“واحدة من أهم الأدوات الأكثر فاعلية هي أن تضرب إحساس الأمان عند الإنسان عموماً وخلال الحرب بخاصة، عندما تكون المستشفيات التي يفترض أن تكون محميّة وفق الأعراف الدولية، وتأتي إسرائيل لتعطي أوامر إخلاء وتقصف حتى إن لم يتم الإخلاء، وفي هذه المستشفيات نازحون. وهي تكمن في مساعي إسرائيل لتطهير غزة من الفلسطينيين”، هذا ما قالته غادة مجادلة، باحثة بالصحة وحقوق الإنسان في فلسطين.
تضيف مجادلة أن هذه المستشفيات كان لها دور إنساني وسياسي في التصدي لمحاولات تطهير شمال قطاع غزة، لذلك قصفتها إسرائيل، واليوم هنالك ثلاثة مستشفيات فقط في كل القطاع يعتمد عليها المدنيون في غزة، والمستشفى الوحيد القادر حتى الآن على معالجة الجرحى هو مستشفى ناصر في خان يونس، وهو أيضاً تم اجتياحه ومحاصرته وقصفه، ما أدى إلى حدوث نقص كبير في الإمكانات. كل هذه الأحداث والانتهاكات بما فيها التجويع المتعمد، تزيد من احتياجات المدنيين إلى الرعاية الصحية، إذ إن كل ما يتعلق بصحة الفلسطينيين والبنى التحتية الصحية يعد أمراً مركزياً في حرب الإبادة على غزة.
منذ بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى تموز/ يوليو 2024، تعرضت المرافق الطبية في قطاع غزة والضفة الغربية إلى سلسلة هجمات ممنهجة من القوات الإسرائيلية. ووفقاً للتقرير المقدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، تم تسجيل 498 هجوماً على مرافق الرعاية الصحية، ما أدى إلى مقتل 969 شخصاً، من بينهم مسعفون ومرضى، وإصابة المئات بجروح خطيرة.
كذلك تسبب الهجمات على المستشفيات في تدمير واسع للبنية التحتية الصحية، وأدت إلى إرباك النظام الصحي بشكل كبير، بما في ذلك انقطاع الكهرباء والوقود، ما ساهم في تدهور الخدمات الطبية ونقص الإمدادات الحيوية، مثل الأدوية والمعدات الطبية. ناهيك بإغلاق 20 مستشفى بالكامل أو بشكل جزئي، ما زاد من معاناة المرضى، لا سيما أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة، والنساء الحوامل والأطفال.
كما شملت الانتهاكات استهداف سيارات الإسعاف، إذ تعرضت 61 سيارة إسعاف لهجمات مباشرة. وواجهت الطواقم الطبية أيضاً اعتقالات ومضايقات من القوات الإسرائيلية، إذ أفادت التقارير باعتقال عدد من الأطباء والمسعفين.
وعلى رغم ادعاءات القوات الإسرائيلية باستخدام الجماعات المسلحة الفلسطينية للمستشفيات لأغراض عسكرية، إلا أنه لم تُقدم أدلة كافية تدعم هذه المزاعم، وظلت المستشفيات والمرافق الصحية هدفاً للهجمات العسكرية، ما يزيد من المخاطر على حياة المرضى والطواقم الطبية في القطاع.
يقول المحامي والناشط الحقوقي المتخصص في القانون الدولي الإنساني، المعتصم الكيلاني، والذي عمل على توثيق الانتهاكات في غزة، إنه وفقاً للتقارير المتاحة، لم تقدم إسرائيل أي دليل يثبت استخدام المنشآت الطبية في غزة لدعم العمليات العسكرية. وعليه، فإن استهداف هذه المنشآت يمثل انتهاكاً صريحاً لمبدأ التمييز الذي ينص على حماية المنشآت الطبية والعاملين فيها.
ويشدد الكيلاني على ضرورة متابعة هذا الملف أمام الجهات القضائية الدولية المتخصصة، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية، لإجراء تحقيقات شاملة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، مؤكداً أن الإجراءات التي تتبعها قوات جيش الاحتلال غير قانونية، ويمكن تصنيفها كجرائم حرب.
إقرأوا أيضاً:
نهج يُكرَّر في لبنان
يبدو أن إسرائيل تتبع النهج نفسه في حربها على لبنان، إذ وجه المتحدث الرسمي بإسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي اتهامات الى عناصر حزب الله باستخدامهم سيارات الإسعاف لنقل مخربين وأسلحة، مؤكداً أن الجيش الإسرائيلي سيتخذ الإجراءات اللازمة ضد أي مركبة تنقل مسلحين، بغض النظر عن نوعها.
ومنذ بدء الحرب في لبنان وحتى كتابة هذا المقال، قُتل أكثر من 102 عامل في مجال الرعاية الصحية وأصيب أكثر من 225 آخرين بجروح. كما تضررت 128 سيارة إطفاء أو إسعاف و45 مركزاً طبياً و9 مستشفيات بسبب الهجمات العسكرية الإسرائيلية.
من جهة أخرى، لا يزال الجيش الإسرائيلي يهدد علانية باستهداف مستشفى الساحل في الضاحية الجنوبية لبيروت، والذي كان يعمل جزئياً رغم الظروف الأمنية البالغة الصعوبة، بحجة وجود سرداب طوارئ تابع لحزب الله يخزن فيه أمواله الرئيسية. على إثر ذلك، نظمت المستشفى جولة إعلامية للصحافيين لإثبات خلوّها من الاتهامات الموجهة إليها. كما أصدرت نقابة الأطباء والمستشفيات في لبنان بياناً تستنكر فيه هذه التهديدات التي وصفتها بأنها مبنية على حجج لا تمت الى الواقع بصلة، وناشدت المجتمع الدولي اتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ قرار إبعاد القطاع الصحي والمستشفيات بكل طواقمها العاملة مع المرضى عن هذه الاعتداءات، تطبيقاً للقانون الدولي الذي ينص ّ “على تأمين الحماية للمواقع المدنية”.
في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، استهدفت غارة إسرائيلية أحد مداخل مستشفى بيروت الحكومي الجامعي، الذي لا يزال يعمل بشكل طبيعي بكامل طاقمه الطبي والصحي ويستقبل عدداً كبيراً من المرضى، ويوجد فيه مركز أساسي للجنة الدولية للصليب الأحمر وفق وزارة الصحة اللبنانية.
واضطرت منظمة “أطباء بلا حدود” إخيراً إلى إغلاق عيادتها بالكامل في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في ضاحية بيروت الجنوبية، ووقف أنشطتها مؤقتاً في بعلبك-الهرمل، شمال شرقي لبنان، على رغم تضررهما بشدة بفعل القصف.
وفي 5 تشرين الأول تم قصف أحد المستشفيات الذي كانت “أطباء بلا حدود” تخطط لدعمه بالأدوية ومجموعات الرعاية بالإصابات البالغة، في النبطية التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن خطوط الجبهة النشطة.
وحتى الأول من تشرين الأول 2024، أُغلقت ستة مستشفيات و40 مركزاً للرعاية الصحية الأساسية بسبب غياب ضمانات للسلامة، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
وجاء في بيان صادر عن الصليب الأحمر اللبناني على إثر الغارة التي استهدفت منطقة جويّا في الجنوب، “تحركت سيّارتا إسعاف للصليب الأحمر اللبناني مع طواقمها عند الساعة 4:30 بعد ظهر اليوم الأربعاء 16 تشرين الأول بعد إجراء الاتصالات اللازمة مع اليونيفيل، فوصلت الطواقم الى المكان عند الساعة 4:52 وبدأ المسح من أجل البحث عن المصابين لإسعافهم وإنقاذهم، عند الساعة 5:10 تعرض الموقع للاستهداف فأصيب مسعفان اثنان بجروح طفيفة جراء الشظايا”.
كما سبق أن تعرض فريق من الصليب الأحمر لحادثة مماثلة في 13 تشرين الأول حين ذهب فريق الإسعاف إلى سربين، جنوب لبنان، عقب الغارة الجوية على منزل، بالتنسيق مع اليونيفيل. وبينما كان الفريق يبحث عن ضحايا لإنقاذهم، تعرض المنزل للقصف للمرة الثانية، ما أدى إلى إصابة المتطوعين وإلحاق أضرار بسيارتي الإسعاف. وتم نقل المتطوعين الذين أصيبوا بجروح طفيفة إلى المستشفى.
وفي الحالتين، يتجلى اعتماد الـDouble Tap Attacks، أي الهجمات المزدوجة، وهي تكتيك عسكري غير أخلاقي يستخدم فيه المهاجمون قذيفتين أو أكثر بشكل متعاقب، تهدف القذيفة الأولى الى إحداث أكبر قدر من الضرر، بينما تستهدف القذيفة الثانية المسعفين والأشخاص الذين يحاولون مساعدة الجرحى الذين أصيبوا جراء القذيفة الأولى. ويعتبر هذا النوع من الهجمات انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي، وقد يرقى الى مستوى جرائم الحرب، التي تم حظرها بشكل صريح بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يعرف جرائم الحرب على أنها هجمات تستهدف المدنيين مثل المسعفين، والأشخاص العاجزين عن القتال مثل الجرحى، وتكون عشوائية لا تميز بين المدنيين والمقاتلين، وهي هجمات تسبب معاناة لا داعي لها.
عسكرياً وقانونياً، هنالك مبدآن يجب أن تمتثل لهما الهجمات العسكرية ، وهما: مبدأ التمييز، بحيث يجب التمييز بين المدنيين والمسلحين، وحماية المدنيين من الهجمات المباشرة، بمن في ذلك المسعفون والعاملون في المجال الطبي. ومبدأ التناسب الذي يتطلب أن تكون الخسائر المدنية الناتجة من أي هجوم مبررة ومتناسبة مع المكاسب العسكرية المتوقعة. تعتبر الهجمات التي تؤدي إلى خسائر مفرطة في الأرواح، كما حدث في غزة، غير قانونية وفقاً للمادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول. بالإضافة إلى ذلك، يسمح مبدأ الضرورة العسكرية بالهجمات فقط إذا كانت تهدف الى تحقيق ميزة عسكرية محددة، وفي حالة المنشآت الطبية، لم تُثبت إسرائيل استخدامها لأغراض عسكرية.
في شهادة حصل عليها “درج” من غسان زحيم، رئيس العمليات في الدفاع المدني في الضاحية الجنوبية، يقول: “ما في مكان آمن، الأبنية تتعرض للقصف… لا نملك معدات ثقيلة لحمل الأنقاض ولا نستطيع الوصول بسبب الدمار الناتج، الدفاع المدني الذي كان مصدر أمان للعالم أصبح مصدر خوف، عندما يرانا الناس على الطريق يهلعون ويبتعدون عنا، لأن العدو الإسرائيلي يواجه دائماً رسائل تهديد لنا ويستهدفون سيارات الإسعاف والإطفاء وفرق الإغاثة…”.
أضاف زحيم أنه تلقى اتصالات في غرفة العمليات وأخرى على أرقامه الشخصية تهدده بعدم اسعاف المدنيين وإلا سيتم استهدافهم أيضاً، كما طالت التهديدات فرق الاسعاف التي تذهب إلى مناطق الهجمات، يقول زحيم أنهم قالوا بالحرف الواحد “صواريخنا رح تلحقكن”، يؤكد زحيم أن التهديدات لم تثنيهم عن الاستمرار في تقديم المساعدة، على رغم أنه شهد زملاء له قتلوا وجرحوا إثر استهدافهم اثناء تأدية واجبهم.
جرائم بلا رادع
بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولها الإضافي الأول لعام 1977، تُمنح المنشآت الطبية، بما في ذلك المستشفيات والعاملون في القطاع الطبي، حماية خاصة. وأي استهداف لهذه المنشآت يُعد خرقاً جسيماً للقانون الدولي الإنساني، وقد يُصنّف كجريمة حرب بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وبموجب المادة 70 من البروتوكول الإضافي الأول، على الأطراف المتحاربة تسهيل تقديم المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الرعاية الطبية.
تفيد ديالا شحادة، محامية وناشطة حقوقية عملت سابقاً لدى محكمة الجنايات الدولية، بأن إسرائيل تقوم دوماً بتبرير خرقها للقوانين الدولية منذ بدأت إبادتها الجماعية في غزة، فيما ليس هناك ما يبرر جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان على المدنيين.
وتضيف: “ما يسمح باستمرار هذه الجرائم هو الإفلات من العقاب، وغياب أي إجراءات من حكومات دول قوية لردع جدي ووقف لهذا الإجرام”، لافتةً الى “أن الولايات المتحدة الأميركية تقدم أكثر من 60 في المئة من القوة العسكرية والاحتياجات العسكرية لإسرائيل، وهي مستمرة بهذا الدعم. تأتي بعدها ألمانيا، التي لم توقف دعمها لإسرائيل رغم الأصوات المنادية بالامتناع فوراً عن ذلك”.
وتشير الى “غياب إرادة سياسية واضحة من الدول صاحبة التأثير على إسرائيل لدفعها الى وقف استمرار هذه الانتهاكات، والامتناع عن دعمها، وتصعيد الإجراءات على مستوى مجلس الأمن أو على مستوى الإجراءات القضائية الدولية ضدها. هناك تواطؤ من الدول الداعمة لإسرائيل والدول الكبرى، وهذا ما يجعلها شريكة غير مباشرة ومساهمة في هذه الجرائم”.
إقرأوا أيضاً: