فعلها أهل طرابلس اليوم. صححوا خطأ رهيباً كان يثقل على مشهد عمران الفقراء في المدينة. صور السياسيين الأغنياء التي كانت منتصبة على منازل الفقراء أزالها اليوم أهل المدينة المنتفضة. المشهد لطالما كان مستفزاً، ولطالما سأل العابر نفسه عن هذه الرغبة التي تدفع سياسياً يعيش في قصر ليس بعيداً عن مشهد الفقر هذا في أن يرفع صورة عملاقة له على منزل فقير من المدينة. نحن لا نتحدث هنا عن فقير عادي، ولا عن غني عادي. الفقير هنا توقف عن ارسال أولاده إلى المدرسة لأنه لا يملك مبلغ ٥٠٠ ليرة لبنانية (ثلث دولار) بدل نقلهم يومياً إلى المدرسة، والغني، هنا أيضاً، ورد اسمه في لوائح أغنياء العالم!
“أخزق أحسن ما زعيمك يلزق”، هو اسم الحملة التي أطلقها ناشطون طرابلسيون لنزع صور “زعماء” المدينة من الأحياء والمناطق. هذه الصور كانت مصدر رزق “مفاتيح الزعماء” في الأحياء الفقيرة في طرابلس، المدينة الأفقر والأغنى في لبنان. والفقر والغنى اذ يتجاوران على نحو يشطب الوجه فيها، يدفعان المراقب إلى توقع انفجار وشيك، وهو انفجار لطالما تم توظيفه في خط انقسام آخر، ويبدو أن الانتفاضة اللبنانية اليوم شرعت بتصويبه.
استيقظت طرابلس. نزع صور الزعماء حدث هائل يوازي أحداثاً هائلة شهدها لبنان في أيامنا هذه. الحماسة يجب أن تأخذنا إلى حيث ما يعنيه ذلك، فالقصص التي سمعناها طوال سنوات تغطيتنا الحروب المتناسلة في المدينة ثبّتت هذه الصور العملاقة في ذاكرتنا هذه الصور بصفتها مشهد الخراب الذي خلف خراباً، واليوم دقت ساعة الحقيقة، وأزال الناس صور مُجوعيهم. وكلمة مجوعيهم في هذا السياق ليست استعارة أو تشبيهاً، بل واقع فعلي. على الفقراء أن يبقوا فقراء لكي يضاعف الأغنياء من ثرواتهم. لهذا كان لا بد من أن تتحول الانتخابات إلى مناسبة لتعويض الفقر بحصة غذائية، ولا بد من أن يتقاتل السنة والعلويون وأن يُمول الاشتباك من قبل سياسيين يتحالفون في مجلس النواب ويلتقون في صالون ضابط المخابرات السوري، بينما أنصارهم الفقراء يتقاتلون على محور شارع “سوريا ولبنان” في منطقة باب التبانة.
أخزق أحسن ما زعيمك يلزق”، هو اسم الحملة التي أطلقها ناشطون طرابلسيون لنزع صور “زعماء” المدينة من الأحياء والمناطق.
إنها صور نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي ومحمد كبارة وفيصل كرامي وغيرهم، وهؤلاء لم يقدموا لفقراء طرابلس سوى السلاح، وبعض الدولارات في مواسم الانتخابات، فالمدينة بالنسبة إليهم هي المكان الأسهل للنزوات ولارتجال التمثيل، وفقراؤها الذين دُفعوا للقتال حيناً وللسجون في أحيان كثيرة من السهل التنصل من مراجعاتهم. يُزج بهم في الحروب ويُحقنون بشحنات الانقسام ثم يتركون لوحدهم، ويغادر السياسيون المدينة إلى قصورهم الممتدة من طرابلس إلى لندن وباريس، فيما تبقى صورهم فوق تلك المباني المتداعية، راسمة البؤس فوق البؤس.
والرهيب في خطوة نزع صور زعماء طرابلس، أن صعوبات ستواجه نازعي الصور في منطقة التبانة والتل تتمثل في أن بعض الصور تحول جدراناً تقي سكان المنازل من الشتاء، بعدما هزُلت جدران منازلهم أو أسقفها، لا بل أن صوراً مدعمة بأعمدة حديدة استعيض بها عن أساسات الغرف وأعمدتها، وهذا ما يجعل نزعها مستحيلاً.
ومثلما كان لطرابلس حصة رئيسة في الانتفاضة اللبنانية، كان لسياسييها حصة لا بأس بها من “كلن يعني كلن”. نجيب ميقاتي ورد اسمه في لائحة المستفيدين من قروض الإسكان المدعومة من مصرف لبنان، ومحمد الصفدي ورد اسمه في فضيحة الزيتونة بيه، ناهيك عن تيار المستقبل في المدينة، وعن وجوهه الذين وردت أسماء شركاتهم في لوائح المقاطعة التي وزعها المنتفضون.
درس طرابلس قاسياً، على قدر ما كانت المدينة جميلة في سياق انتفاضة اللبنانيين. في ساحة النور أبناء سياسيين وأشقاء مفتين وأحفاد زعماء، جاءوا إلى الساحة لا لكي يغسلوا ذنوب أهلهم، بل لكي يعترفوا بـ”كلن يعني كلن” ولكي يحاسبوا ولكي يغيروا وجه مدينتهم. ولهذا بدت خطوة نزع الصور سهلة وبديهية وضرورية، وهي لم تجد مقاومة تذكر، ذاك أن صاحب الصورة لا يعدو اليوم كونه صورة لا تتحرك ولا تقاوم.