هوكستين عند نبيه بري، والمفاوضات لوقف إطلاق النار تُجرى في عين التينة على قدم وساق، وعدوّنا على الحدود واقف على “إجر ونص” بانتظار انتهائها. إذاً، الهدنة التي يفرضها الزائر المرحب به أينما حل، ومهما حمل من معضلات قبل الحلول، قذفت القلق والخوف بعيداً، وانعكست اطمئناناً على النفوس، فسارع سكان الضاحية وأهلها ليطلّوا على البيوت والأرزاق، وليلتقطوا الصور التذكارية مع الدمار، قبل أن يُعاد إعمار الضاحية مرة أخرى وتصبح أحلا من قبل…
كنت واحدة من الذين استغلّوا زيارة الضيف الثقيل الظل ذي القسمات الحادة والشعر اللزج، وقررت الدخول إلى الضاحية، لتفقّد منازل أهلي في الرويس وعلى جانبي حارة حريك.
ثمة هدوء لم يعد معهوداً منذ بدء استهداف الضاحية، يرخي بظلاله على حركة الناس والسيارات التي تشق طريقها باتجاه مناطق الخطر، وينعكس زحمة سير طفيفة عند مداخل الضاحية من جهة طريق المطار. السماء كانت هادئة أيضاً، طائرة الدرون الاستطلاعية مختفية، ولا أثر للطائرات الحربية، ولا رسائل تحذيرية من أفيخاي أدرعي.
إنها المرة الأولى التي أقود فيها سيارتي باتجاه الضاحية منذ لجوئي إلى الأشرفية، قطعت طريق المطار بأدنى سرعة ممكنة، متغلّبة على مشاعر الخوف، كنت في قرارة نفسي أريد أن أؤنس وحشة هذه البيوت المتروكة وحدها.
أصل إلى أسفل بيتنا (الجديد)، شرفات جيراننا المطلة على الطريق، ما زالت بخير، الجدار الذي غطاه أبي بصور أحبته يظهر من خلال الزجاج المكسور وطرف مكتبته يلوح لي، فيقبض شعور بالألم على قلبي. أتابع التقدّم، واجهة المجلس الشيعي على يساري غير متضررة؛ وهذا أمر معتاد، لمجلس هو أساساً ليس أكثر من واجهة! أوشك على العبور من النفق ثم أعدل، لا أريد أن يغيب عن عيني أي مشهد، ألتف عند المستديرة المستحدثة على مقربة من مستشفى الرسول الأعظم… مشهد الأضرار يتوسّع ليضم بيوتاً وأماكن مألوفة، أحسّ بالعطش فجأة وبرجفة في يدي وقلبي، أتمسك جيداً بمقود السيارة جيداً، وأنثني على قلبي أحاول تهدئته… أكاد أن أصاب بانهيار عاطفي وأنا لم أدخل بعدُ إلى الضاحية!
أنعطف يميناً من جهة مخيم البرج للاجئين الفلسطينيين، فتصدمني الزحمة عند مدخله، وكأن ليست هناك حرب تدور على بعد أمتار قليلة منه. سيارات وعمال عائدون إلى بيوتهم ومتسولون يتجولون بين السيارات. محمصة أبو يوسف تغص بالزبائن كعادتها، “الحشائش” تلمع شهية فوق العربات، أشتري فجلاً وخساً وضمة نعناع وأواصل، اللحظة الملحمية تبلغ ذروتها بعد اجتياز حاجز الجيش.
“عقيدة” تدمير المدن
الضاحية بلا ضجيج، جثة بلا حراك، حتى الهواء ساكن، طائر الخراب يرفرف فوق البنايات على جانبي الجسر، وينسحب الهدوء ليحل محله فضاء واسع من الكآبة والخوف، تلتقي عيناي أول مشاهد الدمار، بناية استفرغت أحشاءها على الجسر فقطعت أحد مساربه، وتكومت فوقها حجارة جسر المشاة لتزيد المشهد قتامة.
أسترجع في ذهني القائمة الطويلة لمدننا المدمرة من غزة إلى الخرطوم إلى حلب إلى بغداد إلى تعز، لا يستخدم “العدو” سلاح التدمير بناء على رغبة الانتقام أو الضغط فقط، تدمير المدن عقيدته المقدسة، لأنها تمثّل الوجود المادي للآخر، ومحوها هو محو أثره.
أخرج من الجسر باتجاه حي الرويس، الزاروب الأول إلى اليمين مغلق في آخره يلوح ركام بناية، أنتقل إلى الزاروب التالي، يتكرر الشيء نفسه، بين الجسر والبنك الفرنسي، أقف مصدومة من هول المشهد. مشهد الحي كأنه مقتطع من أفلام نهاية العالم الهوليوودية، “بيت أهلي” في أول زاروب، يد الوحش طوت شرفات البناية على بعضها، وقفت قبالتها محاولة العثور على الطابق الخامس، أعدّ الأسقف المتهالكة وأضيع، أسحب تلفوني لأوثّق المشهد.
تذكرت الحي في أواخر السبعينات حين اختارته أمي لنسكن فيه، كان يشبه ضيعتنا الجنوبية، ببساتينه العامرة بأشجار البرتقال، والدجاج الذي يتقافز فوق أسوار البيوت الوادعة، مطبخ الجارة أغيت الخياطة، وخرير مياه السقي في الصباحات الحارة. تغيرت هوية الحي تدريجياً، حتى تلاشت نهائياً، ابتلعه النزوح الشيعي، ولم يبق من زمانه الجميل سوى اسم طبيب الفقراء النائب بيار دكاش الذي أُطلق على شارعه الرئيسي.
على شرفة هاني فحص
تذكرت أبي جالساً على شرفة الصالون، ليل نهار، أمامه كتب وأوراق، يحكي لأصدقائه الأوفياء، محنته مع زعماء الطائفة بعدما قرروا عزله وفرضوا عليه إقامة جبرية، حولها بقدراته العجائبية على الصمود إلى طوعية وفرصة لإنتاج أدبي وفكري، شرّعت أمامه أبواب الوطن كله.
أستكمل جولتي في الشارع، البنايات بلا واجهات، بين الحين والآخر ترتفع أصوات شبان يصرخون “علي يلا استلقى” ويرمون أغراضاً من الشرفات العالية إلى الأرض، لم أعرف ما إذا كانوا أصحاب البيوت أم “حرامية”… لا أحد يعرف.
أبواب المحال التجارية مخلّعة، وبضاعتها تفترش الطريق والأرصفة، مؤسسة “الدعبول” مصابة، لا أثر للجرار الزرقاء البلاستيكية التي يخزن فيها المخللات والزيتون والمكدوس مع الفئران والصراصير، ويبيعها بأسعار زهيدة تناسب جيوب فقراء الضاحية، بناية أبو عبدو الخضرجي مدمرة بالكامل، غابت “تذبيلة” عينيه وهو “يلطّش” حلوة بلهجته الدرعاوية “لك قولي صباح الخير”.
الدمار في شارع عبد النور خطر على السلامة، من بعيد حاولت الاطمئنان على صالون عبير الكوافيرا، وبالية أبو النور للأحذية الأوروبية المستعملة، ومطعم الحكيم الذي كان يقدّم أكلاً إيرانياً وعراقياً، فلم يسعفني نظري.
الزاروب المؤدي إلى منزل أخي مغلق بحجارة بناية انهارت عند مدخله، مقابلها بناية أخرى أغلقت منفذ السيارات الهاربة من زحمة الشارع الرئيسي، باتجاه الجسر.
أعود إلى السيارة، يخبرني الراديو أن هوكستين يحتسي القهوة الآن في مقهى “ستارباكس” في فردان، والموجودن يحتفلون به ويلتقطون معه الصور التذكارية.
أعيد ترتيب الخبر: هناك نائب في الثنائي يرافق جندياً سابقاً في الجيش الإسرائيلي ومبعوث دولة تمدّه بالقنابل الفتاكة، في جولة في بيروت، ويدخلان معا إلى مقهى أميركي – صهيوني، كان ينبغي أن يكون خالياً لأننا انتصرنا عليه في حرب المقاطعة… مشهدان شديدا التناقض لزمن واحد، شأن هوية هذا البلد، وحسابات النصر والهزيمة بين طرفيه “المقاوم” و”الانهزامي”… أرفع تلفوني وألتقط صوراً أخرى للدمار.
يهلعون من التصوير !
أتقدم باتجاه أوتوستراد هادي نصرالله، لأخرج من الضاحية من جهة طريق صيدا القديمة، فجأة يحاصرني شبان مسلحون ملثمون يرتدون الأسود، يتقدّم أحدهم ويسألني: “شو عم تعملي هون يا حجة؟”، أشرح له أنني جئت أتفقّد منازل أهلي، يقول لي: “شفناك عم تصوري”، أسأله باستغراب: “التصوير ممنوع”، يجيبني بإيماءة من رأسه. أضحك في سري، كنت أود أن أقول له، إن “الدرونز” تعرف عنا كل شيء، وأن صور دمار الضاحية أشبه بطوفان على السوشال ميديا، لكنني “صليت على النبي”، وقررت ألا أعترض، فالسكوت على مضاضته أقل قسوة من هذه العبثية، سماء مستباحة وأرض مدمرة وحاجز أمني! سلمته تلفوني، محا عنه كل شيء، وترك لي ثلاث صور فقط، بعدما أقسمت له أنها صور منازل أهلي.
أعود أدراجي إلى حيث الأمان، مستعيدة تفاصيل كتاب “حياتي في مدينة لينينغراد المحاصرة”، الذي وثّقت كاتبته (لينا موخيتا) يوميات مدينتها التي استباحتها الطائرات الحربية الألمانية فأحرقتها ودمرتها، ووصفت المعاناة التي يعيشها النازحون الذين كانوا يستغلون الهدن ليخرجوا من الملاجئ وليتفقدوا بيوتهم وأرزاقهم، وقالت إن القيادة لم تكن تتوقع أن الحرب ستكون قاسية بهذا الشكل وطويلة (6 أشهر) برغم أن ألمانيا النازية أعلنت نواياها، ولذلك لم تحضّر خطة إخلاء وإيواء ومساعدات مناسبة، وتركت الناس لأقدارهم…!