في النصف الثاني من الخمسينات، مع “مشروع أيزنهاور” و”حلف بغداد”، راج وصف “شيوعيٍّ” بوصفه شتيمة. فالقوميّ العربيّ شيوعيّ، وكذلك الوطنيّ الفلسطينيّ، ومثلهما المسلم الذي يظنّ أنّ الغرب يناوىء الإسلام ويتآمر عليه.
كمال ناصر – الشاعر البعثيّ الأردنيّ الذي صار لاحقاً ناطقاً بلسان “منظّمة التحرير الفلسطينيّة” ثمّ قتله إيهود باراك في فردان ببيروت عام 1973 – كتب يومذاك قصيدة تسخر من هذا الاتّهام العشوائيّ بالشيوعيّة:
“يا صديق العمر هل أنت شيوعي؟
هل تعمّدتَ رفيقاً في القطيع؟
لا تخفْ واسخرْ من الجرم الفظيع
فأنا قدّمتُ قربان خشوعي
وأنا اليوم، على رغمي، شيوعيّ”…
القصيدة ليست تحفة شعريّة، إلاّ أنّها تنقل واحداً من أمزجة تلك المرحلة ومن احتجاجاتها: فالمرء يغدو شيوعيّاً، بهذا المعنى المرذول، لمجرّد أن لا يتّفق مع السياسات الأميركيّة في الشرق الأوسط، أو مع سياسات الحكومات المحلّيّة التي تصادق واشنطن.
الزمن كان زمن حرب باردة واستقطاب كونيّ حادّ، وفي أزمنة كهذه لا يبقى مكان للتمايز والتمييز. الجملة تغلب المفرّق. ولأنّ الصراع ضارٍ والناس مقسومة بحدّ السكّين، فأنت إمّا “معنا” أو “ضدّنا”، على ما قال لنا لاحقاً، كلٌّ بطريقته، جورج دبليو بوش وأسامة بن لادن.
آنذاك كانت الولايات المتّحدة نفسها تغادر المكارثيّة التي كثيراً ما عوّلت على التصنيف القاطع وبنتْ عليه مقتضاه كما تجسّد في تعامل شهير مع المثقّفين والفنّانين الأميركيّين. لكنّ الحرب الباردة منحت اللغة المكارثيّة حياة أطول خارج الولايات المتّحدة، وبموجب تلك اللغة وُصفت الشيوعيّة “العالميّة” بما يشبه وصف اليهوديّة “العالميّة” في القاموس اللاساميّ: إنّها أمّ الرذائل وسبب الفوضى والتآمر والتهتّك ومصّ دماء البشر.
ونعرف أنّ أميركا المكارثيّة لم تكن سوى تلميذة عابرة وغير نجيبة لخصومها التوتاليتاريّين الذين برعوا في التصنيف وتفنّنوا فيه: عميل، جاسوس، خائن، صهيونيّ، إمبرياليّ…، فضلاً عن استخدام بعض المعاني الحياديّة بوصفها تهماً شائنة: يهوديّ، بورجوازيّ، ليبراليّ، كوزموبوليتيّ…
وبدورها، طوّرت أحزابنا المحلّيّة قاموسها الموازي، فعُرف شيوعيّو العراق في الستينات والسبعينات بشتيمة “ليبراليّ حقير” يلصقونها ببعض خصومهم، وابتكر أنطون سعادة، المؤسّس اللاساميّ لـ “الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ”، شتيمة “يهود الداخل” يطلقها على خصومه.
والحال أنّ التصنيف القاطع هو طريق السيطرة على وضع معقّد يستعصي على التبسيط، أو بالأحرى، طريق توهّم السيطرة. إذاً: صنِّفْه تجعلْه مفهوماً وتُدخله في نطاق الإدراك والتعقّل، ومن ثمّ التعاطي. هكذا يتماسك صاحب التصنيف ويتحجّر في المعتقد الذي يعتقده فيما يُجعل الخطّ الحدوديّ الذي يفصله عن موضوع التصنيف كثيفاً وشاملاً، بل مطلقاً. وهذا إذا ما حال في حدّه الأدنى دون تسرّب عدوى الأخير إلى الأوّل، فإنّ حدّه الأقصى ليس إلاّ القتل والاجتثاث.
فإذا كان الخصم مثقّفاً مثلاً، بات من الضروريّ وصفه بـ “المزعوم” أو “الزائف” أو “المرتشي”، إذ يستحيل أن يكون المختلِف غير مزعوم أو زائف أو مرتشٍ في نظر المختَلَف عنه. هكذا، وللسبب هذا، يندر العثور في السجالات العربيّة، والسجالاتُ تُخرج من صدور الناس أدنى ما فيهم، من يقول: فلان مثقّف جدّيّ لكنّني لا أوافقه الرأي، أو أنّني أرى الأمور على عكس ما يراه.
فحكمٌ كهذا يهدّد تماسك التصنيف ويُضعفه، حيث لا يمكن جمع الصفات السلبيّة والإيجابيّة في تعريف واحد كالقول، مثلاً لا حصراً، إنّ الشيوعيّة التي أنشأت أنظمة استبداد منيعة تستند إلى عدّة فكريّة لا يُستهان بها، أو أنّ الإرهابيّ الانتحاريّ مجرم وشجاع في وقت واحد، أو أنّ أميركا أمّة عظيمة ذات سياسات رديئة في الشرق الأوسط…
وما يتولاّه مثقّفو السجالات البرّيّة يكمّله بإسفاف أكبر أتباع صغار يكتبون تعليقاتهم في ذيل المقالات، مشكّكين بأخلاقيّة المختلف، بل بأخلاقيّة أمّه وأبيه وزوجته وأبنائه. ذاك أنّ التصنيف يستدعي الذهاب إلى النهايات القصوى، بحيث تغدو رائحة المختلف كريهة وثيابه بشعة وبيته ماخوراً وأصله مشكوكاً فيه.
ومثل هذا النبذ المطلق إنّما يجسّد نقطة بارزة من النقاط المشتركة بين القبيلة في طردها “صعلوكَها”، أو ابن القبيلة الأخرى، والتوتاليتاريّة الحديثة في تحطيمها الخصم الإيديولوجيّ والسياسيّ بلا رحمة. بيد أنّ الطرفين يتحرّكان بوحي من نرجسيّة مَرَضيّة تنفخ الذات وتضخّمها فيما تعلن اضطراب علاقتها بداخلها وبما هو خارجها في آن واحد. ذاك أنّ الواثق بالكمال في ذاته، المردّد “سبحاني ما أعظم شاني” في نفسه، هو وحده الذي يجروء على التفاخر بأنّ مُخالفه إنّما هو العيب المطلق أو الخيانة المطلقة. وما يفاقم خطر هذه النرجسيّة واحتمالها العنفيّ أنّها طفليّة جدّاً، مولعة بجذب الانتباه عبر إتيان الغرائبيّ وغير المتوقّع. وفي سلوك كهذا يسود افتعال الصخب والغضب والتوتير، كما يُغيَّب مبدأ الواقع بحدوده وإمكاناته، وبغيابه تغيب كلّ مراجعة للأخطاء وكلّ اتّعاظ بدروسها.
وأغلب الظنّ أنّ التصنيف يجد ما يعزّزه في النظريّات التي تتجاوز فرداً بعينه إلى منظومة أوسع: فإذا كانت “سيّئات” شخص ما تعبيراً عن “سيّئات” طبقة اجتماعيّة بعينها مثلاً، بتنا أمام مرض لا يداويه دواء. فهذا “البورجوازيّ” – كمثل المنتمي إلى شعب آخر أو دين آخر أو قبيلة أخرى – ذنبه سابق على أيّ فعل فعله، وهو ذنب ماهويّ لا يعالجه القانون بل تعالجه الحرب، لأنّ المذنب المفترض لا يملك أن يكون شيئاً آخر. إنّه محكوم بأن يكون مذنباً.
وهو تصوّر عن السياسة يحيلها ويحيل العالم معها إلى ساحة حرب لا تتوقّف. لكنّه تعريفاً تصوّر مستقى من الغابة ومن افتراض ذئبيّة الإنسان الدائمة. وقد يكون الشعار المريض السائد اليوم في بعض الأوساط عن “أنسنة العدوّ” خير تعبير عن التصوّر المذكور. فمَن يرفض “أنسنة العدوّ”، ستكون كلّ ادّعاءاته التعدّديّة، أكانت فكريّة أو سياسيّة أو جنسيّة، كذباً محضاً. إنّه لا يقترح على الآخر المختلف إلاّ الاستئصال الذي يُمهَّد له بـ “توحيش العدوّ” و”حَيْوَنَته”. وليس بلا دلالة أنّ هذا الوعي ما إن يمدّ يده إلى مفهوم بعينه حتّى يزيل عنه كلّ خصوصيّة فيه ويردّه إلى عنف محض: فـ “الإمبرياليّة” و”الاستعمار” لا يتميّزان، والحال هذه، عن “الفاشيّة” أو “الصهيونيّة” أو “الوهّابيّة”. إنّها كلّها أسماء مستعارة لعنف يواكب تاريخ العداوة المتّصل.
لكنْ في مقابل “الغابة”، يحلّ “الملعب” بوصفه مصدراً لاستلهام السياسة في الوعي الديمقراطيّ. وليس بلا معنى أنّ إنكلترا، “أمّ البرلمانات” والأعرق في “اللعبة البرلمانيّة”، هي البلد الذي أنتج معظم الألعاب الرياضيّة التي صارت عالميّة في أزمنة لاحقة. ذاك أنّ القرف المبكر من العنف بنتيجة الحربين الأهليّتين المتتاليتين في أربعينات القرن السابع عشر عزّز الميل إلى تقريب السياسة من اللعب: فالغالب يغلب منافسه لكنّه لا يستأصله، وبالتالي، قد تتاح للمغلوب فرصة يتحوّل معها، من جديد، إلى غالب.
والبائس أنّ ذاك الخطّ الذي يبدأ بالتصنيف المُلزِم والمُحكَم ثمّ ينتهي بالاستئصال الجسديّ هو، اليوم، واحدة من مرايا حياتنا العربيّة حيث الحروب المفتوحة بين الكلّ والكلّ. فهذا الزواج المعمّم بين الهمجيّة المقيمة في بعضنا وأحدث تقنيّات القتل والترويع يجعل كلَّ مختلف مرشّحاً للموت، كما يجعل كلّ شيء سبباً للاختلاف. والموت، بعد كلّ حساب، يغدو الأفق الذي لا ترى العين سواه حينما تنظر.[video_player link=””][/video_player]
صنّفْه ثمّ اقتله
في النصف الثاني من الخمسينات، مع “مشروع أيزنهاور” و”حلف بغداد”، راج وصف “شيوعيٍّ” بوصفه شتيمة. فالقوميّ العربيّ شيوعيّ، وكذلك الوطنيّ الفلسطينيّ، ومثلهما المسلم الذي يظنّ أنّ الغرب يناوىء الإسلام ويتآمر عليه. كمال ناصر – الشاعر البعثيّ الأردنيّ الذي صار لاحقاً ناطقاً بلسان “منظّمة التحرير الفلسطينيّة” ثمّ قتله إيهود باراك في فردان ببيروت عام 1973 – كتب يومذاك قصيدة تسخر من هذا الاتّهام العشوائيّ بالشيوعيّة: “يا صديق العمر هل أنت شيوعي؟ هل تعمّدتَ رفيقاً في القطيع؟ لا تخفْ واسخرْ من الجرم الفظيع فأنا قدّمتُ قربان خشوعي وأنا اليوم، على رغمي، شيوعيّ”… القصيدة ليست تحفة شعريّة، إلاّ أنّها تنقل واحداً من أمزجة تلك المرحلة ومن احتجاجاتها: فالمرء يغدو شيوعيّاً، بهذا المعنى المرذول، لمجرّد أن لا يتّفق مع السياسات الأميركيّة في الشرق الأوسط، أو مع سياسات الحكومات المحلّيّة التي تصادق واشنطن. الزمن كان زمن حرب باردة واستقطاب كونيّ حادّ، وفي أزمنة كهذه لا يبقى مكان للتمايز والتمييز. الجملة تغلب المفرّق. ولأنّ الصراع ضارٍ والناس مقسومة بحدّ السكّين، فأنت إمّا “معنا” أو “ضدّنا”، على ما قال لنا لاحقاً، كلٌّ بطريقته، جورج دبليو بوش وأسامة بن لادن. آنذاك كانت الولايات المتّحدة نفسها تغادر المكارثيّة التي كثيراً ما عوّلت على التصنيف القاطع وبنتْ عليه مقتضاه كما تجسّد في تعامل شهير مع المثقّفين والفنّانين الأميركيّين. لكنّ الحرب…
اللاذقيّة خلال 3 أيام الحرب التي لن تحصل أبداً
سقوط نظام الأسد الأبدي والإبادي إلى الأبد
بشار الأسد الذي كان يلهو بدماء مريديه
في النصف الثاني من الخمسينات، مع “مشروع أيزنهاور” و”حلف بغداد”، راج وصف “شيوعيٍّ” بوصفه شتيمة. فالقوميّ العربيّ شيوعيّ، وكذلك الوطنيّ الفلسطينيّ، ومثلهما المسلم الذي يظنّ أنّ الغرب يناوىء الإسلام ويتآمر عليه. كمال ناصر – الشاعر البعثيّ الأردنيّ الذي صار لاحقاً ناطقاً بلسان “منظّمة التحرير الفلسطينيّة” ثمّ قتله إيهود باراك في فردان ببيروت عام 1973 – كتب يومذاك قصيدة تسخر من هذا الاتّهام العشوائيّ بالشيوعيّة: “يا صديق العمر هل أنت شيوعي؟ هل تعمّدتَ رفيقاً في القطيع؟ لا تخفْ واسخرْ من الجرم الفظيع فأنا قدّمتُ قربان خشوعي وأنا اليوم، على رغمي، شيوعيّ”… القصيدة ليست تحفة شعريّة، إلاّ أنّها تنقل واحداً من أمزجة تلك المرحلة ومن احتجاجاتها: فالمرء يغدو شيوعيّاً، بهذا المعنى المرذول، لمجرّد أن لا يتّفق مع السياسات الأميركيّة في الشرق الأوسط، أو مع سياسات الحكومات المحلّيّة التي تصادق واشنطن. الزمن كان زمن حرب باردة واستقطاب كونيّ حادّ، وفي أزمنة كهذه لا يبقى مكان للتمايز والتمييز. الجملة تغلب المفرّق. ولأنّ الصراع ضارٍ والناس مقسومة بحدّ السكّين، فأنت إمّا “معنا” أو “ضدّنا”، على ما قال لنا لاحقاً، كلٌّ بطريقته، جورج دبليو بوش وأسامة بن لادن. آنذاك كانت الولايات المتّحدة نفسها تغادر المكارثيّة التي كثيراً ما عوّلت على التصنيف القاطع وبنتْ عليه مقتضاه كما تجسّد في تعامل شهير مع المثقّفين والفنّانين الأميركيّين. لكنّ الحرب الباردة منحت اللغة المكارثيّة حياة أطول خارج الولايات المتّحدة، وبموجب تلك اللغة وُصفت الشيوعيّة “العالميّة” بما يشبه وصف اليهوديّة “العالميّة” في القاموس اللاساميّ: إنّها أمّ الرذائل وسبب الفوضى والتآمر والتهتّك ومصّ دماء البشر. ونعرف أنّ أميركا المكارثيّة لم تكن سوى تلميذة عابرة وغير نجيبة لخصومها التوتاليتاريّين الذين برعوا في التصنيف وتفنّنوا فيه: عميل، جاسوس، خائن، صهيونيّ، إمبرياليّ…، فضلاً عن استخدام بعض المعاني الحياديّة بوصفها تهماً شائنة: يهوديّ، بورجوازيّ، ليبراليّ، كوزموبوليتيّ… وبدورها، طوّرت أحزابنا المحلّيّة قاموسها الموازي، فعُرف شيوعيّو العراق في الستينات والسبعينات بشتيمة “ليبراليّ حقير” يلصقونها ببعض خصومهم، وابتكر أنطون سعادة، المؤسّس اللاساميّ لـ “الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ”، شتيمة “يهود الداخل” يطلقها على خصومه. والحال أنّ التصنيف القاطع هو طريق السيطرة على وضع معقّد يستعصي على التبسيط، أو بالأحرى، طريق توهّم السيطرة. إذاً: صنِّفْه تجعلْه مفهوماً وتُدخله في نطاق الإدراك والتعقّل، ومن ثمّ التعاطي. هكذا يتماسك صاحب التصنيف ويتحجّر في المعتقد الذي يعتقده فيما يُجعل الخطّ الحدوديّ الذي يفصله عن موضوع التصنيف كثيفاً وشاملاً، بل مطلقاً. وهذا إذا ما حال في حدّه الأدنى دون تسرّب عدوى الأخير إلى الأوّل، فإنّ حدّه الأقصى ليس إلاّ القتل والاجتثاث. فإذا كان الخصم مثقّفاً مثلاً، بات من الضروريّ وصفه بـ “المزعوم” أو “الزائف” أو “المرتشي”، إذ يستحيل أن يكون المختلِف غير مزعوم أو زائف أو مرتشٍ في نظر المختَلَف عنه. هكذا، وللسبب هذا، يندر العثور في السجالات العربيّة، والسجالاتُ تُخرج من صدور الناس أدنى ما فيهم، من يقول: فلان مثقّف جدّيّ لكنّني لا أوافقه الرأي، أو أنّني أرى الأمور على عكس ما يراه. فحكمٌ كهذا يهدّد تماسك التصنيف ويُضعفه، حيث لا يمكن جمع الصفات السلبيّة والإيجابيّة في تعريف واحد كالقول، مثلاً لا حصراً، إنّ الشيوعيّة التي أنشأت أنظمة استبداد منيعة تستند إلى عدّة فكريّة لا يُستهان بها، أو أنّ الإرهابيّ الانتحاريّ مجرم وشجاع في وقت واحد، أو أنّ أميركا أمّة عظيمة ذات سياسات رديئة في الشرق الأوسط… وما يتولاّه مثقّفو السجالات البرّيّة يكمّله بإسفاف أكبر أتباع صغار يكتبون تعليقاتهم في ذيل المقالات، مشكّكين بأخلاقيّة المختلف، بل بأخلاقيّة أمّه وأبيه وزوجته وأبنائه. ذاك أنّ التصنيف يستدعي الذهاب إلى النهايات القصوى، بحيث تغدو رائحة المختلف كريهة وثيابه بشعة وبيته ماخوراً وأصله مشكوكاً فيه. ومثل هذا النبذ المطلق إنّما يجسّد نقطة بارزة من النقاط المشتركة بين القبيلة في طردها “صعلوكَها”، أو ابن القبيلة الأخرى، والتوتاليتاريّة الحديثة في تحطيمها الخصم الإيديولوجيّ والسياسيّ بلا رحمة. بيد أنّ الطرفين يتحرّكان بوحي من نرجسيّة مَرَضيّة تنفخ الذات وتضخّمها فيما تعلن اضطراب علاقتها بداخلها وبما هو خارجها في آن واحد. ذاك أنّ الواثق بالكمال في ذاته، المردّد “سبحاني ما أعظم شاني” في نفسه، هو وحده الذي يجروء على التفاخر بأنّ مُخالفه إنّما هو العيب المطلق أو الخيانة المطلقة. وما يفاقم خطر هذه النرجسيّة واحتمالها العنفيّ أنّها طفليّة جدّاً، مولعة بجذب الانتباه عبر إتيان الغرائبيّ وغير المتوقّع. وفي سلوك كهذا يسود افتعال الصخب والغضب والتوتير، كما يُغيَّب مبدأ الواقع بحدوده وإمكاناته، وبغيابه تغيب كلّ مراجعة للأخطاء وكلّ اتّعاظ بدروسها. وأغلب الظنّ أنّ التصنيف يجد ما يعزّزه في النظريّات التي تتجاوز فرداً بعينه إلى منظومة أوسع: فإذا كانت “سيّئات” شخص ما تعبيراً عن “سيّئات” طبقة اجتماعيّة بعينها مثلاً، بتنا أمام مرض لا يداويه دواء. فهذا “البورجوازيّ” – كمثل المنتمي إلى شعب آخر أو دين آخر أو قبيلة أخرى – ذنبه سابق على أيّ فعل فعله، وهو ذنب ماهويّ لا يعالجه القانون بل تعالجه الحرب، لأنّ المذنب المفترض لا يملك أن يكون شيئاً آخر. إنّه محكوم بأن يكون مذنباً. وهو تصوّر عن السياسة يحيلها ويحيل العالم معها إلى ساحة حرب لا تتوقّف. لكنّه تعريفاً تصوّر مستقى من الغابة ومن افتراض ذئبيّة الإنسان الدائمة. وقد يكون الشعار المريض السائد اليوم في بعض الأوساط عن “أنسنة العدوّ” خير تعبير عن التصوّر المذكور. فمَن يرفض “أنسنة العدوّ”، ستكون كلّ ادّعاءاته التعدّديّة، أكانت فكريّة أو سياسيّة أو جنسيّة، كذباً محضاً. إنّه لا يقترح على الآخر المختلف إلاّ الاستئصال الذي يُمهَّد له بـ “توحيش العدوّ” و”حَيْوَنَته”. وليس بلا دلالة أنّ هذا الوعي ما إن يمدّ يده إلى مفهوم بعينه حتّى يزيل عنه كلّ خصوصيّة فيه ويردّه إلى عنف محض: فـ “الإمبرياليّة” و”الاستعمار” لا يتميّزان، والحال هذه، عن “الفاشيّة” أو “الصهيونيّة” أو “الوهّابيّة”. إنّها كلّها أسماء مستعارة لعنف يواكب تاريخ العداوة المتّصل. لكنْ في مقابل “الغابة”، يحلّ “الملعب” بوصفه مصدراً لاستلهام السياسة في الوعي الديمقراطيّ. وليس بلا معنى أنّ إنكلترا، “أمّ البرلمانات” والأعرق في “اللعبة البرلمانيّة”، هي البلد الذي أنتج معظم الألعاب الرياضيّة التي صارت عالميّة في أزمنة لاحقة. ذاك أنّ القرف المبكر من العنف بنتيجة الحربين الأهليّتين المتتاليتين في أربعينات القرن السابع عشر عزّز الميل إلى تقريب السياسة من اللعب: فالغالب يغلب منافسه لكنّه لا يستأصله، وبالتالي، قد تتاح للمغلوب فرصة يتحوّل معها، من جديد، إلى غالب. والبائس أنّ ذاك الخطّ الذي يبدأ بالتصنيف المُلزِم والمُحكَم ثمّ ينتهي بالاستئصال الجسديّ هو، اليوم، واحدة من مرايا حياتنا العربيّة حيث الحروب المفتوحة بين الكلّ والكلّ. فهذا الزواج المعمّم بين الهمجيّة المقيمة في بعضنا وأحدث تقنيّات القتل والترويع يجعل كلَّ مختلف مرشّحاً للموت، كما يجعل كلّ شيء سبباً للاختلاف. والموت، بعد كلّ حساب، يغدو الأفق الذي لا ترى العين سواه حينما تنظر.[video_player link=””][/video_player]
في النصف الثاني من الخمسينات، مع “مشروع أيزنهاور” و”حلف بغداد”، راج وصف “شيوعيٍّ” بوصفه شتيمة. فالقوميّ العربيّ شيوعيّ، وكذلك الوطنيّ الفلسطينيّ، ومثلهما المسلم الذي يظنّ أنّ الغرب يناوىء الإسلام ويتآمر عليه.
كمال ناصر – الشاعر البعثيّ الأردنيّ الذي صار لاحقاً ناطقاً بلسان “منظّمة التحرير الفلسطينيّة” ثمّ قتله إيهود باراك في فردان ببيروت عام 1973 – كتب يومذاك قصيدة تسخر من هذا الاتّهام العشوائيّ بالشيوعيّة:
“يا صديق العمر هل أنت شيوعي؟
هل تعمّدتَ رفيقاً في القطيع؟
لا تخفْ واسخرْ من الجرم الفظيع
فأنا قدّمتُ قربان خشوعي
وأنا اليوم، على رغمي، شيوعيّ”…
القصيدة ليست تحفة شعريّة، إلاّ أنّها تنقل واحداً من أمزجة تلك المرحلة ومن احتجاجاتها: فالمرء يغدو شيوعيّاً، بهذا المعنى المرذول، لمجرّد أن لا يتّفق مع السياسات الأميركيّة في الشرق الأوسط، أو مع سياسات الحكومات المحلّيّة التي تصادق واشنطن.
الزمن كان زمن حرب باردة واستقطاب كونيّ حادّ، وفي أزمنة كهذه لا يبقى مكان للتمايز والتمييز. الجملة تغلب المفرّق. ولأنّ الصراع ضارٍ والناس مقسومة بحدّ السكّين، فأنت إمّا “معنا” أو “ضدّنا”، على ما قال لنا لاحقاً، كلٌّ بطريقته، جورج دبليو بوش وأسامة بن لادن.
آنذاك كانت الولايات المتّحدة نفسها تغادر المكارثيّة التي كثيراً ما عوّلت على التصنيف القاطع وبنتْ عليه مقتضاه كما تجسّد في تعامل شهير مع المثقّفين والفنّانين الأميركيّين. لكنّ الحرب الباردة منحت اللغة المكارثيّة حياة أطول خارج الولايات المتّحدة، وبموجب تلك اللغة وُصفت الشيوعيّة “العالميّة” بما يشبه وصف اليهوديّة “العالميّة” في القاموس اللاساميّ: إنّها أمّ الرذائل وسبب الفوضى والتآمر والتهتّك ومصّ دماء البشر.
ونعرف أنّ أميركا المكارثيّة لم تكن سوى تلميذة عابرة وغير نجيبة لخصومها التوتاليتاريّين الذين برعوا في التصنيف وتفنّنوا فيه: عميل، جاسوس، خائن، صهيونيّ، إمبرياليّ…، فضلاً عن استخدام بعض المعاني الحياديّة بوصفها تهماً شائنة: يهوديّ، بورجوازيّ، ليبراليّ، كوزموبوليتيّ…
وبدورها، طوّرت أحزابنا المحلّيّة قاموسها الموازي، فعُرف شيوعيّو العراق في الستينات والسبعينات بشتيمة “ليبراليّ حقير” يلصقونها ببعض خصومهم، وابتكر أنطون سعادة، المؤسّس اللاساميّ لـ “الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ”، شتيمة “يهود الداخل” يطلقها على خصومه.
والحال أنّ التصنيف القاطع هو طريق السيطرة على وضع معقّد يستعصي على التبسيط، أو بالأحرى، طريق توهّم السيطرة. إذاً: صنِّفْه تجعلْه مفهوماً وتُدخله في نطاق الإدراك والتعقّل، ومن ثمّ التعاطي. هكذا يتماسك صاحب التصنيف ويتحجّر في المعتقد الذي يعتقده فيما يُجعل الخطّ الحدوديّ الذي يفصله عن موضوع التصنيف كثيفاً وشاملاً، بل مطلقاً. وهذا إذا ما حال في حدّه الأدنى دون تسرّب عدوى الأخير إلى الأوّل، فإنّ حدّه الأقصى ليس إلاّ القتل والاجتثاث.
فإذا كان الخصم مثقّفاً مثلاً، بات من الضروريّ وصفه بـ “المزعوم” أو “الزائف” أو “المرتشي”، إذ يستحيل أن يكون المختلِف غير مزعوم أو زائف أو مرتشٍ في نظر المختَلَف عنه. هكذا، وللسبب هذا، يندر العثور في السجالات العربيّة، والسجالاتُ تُخرج من صدور الناس أدنى ما فيهم، من يقول: فلان مثقّف جدّيّ لكنّني لا أوافقه الرأي، أو أنّني أرى الأمور على عكس ما يراه.
فحكمٌ كهذا يهدّد تماسك التصنيف ويُضعفه، حيث لا يمكن جمع الصفات السلبيّة والإيجابيّة في تعريف واحد كالقول، مثلاً لا حصراً، إنّ الشيوعيّة التي أنشأت أنظمة استبداد منيعة تستند إلى عدّة فكريّة لا يُستهان بها، أو أنّ الإرهابيّ الانتحاريّ مجرم وشجاع في وقت واحد، أو أنّ أميركا أمّة عظيمة ذات سياسات رديئة في الشرق الأوسط…
وما يتولاّه مثقّفو السجالات البرّيّة يكمّله بإسفاف أكبر أتباع صغار يكتبون تعليقاتهم في ذيل المقالات، مشكّكين بأخلاقيّة المختلف، بل بأخلاقيّة أمّه وأبيه وزوجته وأبنائه. ذاك أنّ التصنيف يستدعي الذهاب إلى النهايات القصوى، بحيث تغدو رائحة المختلف كريهة وثيابه بشعة وبيته ماخوراً وأصله مشكوكاً فيه.
ومثل هذا النبذ المطلق إنّما يجسّد نقطة بارزة من النقاط المشتركة بين القبيلة في طردها “صعلوكَها”، أو ابن القبيلة الأخرى، والتوتاليتاريّة الحديثة في تحطيمها الخصم الإيديولوجيّ والسياسيّ بلا رحمة. بيد أنّ الطرفين يتحرّكان بوحي من نرجسيّة مَرَضيّة تنفخ الذات وتضخّمها فيما تعلن اضطراب علاقتها بداخلها وبما هو خارجها في آن واحد. ذاك أنّ الواثق بالكمال في ذاته، المردّد “سبحاني ما أعظم شاني” في نفسه، هو وحده الذي يجروء على التفاخر بأنّ مُخالفه إنّما هو العيب المطلق أو الخيانة المطلقة. وما يفاقم خطر هذه النرجسيّة واحتمالها العنفيّ أنّها طفليّة جدّاً، مولعة بجذب الانتباه عبر إتيان الغرائبيّ وغير المتوقّع. وفي سلوك كهذا يسود افتعال الصخب والغضب والتوتير، كما يُغيَّب مبدأ الواقع بحدوده وإمكاناته، وبغيابه تغيب كلّ مراجعة للأخطاء وكلّ اتّعاظ بدروسها.
وأغلب الظنّ أنّ التصنيف يجد ما يعزّزه في النظريّات التي تتجاوز فرداً بعينه إلى منظومة أوسع: فإذا كانت “سيّئات” شخص ما تعبيراً عن “سيّئات” طبقة اجتماعيّة بعينها مثلاً، بتنا أمام مرض لا يداويه دواء. فهذا “البورجوازيّ” – كمثل المنتمي إلى شعب آخر أو دين آخر أو قبيلة أخرى – ذنبه سابق على أيّ فعل فعله، وهو ذنب ماهويّ لا يعالجه القانون بل تعالجه الحرب، لأنّ المذنب المفترض لا يملك أن يكون شيئاً آخر. إنّه محكوم بأن يكون مذنباً.
وهو تصوّر عن السياسة يحيلها ويحيل العالم معها إلى ساحة حرب لا تتوقّف. لكنّه تعريفاً تصوّر مستقى من الغابة ومن افتراض ذئبيّة الإنسان الدائمة. وقد يكون الشعار المريض السائد اليوم في بعض الأوساط عن “أنسنة العدوّ” خير تعبير عن التصوّر المذكور. فمَن يرفض “أنسنة العدوّ”، ستكون كلّ ادّعاءاته التعدّديّة، أكانت فكريّة أو سياسيّة أو جنسيّة، كذباً محضاً. إنّه لا يقترح على الآخر المختلف إلاّ الاستئصال الذي يُمهَّد له بـ “توحيش العدوّ” و”حَيْوَنَته”. وليس بلا دلالة أنّ هذا الوعي ما إن يمدّ يده إلى مفهوم بعينه حتّى يزيل عنه كلّ خصوصيّة فيه ويردّه إلى عنف محض: فـ “الإمبرياليّة” و”الاستعمار” لا يتميّزان، والحال هذه، عن “الفاشيّة” أو “الصهيونيّة” أو “الوهّابيّة”. إنّها كلّها أسماء مستعارة لعنف يواكب تاريخ العداوة المتّصل.
لكنْ في مقابل “الغابة”، يحلّ “الملعب” بوصفه مصدراً لاستلهام السياسة في الوعي الديمقراطيّ. وليس بلا معنى أنّ إنكلترا، “أمّ البرلمانات” والأعرق في “اللعبة البرلمانيّة”، هي البلد الذي أنتج معظم الألعاب الرياضيّة التي صارت عالميّة في أزمنة لاحقة. ذاك أنّ القرف المبكر من العنف بنتيجة الحربين الأهليّتين المتتاليتين في أربعينات القرن السابع عشر عزّز الميل إلى تقريب السياسة من اللعب: فالغالب يغلب منافسه لكنّه لا يستأصله، وبالتالي، قد تتاح للمغلوب فرصة يتحوّل معها، من جديد، إلى غالب.
والبائس أنّ ذاك الخطّ الذي يبدأ بالتصنيف المُلزِم والمُحكَم ثمّ ينتهي بالاستئصال الجسديّ هو، اليوم، واحدة من مرايا حياتنا العربيّة حيث الحروب المفتوحة بين الكلّ والكلّ. فهذا الزواج المعمّم بين الهمجيّة المقيمة في بعضنا وأحدث تقنيّات القتل والترويع يجعل كلَّ مختلف مرشّحاً للموت، كما يجعل كلّ شيء سبباً للاختلاف. والموت، بعد كلّ حساب، يغدو الأفق الذي لا ترى العين سواه حينما تنظر.[video_player link=””][/video_player]