fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عاملات الفلاحة في تونس…ضحايا تهميش الدولة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

العاملات في القطاع الفلاحي في تونس، أجورهن لا تتجاوز الحد الأدنى المضمون، ولا تتمتع غالبيتهن بالتغطية الاجتماعية، يعشن في ظل عدم التفات الدولة لهن جدياً، إلا في المناسبات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أقوم فجراً أعد بعض الأكل لعائلتي (أبناؤها وزوجها) ثم أحمل قفتي التي أضع فيها بعض ما يسد رمقي، وأغادر مع بقية النساء باتجاه الحقول للعمل، نمشي مسافة طويلة حتى نصل إلى النقطة المتفق عليها مع صاحب الشاحنة، تتجمد أقدامنا وأيدينا من البرد، ومع ذلك نمضي، نستقل الشاحنة، يحملنا صاحبها بأعداد كبيرة، وفي حال اعترض طريقه أعوان الأمن يقوم بإنزالنا، فنكمل مشياً على الأقدام، وبمجرد اختفاء دورية الأمن يعود إلينا ليكمل بنا الطريق”.

تروي صليحة، عاملة فلاحية من منطقة بوسالم التابعة لمحافظة جندوبة في تونس لـ”درج”، بكثير من المرارة، كيف تدفعهن الخصاصة والفقر إلى القبول بالعمل في الحقول، في ظروف صعبة، ومقابل أجر زهيد بالكاد يسد الرمق.   

وتقول: “معاناتنا مزدوجة في كل يوم، بخاصة عندما يكون الفصل شتاء، فنحن من جهة، نذهب إلى العمل في الصندوق الخلفي للشاحنات الخفيفة، ويكون مكشوفاً، لا شيء فوقنا يغطينا، فينهش الهواء البارد أجسادنا، لنصل إلى الحقول ونحن نرتعش من شدة الصقيع، لكن لا مجال للتذمر أو التراجع، فنحن في أمس الحاجة إلى العمل، رغم أن المقابل المادي قليل جداً، مقارنة بالتعب الكبير والمجهود الذي نبذله، ومن جهة أخرى، فإن الطرقات التي تسلكها الشاحنات سيئة جداً، ولهذا تكاد الشاحنة التي تقلنا أن تنقلب بنا، بل إن هذا ما حدث عدة مرات، وتسبب في موت نساء تركن وراءهن أطفالاً في أمس الحاجة إليهن، أو آباء عاجزين يعتمدون عليهن، حتى بتنا نخشى في كل مرة ، أن نعيش المصير نفسه”.

خطر “شاحنات الموت”

وصليحة واحدة من مئات العاملات في القطاع الفلاحي في تونس، اللاتي يعشن في ظل ظروف حياتية صعبة، تجبرهن على العمل طوال النهار في البرد القارس شتاء، وتحت لهيب الشمس صيفاً، مقابل أجور زهيدة جداً، ومن دون تغطية صحية، ووسائل نقل ملائمة تضمن وصولهن بسلام إلى الحقول التي يعملن فيها، وهذا ما يجعلهن دائماً، عرضة لحوادث مميتة تحصد أرواحهن، ورغم صيحات الفزع التي تطلقها منظمات المجتمع المدني، ما زالت أعداد الضحايا ترتفع من سنة إلى أخرى.

وتتولى شاحنات بات يطلق عليها في تونس “شاحنات الموت”، نقل عدد كبير من العاملات بالفلاحة، من دون توفير الحد الأدنى من شروط الحماية، وتتجمع العاملات فجراً في مكان يتم الاتفاق عليه مسبقاً مع الوسيط، الذي يتولى نقلهن إلى أماكن العمل، مقابل 5 دينار (نحو دولارين) من أجرتهن اليومية. 

منذ بداية سنة 2024، وقعت خمسة حوادث نقل للعاملات في القطاع الفلاحي، أسفرت عن مقتل ثلاث عاملات، وإصابة أكثر من 70 أخريات؛ حسب جمعية “أصوات نساء”، في ظل صمت الدولة، ومرت جميعها من دون حراك رسمي يذكر، وكأن السلطات قد طبعت مع هذه الحوادث، فلم تعد تثير اهتمامها. 

وقع الحادث الأول في 14 من يناير/كانون الثاني المنقضي في محافظة بنزرت، وقد خلّف 39 مصاباً ومصابة بين عاملات وعمال، بإصابات متفاوتة الخطورة، أربع عاملات تعرضن لكسر على مستوى الحوض، مما استوجب التدخل الجراحي، علماً أن الشاحنة معدة لنقل البضائع، وكانت تقل نحو 63 امرأة.

أما الحادث الثاني فقد حصل في الخامس من فبراير/شباط  الماضي، عندما انقلبت شاحنة خفيفة كانت تقل عاملات، في منطقة جلمة في محافظة سيدي بو زيد، وقد أسفر الحادث عن وفاة عاملتين وإصابة 29 عاملة، بينهن طفلان يبلغ أحدهما من العمر 5 والآخر 6 سنوات.

وكان الحادث الثالث في 16 يونيو/ حزيران في مدينة الوسلاتية في محافظة القيروان، حيث اصطدمت الشاحنة التي تقل عاملات بأخرى، مما أدى إلى مقتل عامل واحد وجرح 13 عاملة بجروح مختلفة.

وفي 26 من الشهر نفسه، انقلبت شاحنة نقل فلاحي في أحد المناطق التابعة لمدينة السبيخة في محافظة القيروان أيضاً، أسفرت عن وفاة طفلة في الـ15 من العمر، كانت تجلس في الصندوق الخلفي للشاحنة، رفقة عدد من نساء المنطقة، كن في طريقهن إلى العمل في أحد حقول الطماطم، وإصابة 14 عاملة بجروح متفاوتة الخطورة، إحداهن فقدت بصرها إثر تعرضها إلى كسور على مستوى الجمجمة.

وفي الثاني من يوليو/ تموز الجاري، وقع حادث آخر للعاملات، في مدينة بوحجلة التابعة لمحافظة القيروان، أسفر عن إصابة ثمانية.

العيش بالحد الأدنى

وحسب “المنتدى التونسي” للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد تم تسجيل 79 حادث مرور يتعلق بشاحنات النقل الفلاحي، أسفر عن مقتل 62 ضحية، وخلّف 915 جريحة منذ سنة 2015، ولم يغير القانون الذي تم سنه سنة 2019 لتنظيم عملية نقل العاملات والعاملين في الفلاحة شيئاً، في ظل عدم تفعيله.

يُذكر أن البرلمان التونسي قد سن القانون عدد 51 لسنة 2019، المتعلق بإحداث صنف نقل خاص بالعمال والعاملات في القطاع الزراعي، إثر فاجعة منطقة السبالة في محافظة سيدي بو زيد، التي راح ضحيتها 12 عاملة وعاملاً دفعة واحدة، بالإضافة إلى وقوع 20 جريحاً وجريحة، بسبب انقلاب شاحنة كانت تقلهم، وأثارت هذه الحادثة المروعة، موجة استياء وتعاطفاً واسعاً من قبل الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني في تونس، مع النساء العاملات في المجال الفلاحي، وأجبرت الضغوط البرلمان التونسي على إصدار قانون ينظم هذا النوع من النقل، لكن هذا القانون، لم يحقق مطلب النقل الآمن للعاملات، في ظل تراخي الدولة وتواطؤ موظفي الرقابة مع الوسطاء العشوائيين أصحاب الشاحنات، التي تستقلها النساء العاملات في القطاع الزراعي.

حياة (21 سنة) من محافظة سيدي بو زيد تروي بدورها لـ”درج” بشعور كبير بالقهر والاستياء من دولة تنساهن رغم أهمية دورهن، وتبخل عليهن حتى بتأمين صحي يتكئن عليه ساعة المرض، وتقول: “أعمل في الفلاحة منذ عشر سنوات، كي يكون بمقدوري شراء أدويتي، وأستطيع الذهاب في كل مرة إلى مواعيدي مع الطبيب، فلا أحد أعتمد عليه لدفع مصاريف علاجي المكلفة والدائمة، فأنا من عائلة فقيرة غير قادرة على تحمل هذا العبء، ويجب علي العمل حتى أستطيع دفع مصاريف مرضي”.

وتضيف: “لا أحد بإمكانه تصور ما نعانيه من تعب في كل الفصول، مقابل أجر زهيد هو بالكاد يلبي حاجاتنا، وما يحز في قلبي أنني وبقية العاملات في الفلاحة، نساهم في إطعام أبناء هذا الوطن كله، لكن في المقابل ينسانا الجميع، وتتجاهلنا الدولة، حيث لا تأمين صحي لنا، ولا رواتب قارة أو مناسبة، ولا نقل لائق يجعلنا مطمئنات على سلامتنا وحياتنا عندما نستقله، لا شيء غير الشقاء، لكننا مكرهات على ذلك، فإن لم نعمل نموت جوعاً أو مرضاً، ولا أحد سيهتم لأمرنا في كل الأحوال”.

ما روته حياة تؤكده التقارير الرسمية وخاصة تقارير المجتمع المدني، فحسب “المنتدى التونسي” للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإن 92 في المئة من العاملات في القطاع الفلاحي، أجورهن لا تتجاوز الحد الأدنى الفلاحي المضمون، ولا تتمتع 92 في المئة من العاملات بالتغطية الاجتماعية، وتعيش العاملات في ظل عدم التفات الدولة لهن جدياً، وفي المرات القليلة التي تتذكرهن فيها، والتي غالبا ما تكون مناسباتية (اليوم العالمي للمرأة الريفية) تصدر قوانين أو أحكاماً ولا تتابع تطبيقها مطلقاً، ولا تدرس مدى فاعليتها أو تأثيرها إيجاباً على حياة عاملات الفلاحة. 

وهذا ينطبق على الأمر الحكومي عدد 768 الصادر بتاريخ 19  أكتوبر/ تشرين الأول 2022، الذي يقضي بترفيع طفيف في الأجر الأدنى اليومي المضمون للعاملات في القطاع الفلاحي، ليبلغ 17.664 ديناراً (أقل من ستة دولارات) بعد أن كان 16.512 خلال سنة 2021، فهذا الأمر الذي يجده البعض محموداً، هو في الحقيقة يمكن العاملات من دخل شهري لا يتجاوز 400 دينار (حوالي 133 دولار) وهو أجر متدنِ جداً، ولا يمكن أن يلبي حاجات نساء يعملن من أجل إعالة أبنائهن أو عائلاتهن، في ظل الغلاء الكبير الذي تعيش على وقعه تونس.

كما أن هذا الأمر ظل كغيره من القوانين حبراً على ورق، إذ لا يلتزم الفلاحون بدفع هذا الأجر، حيث تترواح أجور العاملات ما بين 12 و15 دينار كأقصى حد، مقابل 10 إلى 12 ساعة عمل متواصلة في اليوم.

تقصير وإهمال رسميان

ويحدث ذلك بسبب عدم وضع الدولة استراتيجية واضحة لدى سن القوانين، التي تصدر تجاوباً مع ضغوط المجتمع المدني، لا إيماناً حقيقياً بضرورة تفعيلها وأحقية عاملات الفلاحة بأن يعملن في ظروف لائقة. 

قالت سارة بن سعيد المديرة التنفيذية لجمعية “أصوات نساء”؛ أبرز الجمعيات المهتمات بقضايا النساء في تونس، لـ”درج”: “هناك استمرار لغياب الهيكلة في القطاع الفلاحي، مما يتسبب في هشاشة كبرى للعاملات في الفلاحة، اللاتي يمثلن 80 في المائة من المشتغلين في هذا القطاع، وحتى القرارات التي يتم اتخاذها في مجال التمكين الاقتصادي للمرأة وكل القرارات الأخرى، ظلت شعارات رنانة لم تُطبق على أرض الواقع، وهذا ما يؤكده التدهور المتزايد في أوضاع النساء العاملات في المجال الفلاحي، ويعود ذلك إلى سياسات الدولة في عدم توفير الميزانيات الخصوصية لإنفاذ هذه القوانين، وإلى عدم توفير الرقابة من الجهات الأمنية على الطرقات، وخاصة ما وصفته بشاحنات الموت التي تحمل عشرات النساء وتنقلهن إلى الحقول”.

ولا توفر الدولة التونسية إحصائيات حول عدد العاملات في القطاع الزراعي بتعلة  موسمية نشاطهن، ومع ذلك، فإن الأرقام غير الرسمية تؤكد أن عددهن يتجاوز النصف مليون امرأة، يضمنّ دائماً رغيف التونسيات والتونسيين وسلة غذائهم، ورغم أهميتهن في الدورة الاقتصادية، إلا أنهن بقين خارج دائرة اهتمام الدولة، كما يعيش أكثر من مليون و700 ألف امرأة وفتاة في الأرياف، يشكلن نسبة 32 في المئة من مجمل النساء في تونس، و50 في المئة من مجمل سكان المناطق الريفية، كما يمثلن ما بين 62 و80 في المئة من اليد العاملة في القطاع الزراعي في البلاد.

27.07.2024
زمن القراءة: 7 minutes

العاملات في القطاع الفلاحي في تونس، أجورهن لا تتجاوز الحد الأدنى المضمون، ولا تتمتع غالبيتهن بالتغطية الاجتماعية، يعشن في ظل عدم التفات الدولة لهن جدياً، إلا في المناسبات.

“أقوم فجراً أعد بعض الأكل لعائلتي (أبناؤها وزوجها) ثم أحمل قفتي التي أضع فيها بعض ما يسد رمقي، وأغادر مع بقية النساء باتجاه الحقول للعمل، نمشي مسافة طويلة حتى نصل إلى النقطة المتفق عليها مع صاحب الشاحنة، تتجمد أقدامنا وأيدينا من البرد، ومع ذلك نمضي، نستقل الشاحنة، يحملنا صاحبها بأعداد كبيرة، وفي حال اعترض طريقه أعوان الأمن يقوم بإنزالنا، فنكمل مشياً على الأقدام، وبمجرد اختفاء دورية الأمن يعود إلينا ليكمل بنا الطريق”.

تروي صليحة، عاملة فلاحية من منطقة بوسالم التابعة لمحافظة جندوبة في تونس لـ”درج”، بكثير من المرارة، كيف تدفعهن الخصاصة والفقر إلى القبول بالعمل في الحقول، في ظروف صعبة، ومقابل أجر زهيد بالكاد يسد الرمق.   

وتقول: “معاناتنا مزدوجة في كل يوم، بخاصة عندما يكون الفصل شتاء، فنحن من جهة، نذهب إلى العمل في الصندوق الخلفي للشاحنات الخفيفة، ويكون مكشوفاً، لا شيء فوقنا يغطينا، فينهش الهواء البارد أجسادنا، لنصل إلى الحقول ونحن نرتعش من شدة الصقيع، لكن لا مجال للتذمر أو التراجع، فنحن في أمس الحاجة إلى العمل، رغم أن المقابل المادي قليل جداً، مقارنة بالتعب الكبير والمجهود الذي نبذله، ومن جهة أخرى، فإن الطرقات التي تسلكها الشاحنات سيئة جداً، ولهذا تكاد الشاحنة التي تقلنا أن تنقلب بنا، بل إن هذا ما حدث عدة مرات، وتسبب في موت نساء تركن وراءهن أطفالاً في أمس الحاجة إليهن، أو آباء عاجزين يعتمدون عليهن، حتى بتنا نخشى في كل مرة ، أن نعيش المصير نفسه”.

خطر “شاحنات الموت”

وصليحة واحدة من مئات العاملات في القطاع الفلاحي في تونس، اللاتي يعشن في ظل ظروف حياتية صعبة، تجبرهن على العمل طوال النهار في البرد القارس شتاء، وتحت لهيب الشمس صيفاً، مقابل أجور زهيدة جداً، ومن دون تغطية صحية، ووسائل نقل ملائمة تضمن وصولهن بسلام إلى الحقول التي يعملن فيها، وهذا ما يجعلهن دائماً، عرضة لحوادث مميتة تحصد أرواحهن، ورغم صيحات الفزع التي تطلقها منظمات المجتمع المدني، ما زالت أعداد الضحايا ترتفع من سنة إلى أخرى.

وتتولى شاحنات بات يطلق عليها في تونس “شاحنات الموت”، نقل عدد كبير من العاملات بالفلاحة، من دون توفير الحد الأدنى من شروط الحماية، وتتجمع العاملات فجراً في مكان يتم الاتفاق عليه مسبقاً مع الوسيط، الذي يتولى نقلهن إلى أماكن العمل، مقابل 5 دينار (نحو دولارين) من أجرتهن اليومية. 

منذ بداية سنة 2024، وقعت خمسة حوادث نقل للعاملات في القطاع الفلاحي، أسفرت عن مقتل ثلاث عاملات، وإصابة أكثر من 70 أخريات؛ حسب جمعية “أصوات نساء”، في ظل صمت الدولة، ومرت جميعها من دون حراك رسمي يذكر، وكأن السلطات قد طبعت مع هذه الحوادث، فلم تعد تثير اهتمامها. 

وقع الحادث الأول في 14 من يناير/كانون الثاني المنقضي في محافظة بنزرت، وقد خلّف 39 مصاباً ومصابة بين عاملات وعمال، بإصابات متفاوتة الخطورة، أربع عاملات تعرضن لكسر على مستوى الحوض، مما استوجب التدخل الجراحي، علماً أن الشاحنة معدة لنقل البضائع، وكانت تقل نحو 63 امرأة.

أما الحادث الثاني فقد حصل في الخامس من فبراير/شباط  الماضي، عندما انقلبت شاحنة خفيفة كانت تقل عاملات، في منطقة جلمة في محافظة سيدي بو زيد، وقد أسفر الحادث عن وفاة عاملتين وإصابة 29 عاملة، بينهن طفلان يبلغ أحدهما من العمر 5 والآخر 6 سنوات.

وكان الحادث الثالث في 16 يونيو/ حزيران في مدينة الوسلاتية في محافظة القيروان، حيث اصطدمت الشاحنة التي تقل عاملات بأخرى، مما أدى إلى مقتل عامل واحد وجرح 13 عاملة بجروح مختلفة.

وفي 26 من الشهر نفسه، انقلبت شاحنة نقل فلاحي في أحد المناطق التابعة لمدينة السبيخة في محافظة القيروان أيضاً، أسفرت عن وفاة طفلة في الـ15 من العمر، كانت تجلس في الصندوق الخلفي للشاحنة، رفقة عدد من نساء المنطقة، كن في طريقهن إلى العمل في أحد حقول الطماطم، وإصابة 14 عاملة بجروح متفاوتة الخطورة، إحداهن فقدت بصرها إثر تعرضها إلى كسور على مستوى الجمجمة.

وفي الثاني من يوليو/ تموز الجاري، وقع حادث آخر للعاملات، في مدينة بوحجلة التابعة لمحافظة القيروان، أسفر عن إصابة ثمانية.

العيش بالحد الأدنى

وحسب “المنتدى التونسي” للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد تم تسجيل 79 حادث مرور يتعلق بشاحنات النقل الفلاحي، أسفر عن مقتل 62 ضحية، وخلّف 915 جريحة منذ سنة 2015، ولم يغير القانون الذي تم سنه سنة 2019 لتنظيم عملية نقل العاملات والعاملين في الفلاحة شيئاً، في ظل عدم تفعيله.

يُذكر أن البرلمان التونسي قد سن القانون عدد 51 لسنة 2019، المتعلق بإحداث صنف نقل خاص بالعمال والعاملات في القطاع الزراعي، إثر فاجعة منطقة السبالة في محافظة سيدي بو زيد، التي راح ضحيتها 12 عاملة وعاملاً دفعة واحدة، بالإضافة إلى وقوع 20 جريحاً وجريحة، بسبب انقلاب شاحنة كانت تقلهم، وأثارت هذه الحادثة المروعة، موجة استياء وتعاطفاً واسعاً من قبل الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني في تونس، مع النساء العاملات في المجال الفلاحي، وأجبرت الضغوط البرلمان التونسي على إصدار قانون ينظم هذا النوع من النقل، لكن هذا القانون، لم يحقق مطلب النقل الآمن للعاملات، في ظل تراخي الدولة وتواطؤ موظفي الرقابة مع الوسطاء العشوائيين أصحاب الشاحنات، التي تستقلها النساء العاملات في القطاع الزراعي.

حياة (21 سنة) من محافظة سيدي بو زيد تروي بدورها لـ”درج” بشعور كبير بالقهر والاستياء من دولة تنساهن رغم أهمية دورهن، وتبخل عليهن حتى بتأمين صحي يتكئن عليه ساعة المرض، وتقول: “أعمل في الفلاحة منذ عشر سنوات، كي يكون بمقدوري شراء أدويتي، وأستطيع الذهاب في كل مرة إلى مواعيدي مع الطبيب، فلا أحد أعتمد عليه لدفع مصاريف علاجي المكلفة والدائمة، فأنا من عائلة فقيرة غير قادرة على تحمل هذا العبء، ويجب علي العمل حتى أستطيع دفع مصاريف مرضي”.

وتضيف: “لا أحد بإمكانه تصور ما نعانيه من تعب في كل الفصول، مقابل أجر زهيد هو بالكاد يلبي حاجاتنا، وما يحز في قلبي أنني وبقية العاملات في الفلاحة، نساهم في إطعام أبناء هذا الوطن كله، لكن في المقابل ينسانا الجميع، وتتجاهلنا الدولة، حيث لا تأمين صحي لنا، ولا رواتب قارة أو مناسبة، ولا نقل لائق يجعلنا مطمئنات على سلامتنا وحياتنا عندما نستقله، لا شيء غير الشقاء، لكننا مكرهات على ذلك، فإن لم نعمل نموت جوعاً أو مرضاً، ولا أحد سيهتم لأمرنا في كل الأحوال”.

ما روته حياة تؤكده التقارير الرسمية وخاصة تقارير المجتمع المدني، فحسب “المنتدى التونسي” للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإن 92 في المئة من العاملات في القطاع الفلاحي، أجورهن لا تتجاوز الحد الأدنى الفلاحي المضمون، ولا تتمتع 92 في المئة من العاملات بالتغطية الاجتماعية، وتعيش العاملات في ظل عدم التفات الدولة لهن جدياً، وفي المرات القليلة التي تتذكرهن فيها، والتي غالبا ما تكون مناسباتية (اليوم العالمي للمرأة الريفية) تصدر قوانين أو أحكاماً ولا تتابع تطبيقها مطلقاً، ولا تدرس مدى فاعليتها أو تأثيرها إيجاباً على حياة عاملات الفلاحة. 

وهذا ينطبق على الأمر الحكومي عدد 768 الصادر بتاريخ 19  أكتوبر/ تشرين الأول 2022، الذي يقضي بترفيع طفيف في الأجر الأدنى اليومي المضمون للعاملات في القطاع الفلاحي، ليبلغ 17.664 ديناراً (أقل من ستة دولارات) بعد أن كان 16.512 خلال سنة 2021، فهذا الأمر الذي يجده البعض محموداً، هو في الحقيقة يمكن العاملات من دخل شهري لا يتجاوز 400 دينار (حوالي 133 دولار) وهو أجر متدنِ جداً، ولا يمكن أن يلبي حاجات نساء يعملن من أجل إعالة أبنائهن أو عائلاتهن، في ظل الغلاء الكبير الذي تعيش على وقعه تونس.

كما أن هذا الأمر ظل كغيره من القوانين حبراً على ورق، إذ لا يلتزم الفلاحون بدفع هذا الأجر، حيث تترواح أجور العاملات ما بين 12 و15 دينار كأقصى حد، مقابل 10 إلى 12 ساعة عمل متواصلة في اليوم.

تقصير وإهمال رسميان

ويحدث ذلك بسبب عدم وضع الدولة استراتيجية واضحة لدى سن القوانين، التي تصدر تجاوباً مع ضغوط المجتمع المدني، لا إيماناً حقيقياً بضرورة تفعيلها وأحقية عاملات الفلاحة بأن يعملن في ظروف لائقة. 

قالت سارة بن سعيد المديرة التنفيذية لجمعية “أصوات نساء”؛ أبرز الجمعيات المهتمات بقضايا النساء في تونس، لـ”درج”: “هناك استمرار لغياب الهيكلة في القطاع الفلاحي، مما يتسبب في هشاشة كبرى للعاملات في الفلاحة، اللاتي يمثلن 80 في المائة من المشتغلين في هذا القطاع، وحتى القرارات التي يتم اتخاذها في مجال التمكين الاقتصادي للمرأة وكل القرارات الأخرى، ظلت شعارات رنانة لم تُطبق على أرض الواقع، وهذا ما يؤكده التدهور المتزايد في أوضاع النساء العاملات في المجال الفلاحي، ويعود ذلك إلى سياسات الدولة في عدم توفير الميزانيات الخصوصية لإنفاذ هذه القوانين، وإلى عدم توفير الرقابة من الجهات الأمنية على الطرقات، وخاصة ما وصفته بشاحنات الموت التي تحمل عشرات النساء وتنقلهن إلى الحقول”.

ولا توفر الدولة التونسية إحصائيات حول عدد العاملات في القطاع الزراعي بتعلة  موسمية نشاطهن، ومع ذلك، فإن الأرقام غير الرسمية تؤكد أن عددهن يتجاوز النصف مليون امرأة، يضمنّ دائماً رغيف التونسيات والتونسيين وسلة غذائهم، ورغم أهميتهن في الدورة الاقتصادية، إلا أنهن بقين خارج دائرة اهتمام الدولة، كما يعيش أكثر من مليون و700 ألف امرأة وفتاة في الأرياف، يشكلن نسبة 32 في المئة من مجمل النساء في تونس، و50 في المئة من مجمل سكان المناطق الريفية، كما يمثلن ما بين 62 و80 في المئة من اليد العاملة في القطاع الزراعي في البلاد.