لسبب لا أعرفه تحتل الجمالية مكانة خاصة في حياتي، أنا التي لم أولد فيها، ولم أنشأ وسط أهلها، لكن لسبب ما يطاردني ظلها في كل ما أرى، ولعلة لم أدركها للآن، أرى ذلك الظل جلياً في كل من مر يوماً على أقدم أحياء القاهرة القديمة.
الجمالية، أثر الفاطميين الباقي حتى اليوم، الحي الأكبر في عاصمتهم التي أسسها جوهر الصقلي على جبل مرتفع، وأحاطها بسور وبوابات تعزلها شمالاً عن الأعداء، أما جنوباً فقد تفرق أهلها، لينعزل اليهود بحارتهم والأقباط بحارة زويلة، وللمسلمين متاع بالجامع الأزهر وجوار سبط النبي. المنطقة التي نشأ فيها الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي وظل أثرها باقياً في شخصيته وطريقة حكمه للمصريين.
هل قرأ السيسي شخصية مصر؟
في كتابه “شخصية مصر – عبقرية المكان”، يقول الدكتور جمال حمدان “إن البيئة قد تكون في بعض الأحيان خرساء، لكنها تنطق من خلال الإنسان، وربما تكون الجغرافيا صماء لكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها”، وفي الجمالية خرست البيئة وتكلم السيسي.
في عام 2022 وفي أحد خطابات الرئيس تحدث عن أثر مؤلفات جمال حمدان عليه، وعن رؤيته لسيناء وأهميتها، وأن من ملك بوابة مصر الشرقية قد ملك العالم، وتقديراً من السيسي لعبقرية حمدان أمر بإطلاق اسمه على أحد محاور سيناء، بعيداً عن كباري القاهرة التي ربما لم يقرأ ما كتبه عنها عالم الجغرافيا الشهير.
للجمالية طبيعة خاصة، مكاناً وسكاناً، طبيعة ربما لا يدركها من يمر بها زائراً، لكن يلمسها من يعيش فيها في كل تفصيلة تمر به، من مروا من الجمالية يوماً سيتذكرون ربما ما أقصده، نزعة الأفضلية التي صنعتها عزلة أهل العاصمة القديمة عن بقية مناطق مصر، وتلك العنجهية المتفردة التي يتعامل بها أغلب سكانها الأصليين، بوصفهم أبناء الجمالية، هذه النزعة التي ظهرت في كتابات نجيب محفوظ حين كتب عن عصر الفتوات، فكان فتوة الجمالية هو الأهم بين فتوات الحسينية وبولاق والعطوف.
حين كتب محفوظ عن الفتوة، في روايته التي اقتنص بها نوبل للآداب، اختار الجبلاوي الذي شيّد قصره في صحراء المقطّم، بعيداً عن “الجرابيع”، عاش الجبلاوي عمراً لا يستطيع أحد حسابه، وعمّر في الأرض فوق أن يعمر أحد “فهو أصل حارتنا… وحارتنا أصل مصر أم الدنيا”.
ظلت الجمالية تحتل المرتبة الأولى في أدب نجيب محفوظ، برغم أنه لم يعش فيها سوى سنوات عمره الأولى، لكنها ظلت في عقله حتى النهاية، هكذا نطقت الجغرافيا من خلال أدب محفوظ، وفي وقت آخر نطقت في شخصية السيسي.
كان غريباً أن يختار الرئيس المصري مشروعه القومي الأول، بناء عاصمة إدارية بديلة عن عاصمة الألف مئذنة، هل كانت العاصمة الإدارية هي بالفعل مشروع مبارك المؤجل، أم هي فكرة ابن الجمالية، الذي صنع من عاصمته نسخة جديدة من عاصمة الفاطميين التي أودعوها فنونهم وإبداعهم وفخامة عصرهم، بأكبر المساجد وأطول المآذن، وأبدع التصميمات، وعلى نهجهم سار عبد الفتاح السيسي بأطول برج، وأكبر مسجد وأكبر كنيسة، ومبانٍ بديلة لمثيلتها التاريخية، تحمل أكبر قدر من الرخام والسيراميك البارد الخالي من الروح، ليصنع منها تحفته الأيقونية.
الصحراء التي صارت عاصمة إدارية، لا تختلف عن الصحراء التي اختارها جوهر الصقلي، شمال شرق مدينة القطائع، عاصمة حكم العباسيين في مصر، ليبني فيها الفاطميون عاصمتهم في مصر في القرن الثالث الهجري.
كان تغيير العاصمة في ذلك الزمن هو المشروع القومي الأول لكل دولة حكمت مصر، فمنذ فتحها عمرو بن العاص بنى الفسطاط عاصمة له، ووضع مسجده دلالة على سيطرة الإسلام على الدولة، صارت سُنة من بعده، فاختار العباسيون عاصمتهم مدينة “العسكر”، ثم بنت الدولة الطولونية مدينة القطائع، ثم جاء الصقلي وبنى القاهرة وجامعها الأزهر، ومنها بدأ حكم المعز لدين الله الفاطمي.
قاموس الرئيس
في كل خطاب للرئيس السيسي، تخرج العشرات من التحليلات السياسية والنفسية والجسدية لكلمات الرئيس وحركاته وإشاراته، وبينما الجميع يرى السيد الرئيس، كنت أرى بالسيسي ابن الجمالية ، فكثير من الوعود التي قطعها الرئيس بحماية مصر بكلمات مثل “اللي هيقربلها هشيله من على وش الأرض” تلك المقولة ليست مفردة عادية في الخطاب الرئاسي المصري، لكنها مفردة مغرقة في الشعبية، وفي القاموس الشعبي السائد للمصريين، في عصور “الفتونة” وما تلاها، وكأن السيسي قد لبسته روح فتوة الجمالية الذي يحارب من أجل حبيبته، وليس رئيس دولة يوجه خطاباً لأعداء الوطن.
قاموس عبد الفتاح السيسي ابن الجمالية، لا يخلو من مفردات مسقط رأسه، فهو دائم التحدث بنبرة العارف بالله والمتصوف الذي لن يخيّب الله رجاءه، هو القريب الذي يرد الله على سؤاله، ويمنحه أكثر مما يطلب، كثيرون مروا بسخرية على ما قاله الرجل منذ سنوات، عن كونه “طبيب الفلاسفة” لكن مع كل مرة كان يقترب فيها من الانهيار، تمتد له يد الله فيعود أقوى مما كان، ليظل الجبلاوي في قصره معمّراً فوق ما عمّر الجميع، ويظل السيسي فوق كرسي الحكم متحصناً بخاتمه من العقيق الأسود الذي يمنحه القوة والحماية.
خاتم الملك
خاتم شفة العبد، هكذا يطلق أهل الجمالية والصاغة، على خاتم العقيق الأسود الممزوج بالفضة، وصية النبي محمد للرجال، وتراث الفاطميين الباقي في مصر، ظهر خاتم العقيق الأسود في يد السيسي، منذ ظهوره الأول بجوار الرئيس الأسبق المعزول محمد مرسي، رجل لا يعرفه أحد، جاء من المخابرات الحربية إلى منصبه الجديد ببدلته العسكرية وخاتم أسود تُقضَى به الحاجات، لم يفارق يده حتى اليوم.
“تختّموا بالعقيق فإنه مبارك، ومن تختّم به يوشك أن يُقضَى له بالحسنى”؛ روي عن الإمام جعفر الصادق، ومن علامات الأكابر من أهل الجمالية أن يتختّموا بالعقيق في اليد اليمنى، مجلبة للبركة، ومذهباً للفقر، ورداً للشياطين.
يؤمن أهل الجمالية بالسحر والحسد والعين، وهم من أكثر الناس حباً للبخور وإطلاقه في صباحات الجمعة، ومع بخور الجمعة يتختّم الرجال بالعقيق الأسود، وينطلقون إلى المساجد، يوزعون النفحات على أهل الله لنيل البركات، ربما يفسر هذا اختيار السيسي لأصحاب لذوي الاحتياجات الخاصة للاحتفال السنوي باليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة، حيث يلتفون حوله يقضي لهم طلباتهم في مشهد يعيد له ذكريات “الباب الأخضر”.
في مسلسل الاختيار، الذي جسد فيه الفنان ياسر جلال دور عبد الفتاح السيسي، كانت مشاهده مع والدته، التي أرّخت للعلاقة القوية بينه وبين أمه، والتي كانت تقول له فيها إنهم كانوا يخبئونه عن الناس خوفاً عليه من الحسد، نال هذا المشهد على السوشيال ميديا المصرية الكثير من السخرية، لكن في الواقع أكاد أجزم أن ذلك المشهد حقيقي، فالقدر الذي منحني الحياة في الجمالية، منحني ذكريات لعائلة زوجي قريبة الشبه إلى حد كبير بما ذكره بيتر ميمي على لسان والدة السيسي وولدها، فقد كان زوجي هو خبيئة أهله أيضاً عن أعين الناس، من الجيران والأقارب، لا لعظمة تُذكر ولا لفصاحة تظهر، لكنها العادة المصرية القديمة، التي ترسخت في الجمالية والأحياء الشعبية، حتى وصلت اليوم إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فصارت الأمهات يستبدلن وجوه أبنائهم بقلب كبير.
كرسي الرئيس
لم يزل أثر الجمالية لا ينقطع في الرئيس السيسي، الذي يرتفع بمقعده عمّن حوله، فمؤخراً ظهر السيسي مرتفعاً على مقعد مغاير لما يجلس عليه الآخرون، لا يشبه الكراسي المجاورة له، كعادة الرؤساء من قبله، فقد كانت مقاعد مبارك وسابقاه السادات وناصر، تشبه مقاعد الغالبية من حيث الاتساع والارتفاع، إلا المقعد الذي يتبوأه السيسي مؤخراً في الاحتفالات العامة، فهو يختلف بشكل واضح عن كراسي مرافقيه، مقعد أعلى وأفخم، يشبه إلى حد كبير كراسي فتوات الجمالية التي تنتشر حتى اليوم أمام محال تجار خان الخليلي أو شارع المعز كلها، حتى أنني أتذكر قبل عشرة أعوام، ذلك اللقاء الذي امتد لمرات متكررة مع أحد أبناء عمومة الرئيس حين كنت أكتب عن ميلاده في الجمالية، فكان الرجل يعتلي مقعداً لا يغيّره، صنع له خصيصاً من الأرابيسك المطعم، لا يجلس على كرسيه أحد حتى حين غيابه، غيّب الموت ابن العم وبقي الكرسي فارغاً.
أسطورة أرض النهاية
“وحدث أن أخذ بعض من شبان حارتنا يختفون تباعاً، وقيل في سبب اختفائهم، أنهم قد اهتدوا لمكان حنش فانضموا إليه، وأنه يعلّمهم السحر استعداداً لليوم الموعود، واستحوذ الخوف على الناظر ورجاله، فبثّوا العيون في الأركان، وفتشوا المساكن والدكاكين، وفرضوا أقصى العقوبات على أتفه الهفوات، وانهالوا بالعصا على النظرة والضحك والنكتة، حتى باتت الحارة في جو قاتم من الخوف والحقد والإرهاب، لكن الناس تحملوا البغي في جلَد، واستمسكوا بالصبر والأمل، وكانوا كلما ضاق بهم العسف… قالوا: لا بد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب”.
ينتهي حديث الجغرافيا والتاريخ الذي حكاه محفوظ عن سيرة الجبلاوي في صحراء المقطّم وأرض أبنائه وأحفاده التي امتدت إلى الجمالية، تنتهي القصة بأسطورة عرفة ساحر العلم وتابعه حنش، الذي ربما حاز “الكراسة” ليكمل مسيرة عرفة الذي برأته أسطورته من دم الجبلاوي.
النهايات في الجمالية لا بد أن تكون أسطورية وغامضة، فقد سبق نهاية أسطورة الجبلاوي وعرفة، نهاية أخرى أكثر غموضاً وأشد إثارة، وفي صحراء المقطّم، اختفى أكثر حكام الدولة الفاطمية جدلاً وتحول إلى ولي في عقول المصريين، حين خرج الخليفة الفاطمي السادس الحاكم بأمر الله، على حصانه، من قصره في الجمالية إلى الصحراء، فقتلته خيانة شقيقته ست الملك، وبرغم اعتراف القتلة بعد سنوات، ظل المصريون ينتظرون عودته إلى عاصمته من جديد… حيث من الجمالية يبدأ كل شيء.
إقرأوا أيضاً: