع والفائدة، وبين المحلّي والعابر للحدود، وستبقى عين الرقيب ساهرة، لكنّ يد المستثمر ستمتدّ لتتحسّس نبض الجمهور، وفي هذه المنطقة الرمادية قد تولد معادلة مختلفة للإعلام المصري: معادلة تأمل الدولة أن تضمن لها السيطرة والرضا الشعبي معاً، ويأمل الجمهور أن تمنحه ترفيهاً أصدق وأقرب لواقعه. 

وحدها الأشهر والسنوات المقبلة ستكشف ما إذا كانت “المتّحدة” قادرة على فرض هذه الرؤية المستقبلية بنجاح، أم أنها مجرّد إعادة ترتيب للكراسي تحت سقف واحد، سرعان ما تكشف محدوديتها أمام تطلّعات شعب عطش لإعلام حرّ وخلّاق بحقّ. فهل نكتفي بأن تكون الدراما مجرّد “ترفيه نظيف” يُمرّر الرسائل الرسمية بانسيابية، أم نطمح إلى دراما جريئة تعبّر عنّا فعلاً؟ 

03.05.2025
زمن القراءة: 13 minutes
|
آخر القصص
وثائق إيلي كوهين تعود إلى تل أبيب: حفظ الحقيقة أم تكريس للسلطة الاستعمارية؟
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 23.05.2025
شهر على جيرة البحيرة
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 23.05.2025

اشترك بنشرتنا البريدية