المؤشرات كلّها تأخذنا الى أننا لسنا أمام حرب خاطفة ترد عبرها إسرائيل على الهزيمة والإهانة التي أصابتها بعد الهجوم الذي نفذته حركة “حماس” في قلب مستوطنات إسرائيلية واقتياد رهائن وقصف إسرائيل بالصواريخ.
يبدو أننا أمام أشهر وربما أكثر من الحروب.
ليس الأسرى الإسرائيليون وحدهم ما يمنع اجتياحاً برياً، إنما أيضاً ما يتخبط به الجيش الإسرائيلي جراء الصدمة التي هزّته، وهو ما كشف عن هشاشة وضعف أصاباه، تمكنت عبرهما “حماس” من توجيه ضربتها. ويبدو أن الجيش الإسرائيلي نفسه لم يكن على دراية بمكامن هشاشته، الى أن جاء “طوفان الأقصى” ليضعه أمام المرآة.
والحال أن هذا الوهن، والذي هو حصيلة سنوات من الاهتراء، ترافق مع تصاعد هائل من “الثقة بالنفس” دفعت الى تغوّل في الممارسات الاستيطانية في الضفة الغربية، وفي القدس التي لم يتورّع المستوطنون فيها عن تنظيم حملات انتُهكت فيها الرموز الدينية، الإسلامية والمسيحية.
وفي موازاة ذلك، بدا للفلسطينيين أن العالم سائر نحو تجاوز قضيتهم. الخطوات التطبيعية الخليجية حصلت في معزل عن أي مطلب يتعلق بهم، وإسرائيل واصلت في ظلّها استهدافها البلدات الفلسطينية، من دون أن يرفّ لها جفن.

في ظل هذا كله، تجاهل العالم، وعلى رأسه إسرائيل، أن هناك أكثر من 4 ملايين فلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة يتم قتل قضيتهم، وهم خارج الحسابات. وهذا طبعاً ليس خللاً أخلاقياً وحسب، إنما هو خطأ واقعي أيضاً، ذاك أن وجود هؤلاء في أرضهم أقوى من أن يتم تجاهله .
ليست إسرائيل وحدها اليوم في مأزق، إنما أيضاً جميع أطراف معادلة تجاهل الحق الفلسطيني. هذا ما يفسّر أيضاً تردّد إسرائيل في الحرب الخاطفة، لا سيما وأن حكومة نتانياهو صارت بحكم الساقطة، والأهم من ذلك هو قيادة الأركان التي لم يسبق أن أصيبت بما أصيبت به اليوم.
حكومة ساقطة وجيش مهزوم وأجهزة استخبارية فاشلة، هذا كله انكشف في يوم واحد، ولم نتدرّج في الوصول الى هذه النتيجة من واقعة إلى أخرى.
ليست “حماس” وحدها من كانت خياراً راديكالياً للفلسطينيين، فإسرائيل قبلها راحت تتّجه نحو خيارات لا تبقي للسلام منفذاً، وذروة هذه الخيارات كانت حكومة اليمين المتطرف الحالية، ولعل ما أصاب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من شلل هو، بأحد أسبابه، التعديلات القضائية التي أصرّت عليها الحكومة ، وأصابت الجيش بحال من الذهول والشعور بالاستهداف.
تاريخ ثقيل أفضى إلى “الطوفان” الحمساوي
النظر الى الأحداث الدامية خلال الساعات الأخيرة لا يستقيم من دون ثقل التاريخ الذي أعقب النكبة عام 1948.
الهجوم الحمساوي باغت إسرائيل المشغولة بتأمين زيارات اليهود المتشدّدين إلى القدس وقمع الفلسطينيين في القدس الشرقية وفي حماية المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية.
بدأت أرقام القتلى ترتفع، وهذه المرة على جانبي الحدود وليس من الجانب الفلسطيني فقط، لكن المباغت كان اقتياد عشرات الرهائن الإسرائيليين الى غزة من بينهم جنود ومدنيون ونساء وأطفال.
حتماً مشاهد اقتياد امرأة إسرائيلية وأطفالها وسيدة مسنّة ومدنيين رهائن على يد “حماس” هو مشهد مؤذ وعنيف، تماماً كما هو مشهد تدمير مبان بكاملها وضرب نساء فلسطينيات في القدس وإهانتهن من مجنّدين إسرائيليين وقتل عشرات الأطفال الفلسطينيين منذ مطلع هذا العام وحده.
بالنسبة إلى إسرائيل وحكومتها اليمينية، فالسؤال الأكثر وضوحاً هو من المسؤول عن الفشل الاستخباراتي الأكبر لإسرائيل، التي تمتلك أجهزتها الأمنية ترسانة تكنولوجية تشتريها أنظمة استبداد بمبالغ طائلة؟

كيف فشل أمن إسرائيل، الذي يتحكّم في كل مكالمة من هاتف محمول في غزة عبر شبكة إسرائيلية، في التقاط ما يحصل؟ وما مصير رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو الذي قاد إسرائيل الى هذا الإذلال التاريخي؟
لكن، لم يكن هذا مجرد فشل استخباراتي، فللسياق الذي أوصل الى هذه اللحظة الثقل الأكبر في تفسير الوضع الراهن.
إسرائيل تضع أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة رهينة حصار محكم منذ أكثر من 17 عاماً، إذ أدت القيود الصارمة إلى سحق اقتصاد القطاع، فبات ثلثا سكان غزة يعيشون تحت خط الفقر، وثلاثة من كل خمسة في غزة عاطلين عن العمل، والآن ستتوقف إسرائيل عن إمداد غزة بالكهرباء والوقود والسلع، وفقًا لبيان صادر عن مكتب نتنياهو.
لقد عانى قطاع غزة من 4 حروب إسرائيلية خلال 16 عاماً، سقط خلالها مئات الضحايا من المدنيين ودُمرت عشرات المباني ولم تُحاسَب إسرائيل على ارتكاباتها.
وتعاني الضفة الغربية من أسوأ موجة من الاعتداءات الإسرائيلية منذ عشرين عاماً، فيما يعيش فلسطينيو الداخل تضييقاً يومياً وطرداً من المنازل على يد المستوطنين الذين ساهمت حكومة نتانياهو في توسيع اعتداءاتهم.
وجود الرهائن الإسرائيليين في غزة – ربما موزعين على عدد من المخابئ البعيدة – قد يجعل بعض المسؤولين متردّدين في إعطاء الضوء الأخضر لهجوم بري واسع.
بالنسبة إلى “حماس”، قيمة الرهائن أحياء أكثر أهمية لمبادلتهم ربما بالسجناء الفلسطينيين الذين تحتجزهم إسرائيل، كما فعلت في عام 2011 مع جلعاد شاليط، وهو جندي تمت مبادلته مقابل 1027 فلسطينياً.
كما تتصاعد مخاوف من أن المواجهة يمكن أن تؤدي إلى حريق أوسع نطاقاً، قد يجذب القدس والضفة الغربية، أو “حزب الله” في لبنان الذي أطلق بضعة صواريخ.
من المؤكد أيضاً، أن الهجوم الصادم سيعرقل التطبيع الناشئ للعلاقات بين إسرائيل والسعودية، والأمر الأقل وضوحاً هو مدى التنسيق والدعم الذي تلقّته “حماس” في مثل هذا الهجوم الضخم من “حزب الله” وإيران.
الدرس كبير، وهذه المرة إسرائيل هي من تلقاه.