fbpx

طعم الحنين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عشرة شهور حتى الآن، كل ما أفعله أو أكثر ما أفعله هو مراقبة الحرب والحياة من خلال شبابيك، منذ اللحظة الأولى كان الشباك يقيناً لمجهول طويل ونفق مظلم جداً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عشرة شهور حتى الآن، أقف بالشباك ببيت النزوح الخامس في دير البلح بعد سابقاتها، وجهي نحو الشمال أشعر وكأن البيت يلوح لي، البحر هناك يمد موجه ويلوح به، حتى صوت الأصدقاء البعيدين أجذبه إلى أذني، كي أنهر به صوت اهتزازات الانفجارات، التي تحدث إلى الجنوب حيث أقف (خانيونس) نسف للبيوت في أحيائها الشمالية والشرقية لا يتوقف منذ أسبوع.

 الحرب تعلمك التمييز بين الأصوات، وكأنك خبير تنافس خبراء يظهرون كمحللين عبر التلفزيون، أفتقد التلفزيون يا إلهي، صوت قصف مباشر، لا هذا صوت قصف مدفعي، لا بل نسف بيوت. الخبرة الحربية بمن يعيشها ويمرن أذنيه على أصوات الحرب، التي تلهب حواسك وجسدك ونومك ووقفتك بالشباك. 

عشرة شهور حتى الآن، وأنا أمارس عادتي الأهم، أهرب من الحنين إلى حنين اليقين، الشمال، البيت بعد خطوتين فقط، قرار بتشغيل السيارة، قيادتها واتصال بالأصدقاء (مسافة الطريق) حقاً. 

هناك حيث كنا ودودين للحظة نلتقط صوراً لكل لحظة، وكأننا هيأنا فراشاً للحنين كلما أردنا الوقوف بالأطلال عند الشباك، أقلب صور الهاتف الذي لم يتخل عن مهمته منذ أسبوعين وأكثر، والبيوت إلى الجنوب مني تُنسف، وفي الشمال حُرق بعضها وقُصف أغلبها، الأصوات تأتي من الجنوب، ومن الشمال يقفز الحنين، وأنا عالقة في الوسط بينها مع هاتفي.

منذ أسبوعين وأكثر، وهاتفي يدق الباب على الذكريات، فتسيل جروح الحنين من شبابيك الذاكرة، وتتناثر أشلاء الحنين، أو على سبيل النكتة نقول فيما بيننا، نكأ الجراح، لا، رغم الجراح أي تقشير الجرح والكشف عنه أكثر وأكثر.

تجدني أهمل إشعاراته التي تنطلق كالانفجارات.

تذكرين هذا؟!

هذا اليوم في بيت حانون، وفي يوم آخر في سبتمبر على كورنيش غزة؟

كان يوماً جميلاً، هنالك صور كثيرة لذاك الأسبوع إبريل 2023؟!

أهملتها مراراً أنا لا أريد لهذا الجرح تقشيراً!

وفي كل مرة يغيظني أكثر وتظهر الاشعارات بصوت (أهرب من قلبي أروح على فين، ليالينا الحلوة في كل مكان) 

حقاً إن ليالينا الحلوة في كل مكان هناك.

أستجيب على خجل وبثبات مصطنع إلى صوت الحنين الذي يصرخ بي، ويشق الباب على الذكريات، أقلب صور الاحتفال، ومقطع فيديو للمة صديقات سريعة وسرية، صحن للفاكهة عليه لمسات خالتي، ووداعة عمتي تظهر على فنجان قهوتها الذي سكن رفوف مطبخها مؤخراً، مشوار نحو الشط، سمكة وشبكة صباح يوم جمعة في يد صياد، صراخ صغار، زفة، زغاريد، تكبيرات عيد، تقليد راقص لنساء العائلة بعد عرس، صور أمام المرايا، صور للشجرة العتيقة التي تتوسط شارع الجامعات، وصور للبيت، صور لقاء الزملاء في إفطار جماعي قتلت الحرب أجملهم ابتسامة، صور جماعية للصديقات مؤجل نشرها إلى حين أي الصور التي بلا عيب، وإن ظهر عيب فهي تبقى لمثل هذه الذكرى، وكأننا نصنع فصولاً هامة لمثل هذا الحنين الذي يغرس نكهاته في الذاكرة، يدعوني بها الهاتف إلى جلسة تنهيدات يتبعها صوت (ااااه) مقموعة!

هذا ليس وقت للصراخ! أذكر نفسي بهذه الجملة…

لنؤجل الألم قليلاً، لكننا إن أجلناه سنظل دائمي التفكير فيه!

منذ أسبوعين وأكثر، وهاتفي يدق الباب على الذكريات، فتسيل جروح الحنين من شبابيك الذاكرة، وتتناثر أشلاء الحنين، أو على سبيل النكتة نقول فيما بيننا، نكأ الجراح، لا، رغم الجراح أي تقشير الجرح والكشف عنه أكثر وأكثر.

إذا لنلتهم الضفدع وهي تجربة نفسية نختبر بها أنفسنا على تجربة الألم، يقال فيها (إن عُرض عليك أكل ضفدع فما الوقت المناسب لأن تأكل الضفدع، إن اخترت الصباح فيشعرك الأمر بالغثيان طوال الوقت، وإن أجلتها للمساء فإنك ستظل دائم التفكير بالألم) إنك مضطر لأن تلتهم الضفدع، فإن تأجيل الألم أصعب من الألم نفسه.

إذاً، لا داعي لهذا التأجيل لندعو (الضفدع) الحنين والألم، كي يُهدئ صراخ الندوب والجرح المقموع تحت جلدك.

أرسلت صوراً لصديقاتي، فبكينا معاً.

ذهبنا نحو رحلة مؤقتة وسابقة لكل هذا الخراب، صوت نسف البيوت يستمر من الجنوب، ورحلة ليالينا الحلوة في كل مكان من البيت، من البحر، ومن الشط، ومن الشارع، ومن العيد، ومن تحت الشجرة، وفي السيارة، وفي الطريق إلى السوق، وإلى البيت…

البيت!

يا إلهي يحاصرني صراخ لا ينقطع عن البيت!

تعلو أصوات الانفجارات أكثر، نسف البيوت مستمر، وتظهر في الهاتف صورة من أمام إحدى مرايا البيت ـ مهد الانعكاسات الأول ـ

لا غرابة في صورتي تلك أمام المرآة، في البيت أحمل الملامح ذاتها، ربما أرهقها النزوح وشقاء الخوف والقلق وكل بشاعة الحرب التي افترست الملامح، لكنها على أية حال ستنتهي، سندفنها بعد قليل، إنها ليست حربنا الأولى مع البشاعة والفقد، بغض النظر عن قسوة أيامها وتعدادها،  كل النساء اللاتي التقيتهن في جلسات الحكي بمخيمات النزوح، أظهرت لهن مرآة وهي فرصة أن تقول كل واحدة كلمة لنفسها ووجهها الجديد، فأجابت كلهن: من هذه؟! هذه الاستنكارية العامة والمباحة أن تحدث.

لقد كان الانعكاس هو مصدر الحنين المليء بطعم الوجع (وأفضل الوجع على الألم) لإحساس بوصف قسوة الحروف وأثرها، كان الانعكاس لصورة تتوسط الغرفة في إطار خشبي صغير، تجمع هذه الصورة أمي وأبي فترة خطوبتهما.

أهم لحظات البيت كانت اجتماعاً حول صندوق الذكريات، طقس عائلي لا يمكن أن يزورنا زائر أو يعود مسافر إلا لنفتح هذا الصندوق، تلك صورة لأمي على دراجة هوائية وأبي أمامها كمشهد من فيلم (لشادية وعبد الحليم) وذاك أخي الكبير يتوسط حجر جدي وملامح سطوة أول الأحفاد تظهر بوضوح على ملامحه، تلك صور الحمام الأول لأخي الذي جاء بعد أربع بنات، صور حفل عرس أبي وأمي ملونة وفستان العرس الوردي، وحولهما بنات الخالات، هذه صارت في قطر، وتلك للأسف ماتت في مصر، وهذه الأخيرة استقرت في ليبيا، أما هذه ففي بلد كل مرة تنسى ستي فنذكرها (إيرلندا) فترد على ضحكنا: “إنتو المتعلمين والعارفين”. صورتي وأنا أحمل علبة شكولاتة؛ طقس الاحتفال بالتفوق بالصف الثالث، صورة العائلة في العيد، مشوار يبدأ بجولة بالسيارة نحو الأرض شرقاً، ومن ثم إلى (مدينة الملاهي) وبعدها لا بد من صورة العيد في الاستديو، نصطف طابوراً وتمضي أمي بيننا تصفف الشعر، وتوبخ أخي على إفساده اللون الأبيض في بلوزته، وأبي في كل لحظة يسأل بابتسامته: مبسوطين؟! فنرد: آه، بس لسه بدنا البحر والبوظة!

صور أخي التي أظهر فيها مهاراته بالتصوير، بكاميرا اشتراها من أميركا حين عاد في نهاية التسعينيات، في إحدى المرات التقط لنا صورة ونحن نرقص في ساحة البيت، كلما ظهرت من الصندوق فتح معها إذاعة لكل الأغنيات ذلك الوقت! صور لفقرة العرس بلعبة (بيت بيوت) ونضحك على اختياراتنا الأولى لشريك الحياة الوهمي الأول!

صندوق من أكياس ورقية كل كيس مدون عليه وقت الصور وتفاصيل كثيرة، في أحد الأكياس كانت الصور التي تأتي بالبريد أو في حقائب العائدين من عمان إلى غزة، كتب على ظهر إحداهن رسالة لأبي “هذا محمد الذي يلبس الأبيض، وعلى اليمين خليل كبر وصار عشرين مجتمعين في بيت العم أبو أحمد وهذه الصورة للذكرى لأن الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان!” فتنفجر الجلسة ضحكاً على الجملة الأخيرة وعلى تفاصيل موضة الملابس وشكلها في ذلك الوقت، فيفتح أبي ذكريات كثيرة عن أصحاب العمر الذين فرقتهم الأيام في دول الشتات، وبعد حين صار بعضهم صديقاً عبر “فيس بوك”، في إحدى المرات أرسلها لهم فكان الحنين لذيذاً.

في كل مرة يكون طعم الحنين سكراً يذوب في لسان الذكريات، حتى ذاك التحدي الذي كان يظهر عبر “فيس بوك”: صورك بين الأعوام، لي صورة محظوظة أن شاركتها بالتحدي، لقد كانت فرصة أن أجدها عبر الهاتف شتاء 1997 بفستان يجمع اللونين الأسود والبرتقالي، وبشعر قصير قصصتها من صورة عائلية تجمعني وإخوتي. 

يومها تناقلنا الحنين اللذيذ بطعم الضحك ورائحة ندى الأسبوع الأول من المدرسة، وكيف تنضجنا الحياة بين صورتين.

في كيس ورقي أبيض جمعت أمي صورنا في احتفالات المدرسة، كنت أحرص ألا يصيب صورتي مع دفتر ثمرة القراءة في الصف الرابع، فزت على أربع زملاء في المدرسة في تلخيص عشرة قصص، أهدتني معلمتي واسمها فاطمة، قصص المكتبة الخضراء والتقطت إدارة المدرسة صورتنا، قتلت حرب 2014 معلمتي وظلت صورتي تحمل طعم الفخر وابتسامة معلمتي الشهيدة.

عشرة شهور حتى الآن، أقف أمام أشد تجارب الحنين مرارة، صورة أمي وأبي فترة الخطوبة، تظهر في المرآة خلفي بالصورة تشبه صور الأفلام القديمة، ما إن تراها حتى تجدها غلافاً مناسباً لأغنية (زي العسل) مفضلة أمي المغنية صباح تعشق أغنياتها. تقف أمي بجوار أبي يده على كتفها ويدها على قلبه وشعرها أسود طويل، به بعض التموجات، ولأبي تسريحة شعر نسميها فيما بيننا (عبد الحليم زمانه) تضحك أمي بخجل تقول: وأحلى كمان!

صورتهما الوحيدة التي اختارتها من بين عشرات الصور لهما فترة الخطوبة، لتصنع لها إطاراً خشبياً صغيراً، وتعلقها على حائط غرفتها الجنوبي في عيد زواجهما الأربعين، بختم (استديو منير الشوبكي) أشهر استديو في غزة في شارع عمر المختار فترة السبيعينيات، صورهما كلها بنفس الختم.

الصورة التي تحكي أول لقاء خارج حدود العائلة نحو عائلة جديدة، بدأ من مشوار في شارع العشاق، الصورة التي استمر أبي الحديث عن تفاصيل حبهما حتى بعد موت أمي، كلما فتحنا الصندوق فتحنا موسيقى الحب والحنين.

فالحنين كان بطعم الاحتفال بالحب.

الحنين اليوم أمام الصورة المنعكسة في المرآة مرة جداً، وكأن فمي تخدر وامتلأ بالخذلان.

نحن الذين خرجنا من البيت، نسينا الصندوق في خزانة أمي، الحرب أسرع من أن تجعلنا نحمل كل هذا، سيعاتبنا الصندوق إن وجدناه بعد حين.

ربما سنقف أمامه بطعم القهر في فم (أبو أحمد) التي شخصها (خالد تاجا) في التغريبة الفلسطينية وهو يقول: “توخذيش كل شي يا إم أحمد، كلها يومين”! وقبل أن يصير اليومين، بل بعد لحظتين وخطوتين فقط من الخروج، قتلوا البيت أردوه في الشارع ومنعوا الوصول إلى جثته.

بيت بصورة لأمي وأبي تتوسط حائط غرفتهما قرب البحر، بختم غزي (فبراير 1974) ما الذي يزعج الحرب فتقتله؟!

منذ عشرة شهور حتى الآن، والحرب ما زالت تقتل البيت وتنسف بقيتها الآن إلى الجنوب مني مهد تاريخ الذكرى وطعم الحنين.

الإجابة إذاً: يقتلون تاريخ الذكرى ولذة سكر الحنين!

يوليو 2024

فصول الدهشة ومحاولات النجاة.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 13.09.2024

انتخابات الأردن: “الإخوان” هم الإجابة الهاشميّة عن الترانسفير 

وصول "الإخوان المسلمين"، الذين تصنفهم دول خليجية كجماعة إرهابية، إلى البرلمان، يكشف أيضاً عن طبيعة التوتر الصامت بين عمان وبين دول اتفاقات "إبراهام"، التي زادت من مخاوف الأردن الديموغرافية، بفعل عدم ربطها بين السلام وبين حق الفلسطينيين بدولة في الضفة الغربية والقدس. ولا بد والحال هذه من تذكير الدول الإبراهيمية باحتمالات السلام المجاني، و"الإخوان المسلمين"…
06.08.2024
زمن القراءة: 7 minutes

عشرة شهور حتى الآن، كل ما أفعله أو أكثر ما أفعله هو مراقبة الحرب والحياة من خلال شبابيك، منذ اللحظة الأولى كان الشباك يقيناً لمجهول طويل ونفق مظلم جداً.

عشرة شهور حتى الآن، أقف بالشباك ببيت النزوح الخامس في دير البلح بعد سابقاتها، وجهي نحو الشمال أشعر وكأن البيت يلوح لي، البحر هناك يمد موجه ويلوح به، حتى صوت الأصدقاء البعيدين أجذبه إلى أذني، كي أنهر به صوت اهتزازات الانفجارات، التي تحدث إلى الجنوب حيث أقف (خانيونس) نسف للبيوت في أحيائها الشمالية والشرقية لا يتوقف منذ أسبوع.

 الحرب تعلمك التمييز بين الأصوات، وكأنك خبير تنافس خبراء يظهرون كمحللين عبر التلفزيون، أفتقد التلفزيون يا إلهي، صوت قصف مباشر، لا هذا صوت قصف مدفعي، لا بل نسف بيوت. الخبرة الحربية بمن يعيشها ويمرن أذنيه على أصوات الحرب، التي تلهب حواسك وجسدك ونومك ووقفتك بالشباك. 

عشرة شهور حتى الآن، وأنا أمارس عادتي الأهم، أهرب من الحنين إلى حنين اليقين، الشمال، البيت بعد خطوتين فقط، قرار بتشغيل السيارة، قيادتها واتصال بالأصدقاء (مسافة الطريق) حقاً. 

هناك حيث كنا ودودين للحظة نلتقط صوراً لكل لحظة، وكأننا هيأنا فراشاً للحنين كلما أردنا الوقوف بالأطلال عند الشباك، أقلب صور الهاتف الذي لم يتخل عن مهمته منذ أسبوعين وأكثر، والبيوت إلى الجنوب مني تُنسف، وفي الشمال حُرق بعضها وقُصف أغلبها، الأصوات تأتي من الجنوب، ومن الشمال يقفز الحنين، وأنا عالقة في الوسط بينها مع هاتفي.

منذ أسبوعين وأكثر، وهاتفي يدق الباب على الذكريات، فتسيل جروح الحنين من شبابيك الذاكرة، وتتناثر أشلاء الحنين، أو على سبيل النكتة نقول فيما بيننا، نكأ الجراح، لا، رغم الجراح أي تقشير الجرح والكشف عنه أكثر وأكثر.

تجدني أهمل إشعاراته التي تنطلق كالانفجارات.

تذكرين هذا؟!

هذا اليوم في بيت حانون، وفي يوم آخر في سبتمبر على كورنيش غزة؟

كان يوماً جميلاً، هنالك صور كثيرة لذاك الأسبوع إبريل 2023؟!

أهملتها مراراً أنا لا أريد لهذا الجرح تقشيراً!

وفي كل مرة يغيظني أكثر وتظهر الاشعارات بصوت (أهرب من قلبي أروح على فين، ليالينا الحلوة في كل مكان) 

حقاً إن ليالينا الحلوة في كل مكان هناك.

أستجيب على خجل وبثبات مصطنع إلى صوت الحنين الذي يصرخ بي، ويشق الباب على الذكريات، أقلب صور الاحتفال، ومقطع فيديو للمة صديقات سريعة وسرية، صحن للفاكهة عليه لمسات خالتي، ووداعة عمتي تظهر على فنجان قهوتها الذي سكن رفوف مطبخها مؤخراً، مشوار نحو الشط، سمكة وشبكة صباح يوم جمعة في يد صياد، صراخ صغار، زفة، زغاريد، تكبيرات عيد، تقليد راقص لنساء العائلة بعد عرس، صور أمام المرايا، صور للشجرة العتيقة التي تتوسط شارع الجامعات، وصور للبيت، صور لقاء الزملاء في إفطار جماعي قتلت الحرب أجملهم ابتسامة، صور جماعية للصديقات مؤجل نشرها إلى حين أي الصور التي بلا عيب، وإن ظهر عيب فهي تبقى لمثل هذه الذكرى، وكأننا نصنع فصولاً هامة لمثل هذا الحنين الذي يغرس نكهاته في الذاكرة، يدعوني بها الهاتف إلى جلسة تنهيدات يتبعها صوت (ااااه) مقموعة!

هذا ليس وقت للصراخ! أذكر نفسي بهذه الجملة…

لنؤجل الألم قليلاً، لكننا إن أجلناه سنظل دائمي التفكير فيه!

منذ أسبوعين وأكثر، وهاتفي يدق الباب على الذكريات، فتسيل جروح الحنين من شبابيك الذاكرة، وتتناثر أشلاء الحنين، أو على سبيل النكتة نقول فيما بيننا، نكأ الجراح، لا، رغم الجراح أي تقشير الجرح والكشف عنه أكثر وأكثر.

إذا لنلتهم الضفدع وهي تجربة نفسية نختبر بها أنفسنا على تجربة الألم، يقال فيها (إن عُرض عليك أكل ضفدع فما الوقت المناسب لأن تأكل الضفدع، إن اخترت الصباح فيشعرك الأمر بالغثيان طوال الوقت، وإن أجلتها للمساء فإنك ستظل دائم التفكير بالألم) إنك مضطر لأن تلتهم الضفدع، فإن تأجيل الألم أصعب من الألم نفسه.

إذاً، لا داعي لهذا التأجيل لندعو (الضفدع) الحنين والألم، كي يُهدئ صراخ الندوب والجرح المقموع تحت جلدك.

أرسلت صوراً لصديقاتي، فبكينا معاً.

ذهبنا نحو رحلة مؤقتة وسابقة لكل هذا الخراب، صوت نسف البيوت يستمر من الجنوب، ورحلة ليالينا الحلوة في كل مكان من البيت، من البحر، ومن الشط، ومن الشارع، ومن العيد، ومن تحت الشجرة، وفي السيارة، وفي الطريق إلى السوق، وإلى البيت…

البيت!

يا إلهي يحاصرني صراخ لا ينقطع عن البيت!

تعلو أصوات الانفجارات أكثر، نسف البيوت مستمر، وتظهر في الهاتف صورة من أمام إحدى مرايا البيت ـ مهد الانعكاسات الأول ـ

لا غرابة في صورتي تلك أمام المرآة، في البيت أحمل الملامح ذاتها، ربما أرهقها النزوح وشقاء الخوف والقلق وكل بشاعة الحرب التي افترست الملامح، لكنها على أية حال ستنتهي، سندفنها بعد قليل، إنها ليست حربنا الأولى مع البشاعة والفقد، بغض النظر عن قسوة أيامها وتعدادها،  كل النساء اللاتي التقيتهن في جلسات الحكي بمخيمات النزوح، أظهرت لهن مرآة وهي فرصة أن تقول كل واحدة كلمة لنفسها ووجهها الجديد، فأجابت كلهن: من هذه؟! هذه الاستنكارية العامة والمباحة أن تحدث.

لقد كان الانعكاس هو مصدر الحنين المليء بطعم الوجع (وأفضل الوجع على الألم) لإحساس بوصف قسوة الحروف وأثرها، كان الانعكاس لصورة تتوسط الغرفة في إطار خشبي صغير، تجمع هذه الصورة أمي وأبي فترة خطوبتهما.

أهم لحظات البيت كانت اجتماعاً حول صندوق الذكريات، طقس عائلي لا يمكن أن يزورنا زائر أو يعود مسافر إلا لنفتح هذا الصندوق، تلك صورة لأمي على دراجة هوائية وأبي أمامها كمشهد من فيلم (لشادية وعبد الحليم) وذاك أخي الكبير يتوسط حجر جدي وملامح سطوة أول الأحفاد تظهر بوضوح على ملامحه، تلك صور الحمام الأول لأخي الذي جاء بعد أربع بنات، صور حفل عرس أبي وأمي ملونة وفستان العرس الوردي، وحولهما بنات الخالات، هذه صارت في قطر، وتلك للأسف ماتت في مصر، وهذه الأخيرة استقرت في ليبيا، أما هذه ففي بلد كل مرة تنسى ستي فنذكرها (إيرلندا) فترد على ضحكنا: “إنتو المتعلمين والعارفين”. صورتي وأنا أحمل علبة شكولاتة؛ طقس الاحتفال بالتفوق بالصف الثالث، صورة العائلة في العيد، مشوار يبدأ بجولة بالسيارة نحو الأرض شرقاً، ومن ثم إلى (مدينة الملاهي) وبعدها لا بد من صورة العيد في الاستديو، نصطف طابوراً وتمضي أمي بيننا تصفف الشعر، وتوبخ أخي على إفساده اللون الأبيض في بلوزته، وأبي في كل لحظة يسأل بابتسامته: مبسوطين؟! فنرد: آه، بس لسه بدنا البحر والبوظة!

صور أخي التي أظهر فيها مهاراته بالتصوير، بكاميرا اشتراها من أميركا حين عاد في نهاية التسعينيات، في إحدى المرات التقط لنا صورة ونحن نرقص في ساحة البيت، كلما ظهرت من الصندوق فتح معها إذاعة لكل الأغنيات ذلك الوقت! صور لفقرة العرس بلعبة (بيت بيوت) ونضحك على اختياراتنا الأولى لشريك الحياة الوهمي الأول!

صندوق من أكياس ورقية كل كيس مدون عليه وقت الصور وتفاصيل كثيرة، في أحد الأكياس كانت الصور التي تأتي بالبريد أو في حقائب العائدين من عمان إلى غزة، كتب على ظهر إحداهن رسالة لأبي “هذا محمد الذي يلبس الأبيض، وعلى اليمين خليل كبر وصار عشرين مجتمعين في بيت العم أبو أحمد وهذه الصورة للذكرى لأن الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان!” فتنفجر الجلسة ضحكاً على الجملة الأخيرة وعلى تفاصيل موضة الملابس وشكلها في ذلك الوقت، فيفتح أبي ذكريات كثيرة عن أصحاب العمر الذين فرقتهم الأيام في دول الشتات، وبعد حين صار بعضهم صديقاً عبر “فيس بوك”، في إحدى المرات أرسلها لهم فكان الحنين لذيذاً.

في كل مرة يكون طعم الحنين سكراً يذوب في لسان الذكريات، حتى ذاك التحدي الذي كان يظهر عبر “فيس بوك”: صورك بين الأعوام، لي صورة محظوظة أن شاركتها بالتحدي، لقد كانت فرصة أن أجدها عبر الهاتف شتاء 1997 بفستان يجمع اللونين الأسود والبرتقالي، وبشعر قصير قصصتها من صورة عائلية تجمعني وإخوتي. 

يومها تناقلنا الحنين اللذيذ بطعم الضحك ورائحة ندى الأسبوع الأول من المدرسة، وكيف تنضجنا الحياة بين صورتين.

في كيس ورقي أبيض جمعت أمي صورنا في احتفالات المدرسة، كنت أحرص ألا يصيب صورتي مع دفتر ثمرة القراءة في الصف الرابع، فزت على أربع زملاء في المدرسة في تلخيص عشرة قصص، أهدتني معلمتي واسمها فاطمة، قصص المكتبة الخضراء والتقطت إدارة المدرسة صورتنا، قتلت حرب 2014 معلمتي وظلت صورتي تحمل طعم الفخر وابتسامة معلمتي الشهيدة.

عشرة شهور حتى الآن، أقف أمام أشد تجارب الحنين مرارة، صورة أمي وأبي فترة الخطوبة، تظهر في المرآة خلفي بالصورة تشبه صور الأفلام القديمة، ما إن تراها حتى تجدها غلافاً مناسباً لأغنية (زي العسل) مفضلة أمي المغنية صباح تعشق أغنياتها. تقف أمي بجوار أبي يده على كتفها ويدها على قلبه وشعرها أسود طويل، به بعض التموجات، ولأبي تسريحة شعر نسميها فيما بيننا (عبد الحليم زمانه) تضحك أمي بخجل تقول: وأحلى كمان!

صورتهما الوحيدة التي اختارتها من بين عشرات الصور لهما فترة الخطوبة، لتصنع لها إطاراً خشبياً صغيراً، وتعلقها على حائط غرفتها الجنوبي في عيد زواجهما الأربعين، بختم (استديو منير الشوبكي) أشهر استديو في غزة في شارع عمر المختار فترة السبيعينيات، صورهما كلها بنفس الختم.

الصورة التي تحكي أول لقاء خارج حدود العائلة نحو عائلة جديدة، بدأ من مشوار في شارع العشاق، الصورة التي استمر أبي الحديث عن تفاصيل حبهما حتى بعد موت أمي، كلما فتحنا الصندوق فتحنا موسيقى الحب والحنين.

فالحنين كان بطعم الاحتفال بالحب.

الحنين اليوم أمام الصورة المنعكسة في المرآة مرة جداً، وكأن فمي تخدر وامتلأ بالخذلان.

نحن الذين خرجنا من البيت، نسينا الصندوق في خزانة أمي، الحرب أسرع من أن تجعلنا نحمل كل هذا، سيعاتبنا الصندوق إن وجدناه بعد حين.

ربما سنقف أمامه بطعم القهر في فم (أبو أحمد) التي شخصها (خالد تاجا) في التغريبة الفلسطينية وهو يقول: “توخذيش كل شي يا إم أحمد، كلها يومين”! وقبل أن يصير اليومين، بل بعد لحظتين وخطوتين فقط من الخروج، قتلوا البيت أردوه في الشارع ومنعوا الوصول إلى جثته.

بيت بصورة لأمي وأبي تتوسط حائط غرفتهما قرب البحر، بختم غزي (فبراير 1974) ما الذي يزعج الحرب فتقتله؟!

منذ عشرة شهور حتى الآن، والحرب ما زالت تقتل البيت وتنسف بقيتها الآن إلى الجنوب مني مهد تاريخ الذكرى وطعم الحنين.

الإجابة إذاً: يقتلون تاريخ الذكرى ولذة سكر الحنين!

يوليو 2024

فصول الدهشة ومحاولات النجاة.