المفارق الصغيرة كالمفارق الكبيرة كالدوار وساحة المشرفية وكنيسة مار مخائيل. الآن، توحدت الألوان واجتمعت سواعد كثيرة لضبط “الوضع” في الضاحية الجنوبية لبيروت. الدخول إليها والخروج منها برعاية الأجهزة الأمنية ولجان الأمن في “حزب الله” و”حركة أمل”. هم هنا للاستقبال وللوداع، للدردشة وللسهر، لشرب القهوة والنرجيلة، وأحياناً لقمع بعض من يجرؤ على أمرين: التحرك ضمن الضاحية، في ساحاتها، من دون موافقة “الحاج”، أو النزول والفلتان نحو بيروت لدعم من هم في مواجهة السلطة.

أحياناً، تتجه الأمور نحو سوريالية في الداخل الضاحيوي. فبالتزامن مع تحركات الشعب في مختلف المناطق، يقوم من يضبط الضاحية بكرنفال واستعراض عسكري، وعرض عضلات قد لا نفهمه لأننا نفتقد البصيرة وبعد النظر. قد يعتبر البعض أن هذا مبالغة في وصف الحالة، ولكن في محاولة لفهم دلالات تجول الشباب الخائف على ضاحيته في سيارات رباعية الدفع “المفيمة”، التي يطل من داخلها رأس الكلاشنيكوف، أو مراهق يداعب جهاز اتصال لا سلكي، يشعره بالقوة، وربما الفحولة وامتلاك القدرة على اتخاذ قرارات جدية، لا يسعنا سوى التساؤل عن السبب الذي ولى بعضاً منّا علينا. فلماذا يا “حاج” هو مؤتمن عليّ وعلى راحة بالي وسلامة أهلي وعرضي؟ ألا نملك القدرة على اتخاذ مواقف صائبة؟ لقد منعتمونا من النزول إلى ساحة الشهداء ورياض الصلح مراراً، وطوقتم الزواريب واحتجزتم الدراجات، وأبرحتمونا ضرباً عندما حاولنا حرق الإطارات في ساحاتنا وأحيائنا. فماذا بعد؟ تستغلون قسماً منّا لكي يعيث خرابكم، لتصفّوا حساباتكم السياسية وترهبوا خصومكم، ثم تنبذوننا وتهجروننا، وتعاملوننا ككائنات غير واعية وغير قادرة على التفكير. وهكذا تُفهموننا أن أي محاولة منا، ولو لفترة قصيرة، للانتفاض، ستقابل بعسكرة داخل مناطقنا وعلى مداخلها. أتدري يا “حاج” كم هو محزن أن ترى جارك الشاب، يحمل سلاحاً حربيّاً، ويرتدي جعبة قنابل يدوية، ويتنقل في الحي باحثاً عن “مشاغب” أو متمنياً أن يحظى بمجموعة شباب قررت التحرك من داخل الضاحية، كي يوصل الصوت للمسؤول وينتشي فخراً وعزةً، بعدما أطفأ فتيل مؤامرة؟ إياك أن تنسى يا حاج أننا نحن المهمشون، ونحن أقرب من الأرض والفقر والذل، نحن من سيحارب حروبك، ويعانق عبوات أعدائك الذين سيستهدفونك في مناطقك وبين أهلك عندما تدق طبول الحرب كما يحصل دائماً. بوّدي أن أصف مدى الذل الذي يعانيه الشاب عندما يُفتش هاتفه وحاسوبه من قبل مجموعة مراهقين وهو تحت منزله، كيف تفتح أكياس بقالته وحقيبته، للتأكد من أنه ليس من “الثوار”. ولكنني لا أستطيع، فكلٌّ منّا عانى من ترهيب مختلف، وسيجيء يومٌ، تنهمر فيه هذه القصص وتصبح علنيةً. أسألك يا حاج أتحفظون الأمن عبر خنقنا؟ فلقد بات نمط تحركاتكم واضحاً، العسكرة و”الأمنيّات” تزايدت تدريجاً. كانت في البداية تقتصر على قلة منكم يقفون على المفارق، أمّا الآن فأنتم تعون جيداً أننا في وقت قد يقتلكم فيه من يحرس بيوتكم، وسيقوم عليكم من جاع وأُهمل، ولهذا تعاونتم مع أجهزة الدولة لإحكام قبضتكم علينا، ولو أنكم قادرون على التحكم بنا وبآرائنا لفعلتم، لكنكم غير قادرين (حتى الآن)، ولم يبقَ لكم سوى السلاح والترهيب، الورقة الأخيرة والتي لن تنجح ولكن ستمضون بها في أي حال…
إياك أن تنسى يا حاج أننا نحن المهمشون، ونحن أقرب من الأرض والفقر والذل.
هناك تحت جسر المشرفية، حيث نادى الشباب: “السلاح على راسنا، بس جعنا يا حاج”، وقوبلوا بالصراخ ونزول العشرات منكم والدفع والشتم لكي يعودوا أدراجهم وينسحبوا من ساحاتهم. تحت هذا الجسر، بصيص الأمل، بداية التغيير، حيث يتجه بعضنا كل مرّة، وبعد فترة من الترهيب الدائم، ليعاود المحاولة، لعلّها المرّة التي لن نُنهر ونطوق ونُهدد فيها. تحت هذا الجسر كما كُنتم تجمعوننا دائماً لأهدافكم وأجنداتكم، سنجتمع لفقرنا وعوَزنا، سنلتحق بإخوتنا في سائر المناطق. لقد رصصتم صفوفكم وتجولتم في المناطق والأحياء، ولو كان هذا لإرهاب أعدائِكم لما كان مريباً، ولكن في بيتكم وعقر داركم، هناك من يرهبكم، وأصبح من الواجب عليكم إعادة “ضبط” الأمور. قد أثبتت الأيام الماضية أنكم في طور متقدم من الأزمة وأن صراعكم النفسي تفاقم، حالة البلد لا تبشركم بالخير، بل تنذركم بانفجارٍ متأصّل وداخلي سيهزكم وقعه. وعلى عكس ما يوحي به خطابكم من استخفاف بالمنتفضين، فحجم استنفاركم يعكس خوفكم من المطالب المعيشية، فأنتم تعلمون أن الشعب إذا نال حقوقه وتحرر منكم، لن يحمل السلاح لقتال مواطنين في بلدان أخرى، ولعلّ هذا هو سبب تأهبكم العسكري عندما يرتفع الدولار أو يزداد الوضع المعيشي سوءاً. فبكل بساطة في قاموسكم لا مطالب معيشية، فهي دائماً مقرونة بما هو أكبر وأكثر حساسية، وطبعاً أهم من أن تكون لنا حياةٌ.