fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

صورة أبي التي أخذتها حرب تموز

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تجمعني حرب تموز ٢٠٠٦ بوالدي الذي توفي عام ٢٠١٥، ذلك أنها السبب الوحيد والمباشر لخسارتي كل الصور التي جمعت طفولتي به… ما أصاب والدي بعد الحرب كان بداية تفشّي مرض نادر أصاب دماغه

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تجمعني حرب تموز ٢٠٠٦ بوالدي الذي توفي عام ٢٠١٥، ذلك أنّها السبب الوحيد والمباشر لخسارتي كل الصور التي جمعت طفولتي به.  

ذاكرتي مع أبي تعرّضت لهزّة في ذلك الشهر. فخلال حرب تموز، دفنت الغارات الإسرائيلية مئات الصور تحت جدران وأعمدة المبنى الذي أسكنه، والذي تدمّر في 12 آب، أي قبل انتهاء الحرب بيومين.

الوهن في ذاكرتي، تضاعف بعدما انتهت الحرب. ففي سنوات مراهقتي، لم أحب التقاط الصور. وبالإكراه دائماً، التقطتُ القليل منها مع والدي. إلا أن ما حصدته معه من صور، قضى في الحريق الذي شبّ في غرفتي عام ٢٠١٤. ولكن هذه المرّة لم يكن الحريق قاسياً كما الحرب، فالنار رفضت أن تلتهم الصورة التي تأسر لحظة مشاركتي لوالدي في تركيب “آرمة” في منطقة برج حمود.

ما يجمع أبي بحرب تموز أعمق ممّا يجمعني بها. فهو بعد الحرب، كان قد بلغ من العمر 44 عاماً، وبدأت عوارض الكآبة تجتاح وجهه. وإذا كانت الحرب تدمّر الحجر وتقتل الأبرياء، فإنها أيضاً تصوغ أرواح من عايشوها ونجوا بالصدفة منها بشكلٍ مختلف عمّا كانوا عليه قبلها. ومن مهام الحرب أيضاً أن تحوّل الإنسان إلى “شيءٍ آخر” أكثر غموضاً وأقل استقراراً، وهكذا حوّلت الحرب أبي، من كائن ينام بانتظام عند الساعة الحادية عشر مساءً إلى كائن يسهر حتّى ساعات الفجر الأولى.

“ما أصاب والدي بعد الحرب كان بداية تفشّي مرض نادر أصاب دماغه، يُطلق عليه طبّياً اسم “ضمور خلايا الدماغ”، وهو تآكل بطيء مجهول السبب للدماغ. ولكن الإجابة الوحيدة التي استقيناها من طبيبه أن الكآبة سبب تدهوره الصحّي”

في ماضيه، عاش والدي 15 عاماً في السعودية. والبيت الذي نسكنه في ضاحية بيروت الجنوبية هومن حصاده المالي جرّاء عمله هناك. دمّرت إسرائيل المنزل بين ليلة وضحاها، ليكتشف أبي أن حجم المسؤولية المُلقى على أكتافه كبير جداً. تكفّل حزب الله بدفع مبلغ صغير لنا حالنا حال  كل العائلات التي تشرّدت. ولكن هذا المبلغ لم يكن كافياً، فقد فرضت نتائج الحرب عليه أن يدفع 400$ إضافية من جيبه، لأن أسعار الشقق بعد الحرب ارتفعت، فهذه الحرب لم تفقده منزله فقط، بل أدّت أيضاً إلى خسارته لمحله الصغير الذي كان يعتاش منه منزلنا.

صارت الكآبة جزءاً لا يتجزّأ من شخصية والدي. أصبح ينام كثيراً، ويصحو إلى العمل دون همّته المعتادة. النوم كان رفيقه الدائم، حتى أنه سرق في إحدى المرّات بطانيات ووسادة من إحدى خزائن منزلنا، وحملها معه إلى محلّه الثاني في برج حمود، حيث كان ينام لساعات بدلاً من أن يعمل في صيانة الآرمات وصناعتها.

عوارض الكآبة تحوّلت إلى مرض حقيقي. فعام 2011، اكتشف طبيب الرأس والأعصاب الذي كان يعاين والدي، بعد معاناته لسنة كاملة من متلازمة الصداع، أن الكآبة التي وقع بها، ما هي إلا أولى مراحل موته.

ما أصاب والدي بعد الحرب كان بداية تفشّي مرض نادر أصاب دماغه، يُطلق عليه طبّياً اسم “ضمور خلايا الدماغ”، وهو تآكل بطيء مجهول السبب للدماغ، ولكن الإجابة الوحيدة التي استقيناها من طبيبه أن الكآبة سبب تدهوره الصحي. وبعد مرضه، صرت ألتقط الصور معه، وهذه الصور لا أحبّذ ذكر تفاصيلها، ولكنّها مؤلمة لأن معالم مرضه ووهنه واضحة فيها.

تخطف الحرب تفاصيل حياتنا، ولا نستدرك أهمّيتها إلا مع مرور الزمن. الحرب هي حرب على أدقّ تفاصيل ماضينا وذكرياتنا. صور أبي التي فقدتها هي شهدائي الذين سقطوا لي في هذه الحرب، ولا شهداء غيرهم.

الفقدان الحقيقي اكتشفته بعد عام 2015، حين توفي والدي. لا يوجد صور لي وهو يحملني. صورتي المفضّلة معه وهو يمسكني بيدي وأنا أرتدي الثوب الزهري رحلت تحت الركام، وصورة أخرى وهو يقبّلني في عيد ميلادي الأوّل تمزّقت بين أنياب الجرّافة التي رفعت الدمار.  

يمنى فواز- صحافية لبنانية | 18.01.2025

ماكرون يحاول تعويض خساراته الفرنسية في شوارع بيروت !

يسير إيمانويل ماكرون في شوارع بيروت يتلفت يميناً ويساراً، يأمل أن تلتقط الكاميرات مجدداً امرأة تهرع إليه كمنقذ وكأنه رئيس لبنان، أو طفل فرح يركض إليه من أي اتجاه، لكنه وجد نفسه محاطاً بجمع من الصحافيين، ومتفرجين من المارّة، في الشارع ذاته الذي استقبله بحفاوة وكأنه رئيس البلاد في 6 آب 2020.
17.08.2018
زمن القراءة: 3 minutes

تجمعني حرب تموز ٢٠٠٦ بوالدي الذي توفي عام ٢٠١٥، ذلك أنها السبب الوحيد والمباشر لخسارتي كل الصور التي جمعت طفولتي به… ما أصاب والدي بعد الحرب كان بداية تفشّي مرض نادر أصاب دماغه

تجمعني حرب تموز ٢٠٠٦ بوالدي الذي توفي عام ٢٠١٥، ذلك أنّها السبب الوحيد والمباشر لخسارتي كل الصور التي جمعت طفولتي به.  

ذاكرتي مع أبي تعرّضت لهزّة في ذلك الشهر. فخلال حرب تموز، دفنت الغارات الإسرائيلية مئات الصور تحت جدران وأعمدة المبنى الذي أسكنه، والذي تدمّر في 12 آب، أي قبل انتهاء الحرب بيومين.

الوهن في ذاكرتي، تضاعف بعدما انتهت الحرب. ففي سنوات مراهقتي، لم أحب التقاط الصور. وبالإكراه دائماً، التقطتُ القليل منها مع والدي. إلا أن ما حصدته معه من صور، قضى في الحريق الذي شبّ في غرفتي عام ٢٠١٤. ولكن هذه المرّة لم يكن الحريق قاسياً كما الحرب، فالنار رفضت أن تلتهم الصورة التي تأسر لحظة مشاركتي لوالدي في تركيب “آرمة” في منطقة برج حمود.

ما يجمع أبي بحرب تموز أعمق ممّا يجمعني بها. فهو بعد الحرب، كان قد بلغ من العمر 44 عاماً، وبدأت عوارض الكآبة تجتاح وجهه. وإذا كانت الحرب تدمّر الحجر وتقتل الأبرياء، فإنها أيضاً تصوغ أرواح من عايشوها ونجوا بالصدفة منها بشكلٍ مختلف عمّا كانوا عليه قبلها. ومن مهام الحرب أيضاً أن تحوّل الإنسان إلى “شيءٍ آخر” أكثر غموضاً وأقل استقراراً، وهكذا حوّلت الحرب أبي، من كائن ينام بانتظام عند الساعة الحادية عشر مساءً إلى كائن يسهر حتّى ساعات الفجر الأولى.

“ما أصاب والدي بعد الحرب كان بداية تفشّي مرض نادر أصاب دماغه، يُطلق عليه طبّياً اسم “ضمور خلايا الدماغ”، وهو تآكل بطيء مجهول السبب للدماغ. ولكن الإجابة الوحيدة التي استقيناها من طبيبه أن الكآبة سبب تدهوره الصحّي”

في ماضيه، عاش والدي 15 عاماً في السعودية. والبيت الذي نسكنه في ضاحية بيروت الجنوبية هومن حصاده المالي جرّاء عمله هناك. دمّرت إسرائيل المنزل بين ليلة وضحاها، ليكتشف أبي أن حجم المسؤولية المُلقى على أكتافه كبير جداً. تكفّل حزب الله بدفع مبلغ صغير لنا حالنا حال  كل العائلات التي تشرّدت. ولكن هذا المبلغ لم يكن كافياً، فقد فرضت نتائج الحرب عليه أن يدفع 400$ إضافية من جيبه، لأن أسعار الشقق بعد الحرب ارتفعت، فهذه الحرب لم تفقده منزله فقط، بل أدّت أيضاً إلى خسارته لمحله الصغير الذي كان يعتاش منه منزلنا.

صارت الكآبة جزءاً لا يتجزّأ من شخصية والدي. أصبح ينام كثيراً، ويصحو إلى العمل دون همّته المعتادة. النوم كان رفيقه الدائم، حتى أنه سرق في إحدى المرّات بطانيات ووسادة من إحدى خزائن منزلنا، وحملها معه إلى محلّه الثاني في برج حمود، حيث كان ينام لساعات بدلاً من أن يعمل في صيانة الآرمات وصناعتها.

عوارض الكآبة تحوّلت إلى مرض حقيقي. فعام 2011، اكتشف طبيب الرأس والأعصاب الذي كان يعاين والدي، بعد معاناته لسنة كاملة من متلازمة الصداع، أن الكآبة التي وقع بها، ما هي إلا أولى مراحل موته.

ما أصاب والدي بعد الحرب كان بداية تفشّي مرض نادر أصاب دماغه، يُطلق عليه طبّياً اسم “ضمور خلايا الدماغ”، وهو تآكل بطيء مجهول السبب للدماغ، ولكن الإجابة الوحيدة التي استقيناها من طبيبه أن الكآبة سبب تدهوره الصحي. وبعد مرضه، صرت ألتقط الصور معه، وهذه الصور لا أحبّذ ذكر تفاصيلها، ولكنّها مؤلمة لأن معالم مرضه ووهنه واضحة فيها.

تخطف الحرب تفاصيل حياتنا، ولا نستدرك أهمّيتها إلا مع مرور الزمن. الحرب هي حرب على أدقّ تفاصيل ماضينا وذكرياتنا. صور أبي التي فقدتها هي شهدائي الذين سقطوا لي في هذه الحرب، ولا شهداء غيرهم.

الفقدان الحقيقي اكتشفته بعد عام 2015، حين توفي والدي. لا يوجد صور لي وهو يحملني. صورتي المفضّلة معه وهو يمسكني بيدي وأنا أرتدي الثوب الزهري رحلت تحت الركام، وصورة أخرى وهو يقبّلني في عيد ميلادي الأوّل تمزّقت بين أنياب الجرّافة التي رفعت الدمار.