في 21 آب/ أغسطس 2020، على متن رحلة لطيران الشرق الأوسط، يظهر لي النظام مرة جديدة داخل الطائرة متمثلاً بالأناقة المفتعلة لمضيفي الشركة المنسلّة منه ومضيفاته. هذه الأناقة التي اعتادت أن تستخدمها في تمويه سوء الخدمة في أروقة مطار يشبه حفلة جنون، لا تميّز فيها الصواب من الخطأ، تماماً كما تفعل المنظومة حين تقدم خدماتها ورعايتها لزبائنها الكرام. لكن نظام “الحربقة” هذه المرة ليس على ما يرام، فإذ كان يكابر على نفسه في السنوات الماضية ويجمّل صورته، ها هو الآن يفقد حيلته جراء بطلان المفعول السحري لـ”الحربقة”. نظام الحربقة صاحب الصورة النمطية الجميلة مكمّم رغماً عنه. كمامة تخفي أدوات نصبه وتسلبه حيله في التذاكي والظهور بأبهى صوره. لقد اضطر إلى كمّ أفواه تزينت بأحمر الشفاه الفاقع تحضيراً لبدء الخدعة.
لم يعد المكياج المبالغ فيه على وجوه المضيفات سلاحاً فتاكاً لزبائن مغبونين بأصل الخدمة. “سيستام يوك” على حد اصطلاح الأتراك عندما يقعون في أزمة خدماتية يومية. ما تفرضه الشركة المشغلة على موظفيها من أناقة زائفة تبرز في “الكوستوم” و التبرج الزائد، أصبح متوارياً خلف الكمامة، تماماً كما كان بعضنا يفعل في إخفاء الأوساخ تحت السجادة ريثما تكتمل همّتنا لإزالتها ووضعها في مكانها المناسب. لا تنفك هذه الشركة برؤيتها وتدابيرها عن النظام العام في البلاد الذي يقدم نفسه بصورة تخالف مضمونه وجوهره، نظام يقوم على الزبائنية والنفعية من دون أي حد أدنى من مستوى الخدمة المقبولة. الصورة أولاً، تليها التفاصيل والبهرجة لدرجة أنك في معظم الأحيان تبقى عند حدودها، وفي إطارها وأسيرها، مكبلاً بعلاقة زبائنية لا تصبح يوماً حقاً لك ولا تعي أنها واجب على المنظومة الراعية.
على ركاب الطائرة المنهكين من بلدهم، من أدنى التفاصيل المتعلقة بيومياتهم، حتى وصولنا إلى جريمة تفجير المرفأ النظام ذاته في 4 آب/ أغسطس، التي كادت تكون رحلتنا فعلياً إلى السماء من دون طائرة، عليهم أن يضعوا الأحزمة على وقع دعاية الشركة التي تشكل لبّ خطاب الحربقة.
إعلان منمّق، كمجمل الإعلانات، لا سيّما إعلانات وزارة السياحة التافهة مثلاً، لمجموعة من الشباب والصبايا الذين يتجولون بإرشادات السلامة بين المعالم السياحية النظيفة كما يُظهر الإعلان. إنه بمثابة سجادة المنظومة ما غيرها التي تخفي على بعد أمتار من المطار مكباً هائلاً للنفايات! والأنكى من ذلك أن متعهد المطمر الذي يشوه الشاطئ لا يقنعه هذا الإعلان ويتمتع مع عائلته بمالنا في سويسرا، كبقية عائلات المنظومة التي تحكمنا.
بلد كلبنان سجادة جميلة تغطي كمّاً هائلاً من القمامة تحتها ولا تكتمل يوماً همّة النظام لوضعها في المكان المخصص لها، أصلاً نظامنا باجتماعه وسياسته وثقافته نادراً ما عرف أين المكان المناسب. إن هذه المنظومة الحاكمة لها باع طويل في معرفة الحيل للتملص من مسؤوليتها في البحث عن المكان المناسب. إن أولويات الدفاع والهجوم للمنظومة على حد سواء، مندرجة في “خطاب الحربقة”. الحربوق الذي يتدبر أمره ويقفز فوق مشكلاته وكل ما يعترضه ويراكم التشوهات على الدوام من دون أن يسقط. لكن الحربوق في اللغة هو من أفسد عمله. والمنظومة أفضل من أفسد عملها وواجباتها تجاه مواطنيها.
ضمن سياق الحربقة الذي يحكم تفكيرنا نضع تصورنا عن أنفسنا ونقدمه للخارج عبر الدعاية الكاذبة.
لسنوات طويلة وخطاب الحربقة يتصدر المشهد العام، والمشاهد الأخرى، يسرح في المؤسسات الدستورية والدوائر الرسمية وفي المؤسسات الخاصة والنظام المصرفي وفي الجامعات والمؤسسات الإعلامية برمّتها وداخل الأزقة، في دكاكينها ومنازلها. إنه الخطاب السائد الذي لا محال من الرزوح تحت وطأته. لا بل أنه خطاب يتحرك باتجاهين، من أعلى مرتبة في المنظومة باتجاه زبائنها، وباتجاه ثان من الزبائن نحو مؤسسات المنظومة نفسها. فالزبون يملك حيلاً كثيرة لنيل خدمته على طريقة المنظومة. هذا ما ساد لعقود إلى أن كانت اللحظة الأكثر وضوحاً والأكثر تهديداً لهذا الخطاب هي انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، التي أمسكت بطرف السجادة ونفضتها ليتناثر الغبار في عيون منظومة عاشت الطمأنينة لعقود. لكنها عادت ونفضت عنها الغبار وتمكنت من هزيمة هذه اللحظة من دون النجاح في حصر تداعياتها حتى الآن.
ضمن سياق الحربقة الذي يحكم تفكيرنا نضع تصورنا عن أنفسنا ونقدمه للخارج عبر الدعاية الكاذبة. هذا ما كان يحصل قبل انفتاحنا عبر السوشيل ميديا على الأقل، فكانت الدعاية النمطية السائدة تشكل رافعتنا نحو العالم لجذبه وجذب أمواله عبر الاستثمارات والسياحة، نحن ماسحي الأحذية نلمّع صورتنا جيداً كل يوم ونُخفت وهج الحقيقة وندفنها ريثما نتدبر حيلة أخرى تقينا شر السقوط. تُمعن المنظومة في التغاضي عن أزمتها البنيوية وتصرّ، في الداخل والخارج، على نكران أزمتها وتستجدي الوقت لدفنها، بيد أنها لا تدرك أنها تدفن نفسها في الداخل والخارج. لن ينفع هؤلاء القلّة الحاكمة إعلاناً أو “حربقة” بعدما أعلنوا أنفسهم قتلة مأجورين يتنقلون يومياً بيننا بكامل أناقتهم، من بدلات رسمية وفساتين، ليتصوروا فوق جثثنا استكمالاً لصناعة إعلان وإعلام قائم على مفهوم “الحربقة”. الرحلة انتهت على متن خطوط هذا الخطاب القاتل لحظة وداع آخر ملامحه في وجه المضيفة الرهينة الحزينة التي تمنت لنا أياماً أفضل وقالت لنا بالحرف: “عقبالنا ما نخلص”.