على مدار السنوات العشر الماضية، أصبح الفقر يحمل دلالة على كل الصفات السيئة في الفن المصري المصوّر، سواء على الشاشة الكبيرة أو المسلسلات التي تذاع على الشاشة الصغيرة.
يأتي هذا بعد سلسلة طويلة من ترديد مقولة إن على الفن أن يكون راقياً وهادفاً إلى قيم ومعانٍ سامية، هذه السلسلة التي بدأت بعد الثورة المصرية في 25 كانون الثاني/ يناير كرد فعل ضد سينما الأخوين أحمد ومحمد السبكي وبطلهما آنذاك محمد رمضان.
هذه السلسلة التي قادها مثقفون وفنانون ونقاد، ربما غفلت عن أن أهمية الفن أي فن باختلاف جنسه، تكمن في أن يكون فناً حقيقياً، أي أن يكون حراً غير خاضع لأي سُلطة. غفلت هذه النخبة أيضاً عن احتمالية الخلجنة، أي سيطرة الخليج وتحديداً السعودية على إنتاج هذا الفن، وأيضاً طبيعة العلاقة المعقدة بين هذا الإنتاج والسُلطة في مصر، وبين هذه العلاقة وبين ما غفلته هذه النخبة من محاولة لفرض شكل بعينه وتناول للموضوعات بعينه. لقد أضحى هذا الفن مرتبكاً سواء على مستوى الشكل أو المضمون، واقعاً في نهايته تحت سُلطة “الكمباوندات” وفي بدايته تحت سُلطة القيم والأخلاق السامية.
المثير للتأمّل أن بين هذه البداية والنهاية، يظهر الفقر محملاً بتهم الفساد الذي طاول المجتمع، ولا يُصوَّر على أنه نتاج منه بل متأتٍّ من اختيارات هؤلاء الفقراء، أي أن الأمر بدا معكوساً وواقعاً تحت ثيمة أن الفقراء ليسوا مسؤولين فقط عن فقرهم، بل أيضاً عن فساد المجتمع وإفساده، السرطان الخبيث الذي ينهش جسد هذا المجتمع ويجب استئصاله. وكأن هناك محاولة لتسكين الفقراء وتنميطهم في مناطق بعينها، وتصويرهم على أنهم إما مجرمون، أو على أقل تقدير حيوانات تحيا في هذا المجتمع. وليس هذا غريباً على ما يشهده هذا المجتمع من تعامل مع الفقراء في السنوات العشر الأخيرة.
فمن حين الى آخر، يناقش أبناء الطبقات العليا على تطبيق “إكس” (تويتر سابقاً)، أن على الفقراء ألا يتزوجوا وينجبوا ما دام راتبهم أقل من الحد الأدنى.
تأمُّل صورة الفقراء هذه يجب أن يبدأ من احتكار الإنتاج السينمائي ووقوعه بين ثنائية إما الإنتاج التابع للسلطة الحاكمة متمثلاً في شركة المتحدة، أو الإنتاج الخليجي (السعودي) تحديداً دون غيره من ناحية أخرى. والتأمل هذا سيصل بنا إلى التناول النمطي لشكل الفقراء، والأماكن التي يعيشون فيها.
المكان بين ثنائيّة الخلجنة والسلطة
لم يعد للحارة أو المدينة المتربة وجود في الفن المصري حالياً، وتحديداً في الدراما، إذ تضاءل وجودها حتى تكاد تظهر كأنها خارجة من أحد برامج الغرافيك ديزاين، وكأنها تعكس إرادة ما لتهميش فئة بعينها من المجتمع، أو إخفاء وجودها من شركات الإنتاج. حتى مع ظهور المدن الجديدة الاستثمارية في بداية الألفية، كان للحارة والمدينة المتربة حضور يشبه شكلها في الواقع.
ومع ندرة ظهورها خلال السنوات الماضية، بدءاً من عام 2015، أو تصويرها بشكلٍ مغاير لواقعها المرير الذي تعيشه بالفعل طبقة كبيرة من المصريين، في ظل الظروف الاقتصادية الطاحنة، ثمة تساؤل يلح بين محاولة التهميش أو الإخفاء من المسيطرين على الإنتاج الفني سواء الدرامي أو الفني.
ربما للإجابة عن هذا التساؤل، علينا العودة إلى لحظة وقوع الإنتاج والصناعة نفسيهما بين مقصلتي شركة المتحدة التابعة بشكلٍ ما للمخابرات المصرية العامة، ودخولها في إنتاج جميع الأعمال الفنية، وبين دخول الإنتاج السعودي إلى السوق المصري، ولنبدأ من الأثر الأول للوقوع بين هاتين المقصلتي، وهو المكان وشكله في الأعمال المصرية، التي نالت نجاحاً باهراً في العامين الماضيين وحتى الآن.
ومع تأمّل الأعمال المصرية التي نالت نجاحاً باهراً خلال العامين الماضيين، سيظهر المكان عكس واقعه، فمثلًا يظهر حي السيدة زينب في مسلسل “جعفر العمدة” بشكلٍ مختلف عما هو عليه تماماً، فالحي العريق الذي يعد من أقدم الأحياء الشعبية في مصر، يظهر وكأنه مكان خيالي خالٍ من الأضرحة الدينية والمساجد التي اشتُهر بها، أي يغيب عن المكان أهم ما يميزه، وهو الأحراش، وقد صُمّم بعناية فائقة لجذب الانتباه المؤقت، من دون تناوله بأسلوب يسمح بصنع علاقة حقيقية معه ومع تاريخه.
وإذا تجاوز الواحد منا غياب هذه الأحراش، سيقف عاجزاً عن تصوّر أن في هذه الأحياء أغنياء يعيشون هذا الترف الخيالي والعجائبي، أي أن الدراما فقدت أهم ركن يميزها، وهو استنادها إلى الواقع الاجتماعي الذي تريد تناوله مع تراتبية الطبقات داخل هذا الواقع واختلافها.
وإذا تجاوز المشاهد خيالية الحارة أو المدينة، أي المكان الخارجي، سيلفت نظره أن الدراما والسينما المصرية لم تعودا تسمحان بوجود الشقق العادية التي يعيش فيها معظم المصريين، وكأنه لم يعد هناك وجود للطبقة المتوسطة، أو أنهما يدوران في فلك “الكمباوندات” وتحديداً تلك الممتلئة بالفيلات الفخمة ذات الديكور المزركش، أو يصوّران الأحياء القديمة بشكلٍ يواكب التطوير الذي قامت به الدولة، أو ربما ستقوم به في أي لحظة مستقبلية، أو أنهما يُصوّران حارة ضيقة، لا تمت شققها الى واقع المكان المقصود، كما حدث في مسلسل “ملوك الجدعنة”، والذي لقي نجاحاً كبيراً عبر ديكور مزركش وأغاني مهرجانات أداها بطلا المسلسل. وبين هذا وذاك، يظهر الفقير كإنسان بلا أخلاق وبلا ضمير ومسؤولاً عن فقره، بدليل أن اثنين من زوجات جعفر العمدة “نرجس\ثريا”، الآتيتين من خلفيةٍ فقيرة، متهمتان دائماً بالسرقة طوال المسلسل.
على مدار السنوات العشر الماضية، أصبح الفقر يحمل دلالة على كل الصفات السيئة في الفن المصري المصوّر، سواء على الشاشة الكبيرة أو المسلسلات التي تذاع على الشاشة الصغيرة.
ما سبق يحيلنا إلى أحدث الإنتاجات المصرية، وهو فيلم “الحريفة”، الذي صدر بداية هذا العام، من إنتاج طارق الجنايني وشركة “سينرجي” التابعة لشركة “المتحدة”. وعلى رغم أن الفيلم ذو طابع كوميدي ويحاكي انتقال بطل الفيلم “ماجد” من طبقة إلى أخرى بسبب إفلاس والده، إلا أن المثير في هذا التحوّل، هو الحي الذي انتقل إليه، ألا وهو حي “الزمالك”، الذي يعدّ من أرقى الأحياء المصرية وتحمل دلالة السكن فيه على الانتماء إلى الطبقة المترفة بالأساس.
يبدو أن الطبقة المتوسطة ليست الوحيدة التي تشرذمت إلى طبقات، نظراً الى الظروف الاقتصادية، بل الطبقة المترفة أيضاً. فبعد تحوّل “ماجد” وانتقاله إلى الحي العريق، ينضم إلى مدرسة حكومية حيث يلتقي بمجموعة من الفقراء الذين طحنتهم الحياة، وينسجم معهم. وعلى رغم أن بعض الأماكن ظهر كما هو على أرض الواقع، إلا أن “ماجد” يظل طوال الفيلم ينادى من هذه المجموعة بـ”ماجد ابن الناس”.
يظهر في الفيلم أيضاً، مغني المهرجانات “كزبرة”، والذي يحمل دلالة أخرى على ما تدشّنه مقصلتا الإنتاج. فبعدما يقف أصدقاؤه بجواره ويساعدونه، يخذلهم ويحصل على مال مقابل هذا الخذلان، فالفقراء كالعادة إما خائنون ويركضون خلف الأموال، أو أن اختياراتهم هي المسؤولة عن فقرهم. وبين هذا وذاك، يظل التساؤل عن هذا الأمر مطروحاً، هل ما يحدث مصادفة أم عن قصد؟
هناك ما يجب أخذه من الفقراء
الأعمال كافة التي لاقت نجاحاً، وذكر البعض منها أعلاه، اعتمدت بشكلٍ ما على وجود أغاني المهرجانات، لكن الأخيرة لم يكن مرحباً بها في البداية، فقد كانت دليلاً على انحدار الذوق العام وصناعة سينما تهدف إلى تحقيق إيرادات فقط، كسينما الأخوين محمد وأحمد السبكي.
ومع بداية انتشار سماعها بين جمهور الطبقة المترفة، أضحى هناك هدف واضح لكل صناع السينما، وهو وجود أكبر عدد من المهرجانات داخل الفيلم، بل تطوّر الأمر إلى أن أصبح هناك اتفاق غير معلن بين صناع الأفلام ونجوم المشهد الفني على مشاركة مغنّي المهرجانات الغناء، وآخرهم فيلم “الحريفة”. واستدعاء “كزبرة” لم يكن لأنه موهوب، بل لأنه بالأساس شخصية مشهورة في عالم الـ”تيك توك” ومغني مهرجانات.
“حريفة” لن يكون الأخير في مشوار شخصية “كزبرة”، إذ تم استدعاؤها الى مسلسل رمضاني بعنوان “كوبرا” بطولة محمد عادل إمام. كما أن هناك أشخاصاً آخرين يظهرون يومياً في عالم الـ “تيك توك”، لن تكون الموهبة هي المعيار الأساسي لدعوتهم، بل قاعدتهم الجماهيرية وإجادتهم غناء المهرجانات والظهور بشكلٍ يسمح لتأكيد الصورة التي يريدها الصناع الآن. والحال نفسها مع “كزبرة”، الذي يظهر في مواقع التصوير في فيديوهات كثيرة بشكلٍ ساخر للغاية مع صناع الأعمال، شكل أقرب إلى مهرج أكثر من كونه ممثلاً بارعاً، سواء في “الحريفة” أو “كوبرا” .
السؤال المطروح اليوم: هل سيختفي الفقراء بمرور الوقت ويتم تهميشهم إلى الأبد مع مدنهم المتربة وأماكنهم العادية، أم سيخضع الصناع لما هو أبعد من إضفاء شرعية أن الفقراء محصورون فقط في أغاني المهرجانات وتحميلهم مسؤولية فقرهم ومسؤولية إفساد هذا المجتمع؟ ومن المحتمل أن تكون دعوة الفقراء الى الامتناع عن الزواج، ومعايراتهم بالفقر، نتاجاً لهذه الشرعية وإرادة مستترة ناتجة من العلاقة المركبة بين السُلطة وصناع الفن نفسه.