fbpx

ضحايا زين العابدين بن علي: جلسات استماع بين التيه والأمل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

افتُتِحت تسع جلسات في تونس لمحاكمة المتورطين في أعمال القمع والتعذيب المفضي إلى الموت في سجون ديكتاتورية نظام بن علي. كانت هذه المحاكمات بمثابة انتصارٍ متواضعٍ للعائلات، على الرغم من غياب العديد من المتهمين، وإجراءات قضائية متلعثمة في غالب الأحيان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

افتُتِحت تسع جلسات في تونس لمحاكمة المتورّطين في أعمال القمع والتعذيب المفضي إلى الموت في سجون ديكتاتورية نظام بن علي. كانت هذه المحاكمات بمثابة انتصار متواضع للعائلات، على الرغم من غياب العديد من المتّهمين، وإجراءات قضائية متلعثمة في غالب الأحيان.

ذهولٌ وارتجافٌ. لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال النظر إلى راشد، البالغ من العمر 55 عاماً، بذقنه الفضي، في صورة بطل أميلي نوثوم ( كاتبة قصص بوليسية)، لكنه مع ذلك بدا في ذات الحالة العقلية والجسدية، لدى مثوله أمام القضاء في القاعة رقم 5 في المحكمة الابتدائية في تونس. في الجلسة الأولى الخاصة بقضية مولدي بن عمر، الناشط الإسلامي البالغ من العمر 40 عاماً الذي تعرّض للتعذيب حتى الموت في سجون الرئيس السابق زين العابدين بن علي في عام 1992، أعاد راشد عقارب الزمن إلى الخلف، بقفزه خمسة وعشرين عاماً. وكان هذا الأستاذ في الرياضيّات، المتعاطف مع حركة النهضة الإسلامية، المحظورة آنذاك، رهن الاعتقال في نفس السجن مع مولدي بن عمر، وتعرّض هو أيضاً لأصناف التعذيب على يد نفس الجلادين، وفي يوم في 5 تموز/يوليو، كان أحد جلاديه جالساً على بعد أمتار قليلة منه.

لم يصدّق راشد عينيه عندما وقف الرجل الذي كان يرتدي سترة بولو زرقاء وصندل بعد المناداة على اسمه ليتقدّم أمام المحكمة، كمتّهمٍ، ليؤكّد هويته. يقول راشد، “لقد لمحته، كان يشبه بلقاسم، مع فارقٍ أنه يحمل اليوم شارباً، لكن نظراً إلى وجوده بين الجمهور، لم أكن أعتقد أنه يمكن أن يكون هو بالفعل. لو كنتُ أعرف… ماذا كنتُ سأفعل؟ لا أدري. الحمد لله، لم أكن أعرف ذلك”.

كان بلقاسم مكلّفاً بتفتيش المساجين عراة تماماً، ووفقاً للائحة التهم الموجهة إليهم، كان عمله اليومي يتضمّن توجيه أوامره بتعريض المساجين لوضعية “الدجاج المشوي” ( يكون جسم المتهم ملتوياً، معلّقاً على عصا) أو طريقة “التنقيط” (نوع من التعذيب الغرض منه خنق أنين السجناء من خلال وضع أنبوب في الفم)، وموافقته على عمليّات اغتصاب السجناء بوسائل غير حادة.

لكن كيف يمكن تفسير وضع الضحية والجاني المفترض، في نفس المكان جنباً إلى جنب؟ يقول سمير ديلو، أحد محامي الطرف المدني “إنه لأمر مؤسفٌ حقاً، لم يتم إحضار المتّهمين من مدخلٍ مخصّص لهم، ولم يتم تسجيل وقائع الجلسة في الأرشيف”. رئيس الجلسة أقرّ بذلك، وبناء عليه، رفع الجلسة بسرعة. وقد علّق أحد المراقبين الدوليين بأسف على ذلك الوضع قائلاً “ماذا لو كان بحوزة أحدهم سلاحاً، كانت ستحدث كارثة، لا شك”.

جوٌ خانقٌ

هذه القضية التي بدأت بشكلٍ سيء للغاية، تشكّل واحدةً ضمن تسع محاكمات في إطار جلسات العدالة الانتقالية التي انطلقت أشغالها في جميع أنحاء تونس، ولا يُتوقّع الانتهاء منها والخروج بنتائج قبل سنوات، لكنّ انطلاقها بشكل تصاعدي -في انتظار افتتاح محاكمات أخرى في أيلول/سبتمبر- يمثّل خطوة حاسمة في مسار العدالة الانتقالية. أجرت هيئة الحقيقة والكرامة (IVD)،المكلفة بتسليط الضوء على أهم الانتهاكات لحقوق الإنسان التي ارتكبتها الديكتاتورية التونسية بين عامي 1955 و 2013، حوالي 49,640 جلسة استماع. وتُعدّ هذه المحاكمات أولى الإجراءات العقابية المتمخضة عن هذا العمل المخصّص للتحقيق والاستماع. تنظر سبع من مجمل الحالات التسع، في قضايا تخصّ ممثّلين عن قوى حفظ النظام، يشتبه في تعذيبهم أو قتلهم مباشرة ناشطين إسلاميين، بينما تخصّ الحالتين المتبقيتين، عمليات قمع المحتجّين، خلال ثورة 2011. ويرتقب، نظرياً على الأقل، أن تكشف هذه الملفّات التسلسل القيادي في المسؤولية عن ارتكاب هذه الانتهاكات، ومعاقبة الذين أصدروا الأوامر وكذلك المنفّذين. أما من الناحية العمليّة، يتّضح من هذه المحاكمات أن ما تعانيه تونس ما بعد الثورة من عوائق، أكثر ممّا هو متوفّر من الشفافية والحقيقة. في كثير من الأحيان، تطرح طريقة الإجراءات المتّبعة في هذه الجلسات، شكوكاً حول مدى توفّر الإرادة الحقيقية لإنجاح العملية برمّتها، من قبيل غياب إيصالات استدعاء المتّهمين، واستجواب الشهود من دون حضور محامي الدفاع، وعمليّات فرز الجمهور من قبل الشرطة، وما إلى ذلك. من جهة أخرى ينجم عن انعدام الحماسة السياسية، في تكريس جو خانق مشحون. في شهر آذار/مارس، صوّت البرلمان على إنهاء مهمّة هيئة الحقيقة والكرامة، لكن تم التوصل إلى اتفاق ودّي مع الحكومة، يسمح للهيئة بمقتضاه إكمال إعداد تقريرها النهائي المرتقب في نهاية العام. ومن خلال استثماره هذا الخلاف المتواصل، دعا اتحاد موظفي المديرية العامة لوحدات التدخل، أعضاءه إلى عدم المشاركة في المحكمات.

“المتّهم الأكثر ذكراً  أثناء هذه المحاكمات، فيوجد في مكانٍ بعيد جدّاً”

وفعلاً، خلال جلسات الاستماع التسع، لم يحضر سوى ستّة متّهمين. ومن جملة التبريرات المقدّمة للحصول على تأجيل الجلسات، غياب توكيل محام، أو عدم توفّر الوقت الكافي لإعداد الدفاعات عن المتّهمين، أما الغائبين عن الجلسات، فلا يمكن اعتبارهم “على خطأ”، مثلما يشير إليه المثل الشعبي (أو ليس بعد). وكان أحد المتّهمين الأربعة عشر في قضية الاختفاء القسري الذي تعرّض له كمال مطماطي، في عام 1991،  قد غادر تونس متوجّهاً إلى ليون الفرنسية، بعد اعتقاله من قبل شرطة قابس. “وذلك، رغم أن رئيس الجلسة كان قد رفض طلب المدّعي العام، المدعوم من قبل محامي الضحايا، بإصدار مذكّرات توقيف بحق المتّهمين”، تقول كاميل هنري، منسّقة الدعوة في المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، في إدانتها لهذا القرار. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأطراف المدنية تطالب بشكل ممنهج بحظر السفر للأشخاص المتورّطين في تلك الانتهاكات، أما المتهم، الأكثر ذكراً في أغلب الأحيان أثناء هذه المحاكمات، فيوجد في مكانٍ بعيد جداً، ومنذ فترة طويلة. لقد فر الدكتاتور المخلوع بن علي إلى المملكة العربية السعودية التي منحته حق اللجوء.

عملية جرد مروّعة

إنه شعور بالعجز وإحباط ناتج عن حالة من الإفلات من العقاب لا يمكن تجرّعها. في القصرين، المعقل الثوري في جنوب غرب البلاد، الذي يشهد جلسة قضائية حول عمليّات القمع على يد قوات الشرطة في عام 2011، كان مشهد قفص الإتّهام الفارغ من المتّهمين شديد الأثر على الحاضرين ومخيّباً لظنّهم، وبمثابة تجربة قاسية لهم، كما لو أن الثورة لم تعدو كونها مجرّد ذكرى بعيدة، من الأفضل نسيانها. وفي المحاكمة التي جرت في نابل على بعد 100 كلم جنوب تونس، دفع غياب المتّهمين الـ33 عن المحاكمة، بأسرة رشيد الشماخي إلى التعبير عن غضبهم الشديد علانية. بعد اعتقاله في خريف عام 1991، اقتيد هذا الناشط إلى مبنى الحرس الوطني حيث لقي مصرعه بعد ثلاثة أيام، وقد تعرّض لأصناف التعذيب طيلة سبع وسبعين ساعة، وفق ما جاء في وصف وتعداد رئيس الغرفة الخاصة لتلك الأصناف المرعبة من التعذيب، الواحدة تلو الأخرى. تم تقييده، وتعليقه، وإدخال عصا في شرجه، وسلك من الحديد في قضيبه، إلى غير ذلك من ضروب التعذيب المهول. وقد أثارت عمليّة جرد هذه الأصناف المروعة من التعذيب حنق رشيدة، إحدى أخوات الضحية، معربة عن سخطها، تقول “لا أقبل الصفح والمصالحة. أريد أن يموت المسؤولون عن هذه الأفعال، وأن يتجرّعوا نفس أصناف التعذيب”.

خارج القاعة، تحوّلت مشاعر الرعب إلى قلق تجاري، وتساؤلات التجار، هل يسهم انتشار قوّات الشرطة في الشوارع في طمأنة السياح أم في إثارة قلقهم؟ الجمهور عموماً، في سوسة أو في أي مكان آخر، لا يهتم كثيراً بهذه المحاكمات، التي لا يعرف عنها شيئا في أغلب الأحيان. ومن أجل إحراز تقدّم في جلسات المناقشة، كان على القضاة الخمسة في كل غرفة خاصة، الذين تم تكوينهم من قبل الأمم المتحدة، أن يبدعوا ويبتكروا الحلول الممكنة والقابلة للتطبيق، مثل، الجواب عن كيف يمكنهم، في غياب المتّهمين، إثبات أن التعذيب كان مؤسّسياً؟ اعتمد رئيس الغرفة الخاصة في قابس على شاهدٍ، وهو عضوٌ في قوات الشرطة، استُجوب حول طبيعة ممارساته أثناء العمل، طُرٍحت عليه جملة من الأسئلة، على غرار “هل تلقيت أمراً محدداً؟ […] هل رفعت بعد ذلك تقريراً إلى المشرف عليك؟ […] هل قمت أحياناً بضرب أقدام شخصٍ بعصا بعد القبض عليه؟” لكن في غياب محامي الدفاع، لا يملك القاضي سوى الشروع في جلسات الاستماع للأطراف المدنية.

المطب الواجب تجاوزه هو تجنب تحويل المحكمة إلى مجرد غرفة تسجيل من دون مناقشة الأطراف المتخاصمة. أثناء المحاكمة في قضية وفاة فيصل بركات، الذي لقي نفس مصير رشيد الشماخي قبل بضعة أسابيع، وفي نفس المكان، تحوّلت رئيسة الجلسة، فجأة إلى محامية دفاع. كان الطرف المدني، جمال بركات، شقيق فيصل، في المبنى المروّع للحرس الوطني عندما اغتيل فيصل. ويؤكّد شقيقه أنه شهده وسمعه يصرخ في غرفة مجاورة قريبة، ثم غيّرت القاضية وجهة سرد الحدث لاختبار مصداقية “الشاهد” الذي لم يكن في الواقع شاهداً رسميّاً وسألته “هل كان الباب مفتوحاً بما فيه الكفاية؟ هل أنت متأكدٌ أنك رأيت وجهه، وليس جسده فقط؟ أياً كانت الظروف، يتكرّر نفس النموذج: الحظر على العائلة رؤية جثة الضحية الموضوعة في تابوت مغلق، ممارسة ضغوط لفرض توقيع شهادة مزوّرة تشير إلى الموت عن طريق حادث طريق أو مرض مزمن، بالإضافة إلى دورية الشرطة، بلباس مدني، تحوم حول القبر لمنع الأقارب من إخراج رفات الضحايا.

حقائق قاسية

بعض أشكال الاعترافات غير الرسمية تنتزع من المرء ابتسامةً مريرة، كما هو الأمر في حالة عبد الواحد عبيدلي، الذي تعرّض للتعذيب في سوسة عام 1991. ونتيجة الضغط الذي مارسه الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، أجبر بن علي على مقابلة والد الطالب، العضو في حركة النهضة، وقرّر أن يدفع له معاشاً قدره 100 دينار شهريّاً… أي ما يعادل 80 يورو في ذلك الوقت.

رغم كل الصعاب، تتجلّى الحقيقة أحياناً، على غرار ما حدث في 12 تموز/يوليو، في الغرفة رقم 2 في محكمة تونس العاصمة حيث تم النظر في قضية وفاة عثمان بن محمود، بعد أن أطلقت عليه الشرطة التونسية الرصاص في عام 1986. وجاء وفقاً للتقرير الأول، أن شرطياً قتل رمياً بالرصاص من الخلف، الناشط الإسلامي الشاب الذي كان يحاول الفرار. ومن مكان متوارٍ عن الأنظار، خلف ألواح خشبيّة تضمن له عدم الكشف عن هويته، روى أحد الشهود مشهداً مذهلاً تمخض عنه نسخة بديلة عن الحدث، قال الشاهد  “بن علي [حينها وزير الأمن القومي] قرأ التقرير الأول، قبل أن يمزّقه، ويسأل عن مكان المراحيض، ليتخلّص من التقرير، ثم أملى نسخة أخرى تصف الحدث، تزعم أن الضحية توفي عن طريق الخطأ أثناء محاولته الإمساك بسلاح أحد أفراد الشرطة. وبعد أن أوضح له بعض الحضور أن الرصاصة اخترقت مؤخرة الرأس، وبالتالي لا تتطابق مع النسخة الجديدة للرواية، رد عليهم بن علي بالقول “اخرسوا”، حسبما ختم به الشاهد روايته أثناء الجلسة.

من أجل هذه المشاهد العابرة، وهذه الحقائق القاسية، وهذه التصريحات العنيفة، يصرّ أنصار العدالة الانتقالية على مواصلة عقد هذه المحاكمات. “أجل إنّنا نواجه مشاكل، لكن العملية قد انطلقت وهي مستمرّة، وسيُحاكم بعض المتّهمين غيابياً فحسب، وستستغرق جلسات الاستماع وقتاً، لكن لا شيء سيوقف إصدار الأحكام” يقول المحامي سمير ديلو بنبرة مبتهجة، وقد قضى هو نفسه، عشر سنوات خلف القضبان كمعارضٍ سياسيٍ. “إنه هنا، إن النصر في متناول اليد”.

هذا المقال مترجم عن موقع صحيفة liberation ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

17.08.2018
زمن القراءة: 8 minutes

افتُتِحت تسع جلسات في تونس لمحاكمة المتورطين في أعمال القمع والتعذيب المفضي إلى الموت في سجون ديكتاتورية نظام بن علي. كانت هذه المحاكمات بمثابة انتصارٍ متواضعٍ للعائلات، على الرغم من غياب العديد من المتهمين، وإجراءات قضائية متلعثمة في غالب الأحيان.

افتُتِحت تسع جلسات في تونس لمحاكمة المتورّطين في أعمال القمع والتعذيب المفضي إلى الموت في سجون ديكتاتورية نظام بن علي. كانت هذه المحاكمات بمثابة انتصار متواضع للعائلات، على الرغم من غياب العديد من المتّهمين، وإجراءات قضائية متلعثمة في غالب الأحيان.

ذهولٌ وارتجافٌ. لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال النظر إلى راشد، البالغ من العمر 55 عاماً، بذقنه الفضي، في صورة بطل أميلي نوثوم ( كاتبة قصص بوليسية)، لكنه مع ذلك بدا في ذات الحالة العقلية والجسدية، لدى مثوله أمام القضاء في القاعة رقم 5 في المحكمة الابتدائية في تونس. في الجلسة الأولى الخاصة بقضية مولدي بن عمر، الناشط الإسلامي البالغ من العمر 40 عاماً الذي تعرّض للتعذيب حتى الموت في سجون الرئيس السابق زين العابدين بن علي في عام 1992، أعاد راشد عقارب الزمن إلى الخلف، بقفزه خمسة وعشرين عاماً. وكان هذا الأستاذ في الرياضيّات، المتعاطف مع حركة النهضة الإسلامية، المحظورة آنذاك، رهن الاعتقال في نفس السجن مع مولدي بن عمر، وتعرّض هو أيضاً لأصناف التعذيب على يد نفس الجلادين، وفي يوم في 5 تموز/يوليو، كان أحد جلاديه جالساً على بعد أمتار قليلة منه.

لم يصدّق راشد عينيه عندما وقف الرجل الذي كان يرتدي سترة بولو زرقاء وصندل بعد المناداة على اسمه ليتقدّم أمام المحكمة، كمتّهمٍ، ليؤكّد هويته. يقول راشد، “لقد لمحته، كان يشبه بلقاسم، مع فارقٍ أنه يحمل اليوم شارباً، لكن نظراً إلى وجوده بين الجمهور، لم أكن أعتقد أنه يمكن أن يكون هو بالفعل. لو كنتُ أعرف… ماذا كنتُ سأفعل؟ لا أدري. الحمد لله، لم أكن أعرف ذلك”.

كان بلقاسم مكلّفاً بتفتيش المساجين عراة تماماً، ووفقاً للائحة التهم الموجهة إليهم، كان عمله اليومي يتضمّن توجيه أوامره بتعريض المساجين لوضعية “الدجاج المشوي” ( يكون جسم المتهم ملتوياً، معلّقاً على عصا) أو طريقة “التنقيط” (نوع من التعذيب الغرض منه خنق أنين السجناء من خلال وضع أنبوب في الفم)، وموافقته على عمليّات اغتصاب السجناء بوسائل غير حادة.

لكن كيف يمكن تفسير وضع الضحية والجاني المفترض، في نفس المكان جنباً إلى جنب؟ يقول سمير ديلو، أحد محامي الطرف المدني “إنه لأمر مؤسفٌ حقاً، لم يتم إحضار المتّهمين من مدخلٍ مخصّص لهم، ولم يتم تسجيل وقائع الجلسة في الأرشيف”. رئيس الجلسة أقرّ بذلك، وبناء عليه، رفع الجلسة بسرعة. وقد علّق أحد المراقبين الدوليين بأسف على ذلك الوضع قائلاً “ماذا لو كان بحوزة أحدهم سلاحاً، كانت ستحدث كارثة، لا شك”.

جوٌ خانقٌ

هذه القضية التي بدأت بشكلٍ سيء للغاية، تشكّل واحدةً ضمن تسع محاكمات في إطار جلسات العدالة الانتقالية التي انطلقت أشغالها في جميع أنحاء تونس، ولا يُتوقّع الانتهاء منها والخروج بنتائج قبل سنوات، لكنّ انطلاقها بشكل تصاعدي -في انتظار افتتاح محاكمات أخرى في أيلول/سبتمبر- يمثّل خطوة حاسمة في مسار العدالة الانتقالية. أجرت هيئة الحقيقة والكرامة (IVD)،المكلفة بتسليط الضوء على أهم الانتهاكات لحقوق الإنسان التي ارتكبتها الديكتاتورية التونسية بين عامي 1955 و 2013، حوالي 49,640 جلسة استماع. وتُعدّ هذه المحاكمات أولى الإجراءات العقابية المتمخضة عن هذا العمل المخصّص للتحقيق والاستماع. تنظر سبع من مجمل الحالات التسع، في قضايا تخصّ ممثّلين عن قوى حفظ النظام، يشتبه في تعذيبهم أو قتلهم مباشرة ناشطين إسلاميين، بينما تخصّ الحالتين المتبقيتين، عمليات قمع المحتجّين، خلال ثورة 2011. ويرتقب، نظرياً على الأقل، أن تكشف هذه الملفّات التسلسل القيادي في المسؤولية عن ارتكاب هذه الانتهاكات، ومعاقبة الذين أصدروا الأوامر وكذلك المنفّذين. أما من الناحية العمليّة، يتّضح من هذه المحاكمات أن ما تعانيه تونس ما بعد الثورة من عوائق، أكثر ممّا هو متوفّر من الشفافية والحقيقة. في كثير من الأحيان، تطرح طريقة الإجراءات المتّبعة في هذه الجلسات، شكوكاً حول مدى توفّر الإرادة الحقيقية لإنجاح العملية برمّتها، من قبيل غياب إيصالات استدعاء المتّهمين، واستجواب الشهود من دون حضور محامي الدفاع، وعمليّات فرز الجمهور من قبل الشرطة، وما إلى ذلك. من جهة أخرى ينجم عن انعدام الحماسة السياسية، في تكريس جو خانق مشحون. في شهر آذار/مارس، صوّت البرلمان على إنهاء مهمّة هيئة الحقيقة والكرامة، لكن تم التوصل إلى اتفاق ودّي مع الحكومة، يسمح للهيئة بمقتضاه إكمال إعداد تقريرها النهائي المرتقب في نهاية العام. ومن خلال استثماره هذا الخلاف المتواصل، دعا اتحاد موظفي المديرية العامة لوحدات التدخل، أعضاءه إلى عدم المشاركة في المحكمات.

“المتّهم الأكثر ذكراً  أثناء هذه المحاكمات، فيوجد في مكانٍ بعيد جدّاً”

وفعلاً، خلال جلسات الاستماع التسع، لم يحضر سوى ستّة متّهمين. ومن جملة التبريرات المقدّمة للحصول على تأجيل الجلسات، غياب توكيل محام، أو عدم توفّر الوقت الكافي لإعداد الدفاعات عن المتّهمين، أما الغائبين عن الجلسات، فلا يمكن اعتبارهم “على خطأ”، مثلما يشير إليه المثل الشعبي (أو ليس بعد). وكان أحد المتّهمين الأربعة عشر في قضية الاختفاء القسري الذي تعرّض له كمال مطماطي، في عام 1991،  قد غادر تونس متوجّهاً إلى ليون الفرنسية، بعد اعتقاله من قبل شرطة قابس. “وذلك، رغم أن رئيس الجلسة كان قد رفض طلب المدّعي العام، المدعوم من قبل محامي الضحايا، بإصدار مذكّرات توقيف بحق المتّهمين”، تقول كاميل هنري، منسّقة الدعوة في المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، في إدانتها لهذا القرار. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأطراف المدنية تطالب بشكل ممنهج بحظر السفر للأشخاص المتورّطين في تلك الانتهاكات، أما المتهم، الأكثر ذكراً في أغلب الأحيان أثناء هذه المحاكمات، فيوجد في مكانٍ بعيد جداً، ومنذ فترة طويلة. لقد فر الدكتاتور المخلوع بن علي إلى المملكة العربية السعودية التي منحته حق اللجوء.

عملية جرد مروّعة

إنه شعور بالعجز وإحباط ناتج عن حالة من الإفلات من العقاب لا يمكن تجرّعها. في القصرين، المعقل الثوري في جنوب غرب البلاد، الذي يشهد جلسة قضائية حول عمليّات القمع على يد قوات الشرطة في عام 2011، كان مشهد قفص الإتّهام الفارغ من المتّهمين شديد الأثر على الحاضرين ومخيّباً لظنّهم، وبمثابة تجربة قاسية لهم، كما لو أن الثورة لم تعدو كونها مجرّد ذكرى بعيدة، من الأفضل نسيانها. وفي المحاكمة التي جرت في نابل على بعد 100 كلم جنوب تونس، دفع غياب المتّهمين الـ33 عن المحاكمة، بأسرة رشيد الشماخي إلى التعبير عن غضبهم الشديد علانية. بعد اعتقاله في خريف عام 1991، اقتيد هذا الناشط إلى مبنى الحرس الوطني حيث لقي مصرعه بعد ثلاثة أيام، وقد تعرّض لأصناف التعذيب طيلة سبع وسبعين ساعة، وفق ما جاء في وصف وتعداد رئيس الغرفة الخاصة لتلك الأصناف المرعبة من التعذيب، الواحدة تلو الأخرى. تم تقييده، وتعليقه، وإدخال عصا في شرجه، وسلك من الحديد في قضيبه، إلى غير ذلك من ضروب التعذيب المهول. وقد أثارت عمليّة جرد هذه الأصناف المروعة من التعذيب حنق رشيدة، إحدى أخوات الضحية، معربة عن سخطها، تقول “لا أقبل الصفح والمصالحة. أريد أن يموت المسؤولون عن هذه الأفعال، وأن يتجرّعوا نفس أصناف التعذيب”.

خارج القاعة، تحوّلت مشاعر الرعب إلى قلق تجاري، وتساؤلات التجار، هل يسهم انتشار قوّات الشرطة في الشوارع في طمأنة السياح أم في إثارة قلقهم؟ الجمهور عموماً، في سوسة أو في أي مكان آخر، لا يهتم كثيراً بهذه المحاكمات، التي لا يعرف عنها شيئا في أغلب الأحيان. ومن أجل إحراز تقدّم في جلسات المناقشة، كان على القضاة الخمسة في كل غرفة خاصة، الذين تم تكوينهم من قبل الأمم المتحدة، أن يبدعوا ويبتكروا الحلول الممكنة والقابلة للتطبيق، مثل، الجواب عن كيف يمكنهم، في غياب المتّهمين، إثبات أن التعذيب كان مؤسّسياً؟ اعتمد رئيس الغرفة الخاصة في قابس على شاهدٍ، وهو عضوٌ في قوات الشرطة، استُجوب حول طبيعة ممارساته أثناء العمل، طُرٍحت عليه جملة من الأسئلة، على غرار “هل تلقيت أمراً محدداً؟ […] هل رفعت بعد ذلك تقريراً إلى المشرف عليك؟ […] هل قمت أحياناً بضرب أقدام شخصٍ بعصا بعد القبض عليه؟” لكن في غياب محامي الدفاع، لا يملك القاضي سوى الشروع في جلسات الاستماع للأطراف المدنية.

المطب الواجب تجاوزه هو تجنب تحويل المحكمة إلى مجرد غرفة تسجيل من دون مناقشة الأطراف المتخاصمة. أثناء المحاكمة في قضية وفاة فيصل بركات، الذي لقي نفس مصير رشيد الشماخي قبل بضعة أسابيع، وفي نفس المكان، تحوّلت رئيسة الجلسة، فجأة إلى محامية دفاع. كان الطرف المدني، جمال بركات، شقيق فيصل، في المبنى المروّع للحرس الوطني عندما اغتيل فيصل. ويؤكّد شقيقه أنه شهده وسمعه يصرخ في غرفة مجاورة قريبة، ثم غيّرت القاضية وجهة سرد الحدث لاختبار مصداقية “الشاهد” الذي لم يكن في الواقع شاهداً رسميّاً وسألته “هل كان الباب مفتوحاً بما فيه الكفاية؟ هل أنت متأكدٌ أنك رأيت وجهه، وليس جسده فقط؟ أياً كانت الظروف، يتكرّر نفس النموذج: الحظر على العائلة رؤية جثة الضحية الموضوعة في تابوت مغلق، ممارسة ضغوط لفرض توقيع شهادة مزوّرة تشير إلى الموت عن طريق حادث طريق أو مرض مزمن، بالإضافة إلى دورية الشرطة، بلباس مدني، تحوم حول القبر لمنع الأقارب من إخراج رفات الضحايا.

حقائق قاسية

بعض أشكال الاعترافات غير الرسمية تنتزع من المرء ابتسامةً مريرة، كما هو الأمر في حالة عبد الواحد عبيدلي، الذي تعرّض للتعذيب في سوسة عام 1991. ونتيجة الضغط الذي مارسه الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، أجبر بن علي على مقابلة والد الطالب، العضو في حركة النهضة، وقرّر أن يدفع له معاشاً قدره 100 دينار شهريّاً… أي ما يعادل 80 يورو في ذلك الوقت.

رغم كل الصعاب، تتجلّى الحقيقة أحياناً، على غرار ما حدث في 12 تموز/يوليو، في الغرفة رقم 2 في محكمة تونس العاصمة حيث تم النظر في قضية وفاة عثمان بن محمود، بعد أن أطلقت عليه الشرطة التونسية الرصاص في عام 1986. وجاء وفقاً للتقرير الأول، أن شرطياً قتل رمياً بالرصاص من الخلف، الناشط الإسلامي الشاب الذي كان يحاول الفرار. ومن مكان متوارٍ عن الأنظار، خلف ألواح خشبيّة تضمن له عدم الكشف عن هويته، روى أحد الشهود مشهداً مذهلاً تمخض عنه نسخة بديلة عن الحدث، قال الشاهد  “بن علي [حينها وزير الأمن القومي] قرأ التقرير الأول، قبل أن يمزّقه، ويسأل عن مكان المراحيض، ليتخلّص من التقرير، ثم أملى نسخة أخرى تصف الحدث، تزعم أن الضحية توفي عن طريق الخطأ أثناء محاولته الإمساك بسلاح أحد أفراد الشرطة. وبعد أن أوضح له بعض الحضور أن الرصاصة اخترقت مؤخرة الرأس، وبالتالي لا تتطابق مع النسخة الجديدة للرواية، رد عليهم بن علي بالقول “اخرسوا”، حسبما ختم به الشاهد روايته أثناء الجلسة.

من أجل هذه المشاهد العابرة، وهذه الحقائق القاسية، وهذه التصريحات العنيفة، يصرّ أنصار العدالة الانتقالية على مواصلة عقد هذه المحاكمات. “أجل إنّنا نواجه مشاكل، لكن العملية قد انطلقت وهي مستمرّة، وسيُحاكم بعض المتّهمين غيابياً فحسب، وستستغرق جلسات الاستماع وقتاً، لكن لا شيء سيوقف إصدار الأحكام” يقول المحامي سمير ديلو بنبرة مبتهجة، وقد قضى هو نفسه، عشر سنوات خلف القضبان كمعارضٍ سياسيٍ. “إنه هنا، إن النصر في متناول اليد”.

هذا المقال مترجم عن موقع صحيفة liberation ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

17.08.2018
زمن القراءة: 8 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية