fbpx

طرابلس: البيت والمسلخ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لطرابلس ليلٌ باهرٌ كما المدن المتوسطية الخاسرة. ومدينتي التي أكتب عنها عاشت خساراتها على دفعات ولم تنج منها حتى هذه اللحظة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أتذكر المدينة كشيء هائل. أستفيق في المنفى متجاوزاً أبنيتها وأشباحها الثقيلة. للمدينة التي جئت منها أياد معلقة في سقف غرفي الجديدة. أنا الذي لم أعرف بيتاً ولا سقفاً سوى رأسي. الفروة التي تأكل كل يوم تلافيفها كي تنسى، ولا شفاء.

أتذكر المدينة في ليلها. حين كنت أعود من جريدة “الحياة” بعد دوام منتصف الليل. كان ينتظرني محمد، السائق الأربعيني وسط ساحة النور عند الثانية فجراً. أرشف معه فنجان قهوة من المصبات وحولنا يجلس شبان عائدون من أعمالهم المتأخرة على كراس بلاستيكية تكاد تقع لهوانها. كما تقع روائح المدينة على غفلة في أنوفنا فنتذكر أنها لم تعد تفوح بزهر الليمون، بل بالنعاس والتذرر وغضب سكانها وحرائق تأتي من الأسواق الداخلية او من نفايات مصب نهر ابو علي.

لطرابلس ليل باهر كما المدن المتوسطية الخاسرة. ومدينتي التي أكتب عنها عاشت خساراتها على دفعات ولم تنج منها حتى هذه اللحظة. تحفل المدينة كل صيف بمهرجان غنائي يكاد يلتقي فيه القادرون من أهلها، والفقراء يهبون انفسهم لحر الصيف الخانق وسط عتمة قاهرة وخيبات من الحزن.

 طرابلس – المسلخ

لا يختصر محمد والملقب بـ”المرعبي” طريقه. يأخذنا معه في رحلته التي تصل الى المسلخ. وهو المكان الذي اراه اقرب توصيف للحياة في طرابلس. حيث كلنا نسلخ احياء ونموت واقفين مكسوري الأظهر.
كنت أفضل أن أبقى مستيقظاً حتى الصباح. أكمل رحلتي معه. يخبرني عن ليل المدينة وحياتها المنسية وعن الأشخاص الذين بإمكاننا رؤيتهم فقط كالوطاويط في هذه الأوقات.

لا ينسى ان يتهكم من “كعدو” السائق العشريني الذي يركن سيارته في ساحة النجمة، هارباً من أهله وتلصصهم عليه. هو الذي صار ثلاثينياً ولا يزال يجاور أشقاءه الصغار في غرفة ضيقة. يعود محمد الى القبة ليصطحب “أبو مشهور” (صاحب اهم بسطة على مدخل المدينة) والذي يداوم إلى شروق الشمس على البسطة، قبل أن ينزل صبي من حارة الدبابسة ليستلم “النبطشية” منه. كان كما أخبرنا بنفسه، وضعه على البسطة لأن والده قتل بطلق ناري على يد شقيقه.

خرس الحياة اليومية

يتحدث أبو مشهور بكلمات قليلة، بسبب مشكلة في أوتاره الصوتية، المصابة بمرض خبيث. يتحدث كأنه لا ينطق. كالخرس الذي يصيب معظم سكان هذه المدينة. فيبدون على هيئة أبو مشهور بلا كلام. يبددون الحياة بإشارات ضئيلة. إنها الحياة الموقوفة التي ذكرها وضاح شرارة في أحد كتبه. ولطرابلس حصة الأسد في هذا التكلس. مدينة لم يعد فيها سوى حنين مستشر، وحيتان مال يقضمون سماءها وأبنية شبحية تتسلل كل يوم الى البحر، الذي عرف رحلات الهرب قبل الأزمة السورية. فكانت رحلات اللجوء عبر القوارب مسيّرة دوماً نحو أفق لم ينج منه أهل طرابلس ولا آلام شبابها.

لم أر المرعبي يوماً حزيناً أو “نقاقاً”. يكتفي بالاستماع إلى تسجيلات رديئة لأشرطة غنائية تصدح بأصوات عدوية وهاني شاكر أو كارم محمود الذي كان يخبرنا عن اغانيه كأنها حلم يكاد لا يستفيق منه.
يتسلى محمد في مضغ سجائره الـ”يونايتد” كل لحظة. تنتهي واحدة وتكون الاخرى في فمه. يمجها كمتعة او انتقام. استبطاء للحظة وتكرارها. ينصحني بأن أبقى عازباً. هو الذي لم يتزوج على رغم انه يعمل عند الظهيرة متعهد بلاط ولديه عمال يشتغلون معه. ويملك شقة عائلته في محلة الزاهرية التي يعيش فيها مع أمه ووالده السبعيني.

محمد الذي يضحك دوماً ويجيب على واتسآب هاتفه الـ”سامسونغ” على دردشات نسوة يتعرف إليهن مصادفة، ويحكي لهن بذاءات تضحكه على غفلة من جلوسنا. لا يسأل شيئاً في السياسة ولا يحبذها ولم يقرأ يوماً أي صحيفة، إلا أنه يحب اذاعة الشرق، ومونتي كارلو، والأغاني التي تذيعها.

 أحزان الليل

كان يقول لي إن معظم الشبان الذين يصعدون معه من طبقة عاملة فقيرة لكن أحلامهم كثيرة. أكثرهم لم يكملوا تعليمهم لأسباب معظمها عائلي أو بسبب وفاة الوالد. يعملون بغالبيتهم في “abc” في بيروت، او شركات “سانيتا” و”الهوا تشكين” في مناطق خارج الشمال، ويعودون من دون مرح. يخفف عنهم عبر تسجيلاته المليئة بالاحزان الثقيلة أو يذكرهم بها. بدءاً من ساريا السواس أو أغنية “دلالي” لمحمد العبدالله وصولاً إلى مصطفى كامل وعمرو دياب.

لا يفضل محمد شرب الكحول في سيارته، لكنه يذهب مع “السنكيح” (وهو سائق تاكسي يعمل على خط ابو سمرا)، وهلال (شاب يعمل على خط القبة)، الى راس الصخر. يتركون سياراتهم المرسيدس “القطش”، ويستمعون الى الموسيقى ويشربون البيرة أو “الأطلس” فوق رصيف “عبدالقادر بيك” (سمي تيمناً برئيس البلدية السابق عبدالقادر علم الدين).

لا يحب محمد شراء المشروب من “الحج وسكي”، كان دوماً ينفّع ابو جورج، في ساحة الكورة، الذي أُغلق محله وأحرق في معارك الأسواق. يترك عبواته لدى ابو جمال هو أحد بائعي القهوة الدائمين قبالة أوتيل الأهرام، ولا يحملها معه في “تابلو” السيارة الذي يفتح فجأة.

تربط محمد علاقة غريبة بطرابلس، فهو لا يحب أن ينام إلا فيها، لكنه أيضاً يختنق منها. ربما علاقة محمد بمدينته، تنسحب على ما يجمع الطرابلسيين بطرابلس. علاقة متناقضة، تماماً كعلاقتنا بالبيت. نحبه ونمقته في آن.

إقرأ أيضاً:

أن تكون مثلياً في زمن التوحش 

أي أمل لمجتمع المثليّين والمتحوّلين جنسياً في لبنان؟