ظهرت السلطة السورية الجديدة أخيراً في الإعلام، بعد سلسلة من التأجيلات والمواعيد غير المحددة، في ما بدا أنه بحثٌ عن التوقيت المناسب للإطلالة الأولى.
جاء هذا الظهور، بحسب الإعلان الرسمي، على شكل بثٍّ متلفز، وذلك في سياق اتفاق بين قوى الأمر الواقع على حلّ الفصائل المسلّحة والتمهيد لتشكيل جيش وطني موحّد، أو على الأقل إعادة هيكلة الفصائل ضمن إطار تنظيمي جديد.
خمس شخصيات من قادة الهيئة والفصائل المسلّحة صعدوا الى المنصة، مخاطبين حشداً كبيراً من المسلحين الذين ارتدوا البزة العسكرية، على رغم أن مقاتلي الهيئة المنتشرين في عموم سوريا لا يعتمدون زيّاً موحداً. لكن، في ظل حاجة السلطة الجديدة الملحّة إلى تقديم صورة منظمة ومنضبطة، ظهرت مئات الرؤوس مصطفّةً خلف القادة، فيما ركّزت الكاميرات على المتحدثين وحدهم، في مشهد بدا أقرب إلى إخراج رمزي للهيمنة السياسية والعسكرية.
لم تعكس البزة العسكرية الموحّدة سوى صورة اعتباطية لفكرة الطاعة، من خلال مشاهد مُصممة بعناية لتُرسّخ الانضباط كإطار بصري، لا كحالة فعلية متجذّرة في الواقع. فخلافاً لأي ظهور سابق للهيئة في الشارع، أو لكل الفصائل التي انضوت ضمن ما سُمّي بالجيش الوطني، بدت هذه المشاهد وكأنها استعراضٌ للزيّ أكثر من كونها تجسيداً لبيئة عسكرية منسجمة.
الانضباط كصورة
التركيز على الظهور العسكري المرئي كشكلٍ استعراضي، يُقدّم الطاعة على هيئة صورة، لا كواقع فعلي. إنتاجٌ للطاعة البصرية وهيمنة رمزية موجّهة الى الخارج، لا انعكاس لها على المستوى الداخلي، حيث لا تزال الفصائل قائمة بتشكيلاتها المختلفة، والولاءات موزّعة بين قوى الأمر الواقع، من دون أن يكون لهذا الزيّ العسكري أثرٌ يُذكر على إعادة تشكيل السلطة من الداخل.
لم تكن الفصائل العسكرية كاملة التمثيل في هذا الظهور، وهو أمر تم التعتيم عليه على المستوى الرسمي، ما يُبقي السلطة في حالة مراوغة مستمرة، متجاوزةً الأسئلة الملحّة حول بنيتها الفعلية وتوازناتها الداخلية. وبدلاً من مواجهة هذه الإشكاليات، يُعتمد على إعلاميين هامشيين لتسويق صورةٍ مصطنعة عن الحداثة التي تروّج لها السلطة، والتي تتضمن تقديم نفسها كنظام مدني، والسعي إلى نزع الطابع الميليشياوي عن تشكيلاتها.
هذا الطرح يظل إخراجاً رمزياً أكثر من كونه تحوّلاً جوهرياً، إذ تبقى الهياكل العسكرية والولاءات الفصائلية قائمة خلف المشهد، في ظل غياب أي إعادة هيكلة فعلية تتجاوز الإطار البصري والإعلامي.
تداولت وسائل الإعلام العربية سريعاً، من دون أي تدقيق، إنتاج القبول الإعلامي والتجميل السياسي للحظة حل الفصائل، كما صوّرها الإعلام الرسمي. وبدأ مصطلح جديد بالانتشار لوصف العمليات العسكرية باعتبارها عمليات للجيش الوطني، على رغم معرفة الجميع بأن الفصائل لم تُحلّ فعلياً.
وعلى رغم مظاهر الديكتاتورية الاحتفالية التي سادت في المدن السورية، فإنها لم تكن سوى إعادة إنتاج للحرية السلبية، وتجسيداً لمظاهر تسويق اللاواقع، حيث يتم فرض صورة جديدة لا تمتّ بصلة الى الواقع الفعلي على الأرض.
الرؤوس الحليقة، والبزة الرسمية تصوّر حالة من الاطمئنان المصطنع، لكننا لم نرَ الوجوه. هناك آلية مقصودة لإخفاء وجوه السلطة أو تبديلها بين التلفاز والشارع، حيث لا وجود لذقون على الشاشات، ولا شعر طويل في مشهد يعكس إخراجاً بصرياً ممنهجاً للسلطة الجديدة.
إقرأوا أيضاً:
الذهنية الميليشاويّة ؟
هذا الجانب الصوري الخفي للسلطة ينسجم تماماً مع آليات الميليشيات، حيث يكون العناصر محميين من دون أي التزام قانوني واضح. وقد ظهر ذلك جلياً بعد يومين فقط من إعلان حل الفصائل في حمص وحماة، حيث ارتُكبت جرائم من دون أي مساءلة. وإن كان نموذج العقاب لفلول النظام يُنفَّذ أمام الكاميرا، بالأحذية والعنف الشديد، فإن عقاب مرتكبي الفصائل يُمارَس عبر التلغرام فقط، من دون صورة، في محاولة لإخفاء ديناميات الانتقام الداخلي وإبقاء عمليات التصفيات بعيداً من المشهد العام، ما يؤكد أن السلطة الجديدة لا تسعى إلى العدالة بقدر ما تعيد إنتاج أدوات السيطرة، مع تبديل الوجوه والإخراج البصري.
لكن أي اتفاق على الحل يضعنا في مواجهة مباشرة مع الذهنية الميليشياوية، من دون أي قدرة على المشاركة أو الإدارة، فالولاء داخل الميليشيات مرتبط مباشرة بقائد العملية العسكرية، ما يطرح تساؤلاً جوهرياً: إلى أي مدى يستمر هذا الولاء؟ وهل يتمتع هؤلاء المقاتلون بحصانة مطلقة، ومن هي الجهة التي تراقب أعمالهم؟
الطابع الفردي لعناصر الميليشيات، وصعوبة نقلهم إلى نظام إداري مؤثر عليهم، يزيدان من تعقيد المشهد، بخاصة أن المقاطع التي نراها عن ممارساتهم تشير إلى أن عنفهم لم يعد مجرد وسيلة لتحقيق هدف سياسي أو قانوني، بل أصبح جزءاً من هويتهم الشخصية والجماعية، حيث يتحول “أخذ الحق” إلى مبرر للعنف العشوائي، بما في ذلك عمليات قتل المطلوبين وتعذيبهم.
وكحال كل الميليشيات التي تشعر بالاضطهاد، نتيجة روايات عن تعرّضها لظلم تاريخي، تصبح هذه الجماعات عصية على الاندماج الاجتماعي من دون وجود نظام عدالة قوي، وغياب أي تأقلم مع فكرة الانتقال إلى الدولة. وقد تجسد ذلك في اليوم التالي لحل الفصائل، إذ ظهر تكيّفهم النفسي والسلوكي مع الفوضى عبر استمرار عمليات التعذيب، والقبض على المتهمين من دون أي إجراءات عدالة منظمة، وكأن غياب الفصائل لم يكن سوى تحول في البنية الشكلية، بينما بقي السلوك الفوضوي كما هو، من دون أي تحوّل حقيقي نحو سلطة منظّمة.
5 دقائق لرئيس غير منتخب
كان الظهور الثاني أكثر وضوحاً، ففي اليوم التالي ظهر رئيس الجمهورية السورية غير المنتخب، مقدَّماً بوصفه “الرئيس المختار” من الفصائل العسكرية. لم يتجاوز خطاب أحمد الشرع الخمس دقائق، وعلى رغم المظهر المتواضع، ومحاولة الإحاطة بكل تعقيدات المشهد السوري، إلا أن النظام السياسي الجديد بدا عاجزاً عن تقديم أي مؤشرات ملموسة الى حل القضايا العالقة. لم يكن هناك أي جدول زمني أو التزام واضح ببدء معالجة الأزمات التي ينتظر السوريون حلولها، ما يعكس استمرار إدارة الانتظار السياسي، إذ تُطرح السلطة بوصفها واقعاً ناجزاً، من دون أي آليات تنفيذية لتحقيق التغيير الفعلي.
في كلَي الظهورين، أُرسي عقد اجتماعي قسري مع السلطة الجديدة، مُطعّماً بطابع احتفالي عفوي من دون شك، شارك فيه أشخاص لم يكونوا جزءاً من العقد أصلاً. كانت الطاعة الاجتماعية قائمة على الخوف، لا على أي مستوى من الشرعية السياسية المتعارف عليها. ومع ذلك، فإن لهذه السلطة “ليفثانها الخاص”، المستمد ليس من إرادة شعبية، بل من اللاوعي الجماعي الذي يبحث عن مخلص من سردية مُرعبة للأسد، واعتياد متراكم على الميليشيات التي استحوذت عقليتها على سوريا لأربعة عشر عاماً، ومن حاجة الى التخلص من مشهد يومي من الجريمة، الفوضى، والسرقات. إذ لا يملك الناس أي أمل، إلا بسلطة الأمر الواقع من دون إغفال جذبها الكثير من الناس وحصدها محبتهم.
وهكذا، فإن الليفثان الظاهر ليس سوى كيان وهمي، مصنوع من كرتون، مجرد صورة مفرغة من القوة الحقيقية، تتكئ على الاستعراض أكثر من استنادها إلى أي شرعية حقيقية أو قدرة على فرض النظام. هذا صراعها الذي عليها تجاوزه.
ناهيك بالهيمنة الإلكترونية، التي تتخذ طابعاً فنتازياً، إذ عادت المصطلحات والشعارات والمباركات التي تُشبه مبايعات النظام البائد للأب والابن. عادت معها سلوكيات تُغري السلطة بأن تكون خارج نطاق النقد، إذ يُمنع السوري من التعبير عن اعتراضه بشكل غير مباشر، من خلال إعادة إنتاج مناخ عام يجعل انتقاد النظام أشبه بالمحظور الاجتماعي، وليس مجرد منع سياسي صريح.
“المضافة” عوضاً عن المؤسسة
يظهر في سوريا قمع غير دموي بالتأكيد، لكنه قمع قائم على الإنهاك الاجتماعي والتقييد غير المباشر لإرادة عامة سورية كان يمكن إشراكها بطريقة مختلفة. إنه ممارسة منهجية للإنهاك السياسي، تعتمد أدواته على تكتيكات الغموض، التردد، والإبقاء على الأزمات مفتوحة لفترات ممتدة، وكأن كل أزمة تعيش دورة حياة مدروسة من خمسين يوماً قابلة للتكرار، بخاصة عندما يتعلق الأمر بعمليات القتل التي تمارسها الفصائل المسلّحة.
ما لم نتحدث عن “البداوة السياسية”، فإن تغييب المؤسسات واستبدالها بـ”مضافات” سياسية ولقاءات نُخبوية يجعلان المشهد السياسي أقرب إلى علاقات شخصية غير مؤطرة، فتُفتح القصور والسجون أمام بعض الصحافيين والمؤثرين، في محاولة لإنتاج رمزية تعويضية تُقدّم مظاهر إنسانية استعراضية بدلاً من معالجة القضايا الجوهرية، مثل تنظيم مؤسسات العدالة وفرض آليات شفافية تضمن حماية المشاركة السياسية.
في السياق ذاته، يُستخدم التواضع كأداة سلطوية، إذ تصبح البساطة الظاهرية وسيلة لإخفاء احتكار السلطة بدلاً من أن تكون مؤشراً إلى انفتاح سياسي حقيقي.
يُمارس هذا كله أمام أعين المؤثرين والصحافيين العرب والسوريين، الذين غالباً لا ينتبهون إلى آليات السلطة في إدارة العلاقة معهم، إذ يتم صنع الولاء وإعادة تدويره عبر استقطاب شخصيات إعلامية ومؤثرين بدلاً من الاعتماد على نخب سياسية، ما يجعل حرية الإعلام تتحول إلى جزء من منظومة السلطة ذاتها، عبر احتواء إعلامي استراتيجي مدروس، يهدف إلى جعل الأصوات الناقدة جزءاً من إطار الهيمنة الناعمة بدلاً من أن تكون قوة ضاغطة مستقلة. وبهذا الشكل، يتحول المشهد السياسي إلى مزيج من الهيمنة غير المباشرة، الإخراج الرمزي، وإنتاج الطاعة الإعلامية، إذ يبدو كل شيء وكأنه يتغير، بينما يبقى جوهر السلطة على حاله، معاد إنتاجه في صورٍ أكثر نعومة لكنها ليست أقل قسوة.
إقرأوا أيضاً: