“باشروا بضربنا منذ لحظة اعتلائنا سيارة الجيش… تفنّنوا في تعنيفنا ونحن معصوبو العينين، حتى أن أحد العسكريين بلّل جاربيّ ثم صعقني بالكهرباء… ضربونا بوحشية، وأهانونا بشتى الوسائل”.
من على سريره في المستشفى روى الشاب علاء عنتر، وهو أحد الموقوفين اللبنانيين في صيدا عقب التحركات الاحتجاجية الأخيرة رفضاً للوضع الاقتصادي والسياسي، ما حصل معه ومع موقوفين آخرين تعرضوا للضرب المبرح والصعق بالكهرباء على يد عناصر الجيش اللبناني الذي أوقفهم.
علاء يجد حالياً صعوبة في السماع بأذنه اليسرى نتيجة الضرب، “أذني لا أسمع فيها الآن وحنكي يؤلمني أثناء الأكل، من كثرة الصفع، وقدماي مفقفقين… أنا أروي واقعاً حصل معي”…
علاء تردد بداية في الحديث إلى الإعلام، لكنه حين شعر بأن قضية التعذيب باتت قضية رأي عام تشجع وسجل فيديو عما حصل معه من على سريره في المستشفى، وهو روى أن موقوفاً آخر معه تعرض للتعذيب بالكهرباء بشكل أقسى مما تعرض له علاء، “لازم إحكي شو صار معي لأن ممكن يصير مع غيري وأنا أطالب القضاء بأن يحاسب”.
علاء واحد من سبعة شباب اعتقلوا في تاريخ 29 نيسان/ أبريل من قرب مبنى بلدية صيدا، وتعرّضوا للتعذيب على مدى أربعة أيام على خلفية الاحتجاجات الأخيرة.
“هُدّدت بألا أصرّح للإعلام، وكنت خائفاً، لكن اليوم بعدما تحوّلت قضية تعذيبنا إلى رأي عام، أقول أنني تعرّضت للضرب بلا رحمة…”.
دخل علاء بعد الإفراج عنه إلى مستشفى صيدا الحكومي لتلقّي العلاج اللازم، ليخرج منه اليوم “على مسؤوليته الشخصية”، بينما لا يزال محمد سمّور، وهو موقوف سابق آخر، على سريره في المستشفى. وأجبرت القوى الأمنية الموقوفين على توقيع تعهدات بعدم المشاركة في الاحتجاجات الشعبية مجدداً، تحت طائلة الاعتقال.
“ضربونا بوحشية، وأهانونا بشتى الوسائل”.
هذه الممارسات العنفية من جهات أمن رسمي ازدادت في الفترة الأخيرة، وتحديداً في المرحلة التي تلت خطة التعبئة العامة لاحتواء فايروس “كورونا”، إذ وثّقت مجموعات حقوقية اعتداءات لقوى الأمن على الناشطين، منهم طارق سرحان، الذي ضُرب على رأسه في الأول من أيار/ مايو، وفقاً لمجموعة “لحقّي”. هذا عدا عن القمع الامني الذي مورس علي المحتجين في طرابلس والذي تسبب بسقوط الشاب فواز السمان، وعدد كبير من الجرحى.
تكرار هذه الاعتداءات يوحي بوجود قرار سياسي بالقمع، وبإرساء نظام بوليسي يهدف إلى إقصاء أي شكل من أشكال التغيير التي قد تطاول السلطة أو الطبقة الأوليغارشية.
وفي هذا الصدد، يقول ماهر أبو شقرا، الناشط السياسي في مجموعة “لحقّي” لـ”درج”، إن “مواجهة النظام الاحتجاجات باتت واضحة من خلال اعتماد أسلوبين. الأول هو الإيحاء بأن هذه التحركات ليست ثورية، بل هي صراعات بين أطراف سياسية حزبية، وهذا ما تجلّى في أحداث طرابلس الأخيرة. والثاني هو الممارسات القمعية، والاعتقالات التعسفية والتعذيب”.
لبنان… دولة أمنية
وثّقت لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين في لبنان اعتداءات ومخالفات عدة في تعامل الجهات الأمنية مع الموقوفين أخيراً، وذلك بعد محاولات عدة لعرقلة مسعاها إلى مقابلتهم.
وقالت اللجنة في بيان إنها لا تزال تتابع توقيف عشرات المشاركين في الاحتجاجات في مختلف المناطق اللبنانية، لا سيما طرابلس وصيدا وزحلة والمتن، والذين يبلغ عددهم 33 شخصاً على الأقل.
كما أضافت أن هناك موقوفين يتعرضون للعنف الشديد خلال إلقاء القبض عليهم داخل آليات النقل وأماكن الاحتجاز التابعة لمخابرات الجيش، وفقاً لشهادة المحامين الذين قابلوا الموقوفين، وشهادة الذين أُفرج عنهم.
واللافت أن الطبيب الشرعي لم يكشف على الموقوفين إلا بعد أيام، على رغم مطالبة المحامين المتكررة بذلك، وهو ما يخالف موجب التثبت والتحقيق في جرائم التعذيب، ويؤدي لإخفاء آثار العنف الظاهرة على أجسادهم.
وقالت اللجنة في بيانها إن الموقوفين حُرموا من أبسط حقوقهم القانونية، إذ لم يتمكن أي منهم من الاتصال بأفراد عائلاته، ومقابلة محامٍ، إلا بعد ضغط نقابة المحامين. إضافة إلى أن أغلبهم أُخفي قسراً من دون معرفة جهة ومكان احتجازهم لأيام.
تحقيق جرمانوس لممارسات التعذيب: باطل
ممارسات الأجهزة الأمنية تخالف قانوني تجريم التعذيب (الرقم 65/2017) والإخفاء القسري (الرقم 105/2018) والمواثيق الدولية التي وقّع عليها لبنان. إلا أن المخالفات لم تقف عند هذا الحد، فقد كلّف مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس، فرع التحقيق في مخابرات الجيش، إجراء التحقيقات اللازمة المتعلّقة بادعاءات تتعلّق بتعرض بعض الموقوفين لدى فرع المخابرات في صيدا للتعذيب. وهو بحدّ ذاته “مخالف للمنطق وللقانون”، وفقاً للمحامي فاروق المغربي.
يشرح مغربي لـ”درج” أنه إذا تعرّض أي شخص للتعذيب، فإن قانون رقم 65/2017 يحميه، وذلك من خلال تقديم شكوى للنيابة العامة، والتي بدورها تقرر حفظ الشكوى أو تحويلها لقاضي التحقيق خلال مهلة 48 ساعة.
تكرار هذه الاعتداءات يوحي بوجود قرار سياسي بالقمع، وبإرساء نظام بوليسي.
وعليه، فمن غير المنطقي أن تتولى الجهة التي مارست التعذيب بحقّ أشخاص، التحقيق في القضية نفسها.
وفي السياق ذاته، سبق للجنة المحامين المدافعين عن المتظاهرين في لبنان أن تابعت 15 شكوى بجرم التعذيب والإخفاء القسري وانتهاك الحقوق المدنيّة، إلا أنها انتهت بقرار قضائي بحفظها، ما يشير إلى عدم نيّة النيابات العامة، وخصوصاً العسكرية، محاسبة المرتكبين من العناصر الأمنيّين، فيما لم تظهر نتائج أي تحقيق داخلي أجرته هذه الأجهزة.
الجيش والدعاية
كان لافتاً في سياق الحملة الهائلة للترويج للحكومة والقوى الأمنية أخيراً، فيديو دعائي نشرته صفحة الجيش اللبناني على “تويتر” بعنوان، “هيك ردّ الجميل”، ينتقد التظاهرات ويعتبرها استهدفت الجيش الذي وزّع مساعدات على المحتاجين. الفيديو أثار ردود فعل شاجبة، وطرح أسئلة حول هدفه، إلا أنه سُحب بعد أقل من ساعة من نشره. وهذا ما يطرح توجه لبنان ليصبح دولة أمنية.
وفي هذا السياق، استنكرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير لها مستوى العنف غير المقبول ضد المتظاهرين السلميين. وقالت، “على القوى الأمنية في لبنان احترام قواعد استخدام القوة. على الشرطة التزام المعايير الدولية للسيطرة على الحشود”.
لبنان ومناهضة التعذيب
يذكر أن لبنان صدّق على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب عام 2000، وعلى البروتوكول الاختياري الملحق بها عام 2008. وفي أحدث مراجعة أجرتها لجنة مناهضة التعذيب عام 2017، حثَّت اللجنة لبنان على اتخاذ الخطوات الضرورية لتفعيل الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان والآلية الوطنية للوقاية من التعذيب. وهو ما يجرم الأساليب المعتمدة لتعذيب المعتقلين. وعليه، طالب محامون من النيابة العامة التمييزية والنيابة العامة العسكرية ووزارة الدفاع ومديرية المخابرات وسائر سلطات الاحتجاز، بوقف أعمال التعذيب والمعاملة المهينة لجميع الموقوفين، وفتح تحقيقات جدية بهذه الجرائم والمخالفات، تمهيداً لمحاسبة المرتكبين، وإعلان نتائجها للرأي العام ضماناً للشفافية والصدقية.
في المحصلة، إن أساليب التعذيب التي تمارسها السلطات الأمنية بحقّ متظاهرين ليست تجاوزاً عسكرياً فردياً، بل هي التزام بضوء أخصر منحته مراكز القرار الأعلى للجهات المعنية. وهو ما يعزّز الدولة البوليسية في لبنان، ويعمّق الشرخ بين الشعب والسلطة، وبالتالي يضاعف مظلومية المواطنين وحقدهم عليها.