انشغلت مساحات من الصحافة الفرنسية في الفترة الأخيرة، بنقاش حول “اليسار الإسلاموي”، وهو تيار معظم رواده من المثقفين اليساريين الفرنسيين النشطاء في تقديم جماعات الإسلام السياسي السنية والشيعية، باعتبارها حركات استقلال وتحرر وطني جديدة يجب التعامل معها لتمثيل العرب والمسلمين.
بالنسبة إلى هذا التيار، الذي صار له ممثلوه في اليسار الأوروبي عموماً، الإسلام هو الهوية الحقيقية للمسلم، ويجب أن نتعامل مع المسلمين سواء كان في الغرب أو في بلدانهم الأصلية من خلال نافذة الاسلام والشريعة والحجاب. أما المثقفون العرب والمسلمون الذين يطالبون بالديموقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، فليسوا سوى مثقفين مزيفين متأثرين بالغرب والحداثة وغيرها من الأفكار التي لا تتوافق مع الهوية الإسلامية!
يلتقي خطاب اليسار الأوروبي “الإسلاموي” التقاء كبيراً مع خطاب الأصولية الإسلامية، برغم اختلاف المنطلقات. فكلا الخطابين يرى أن الحداثة “جاهلية” معاصرة لا يجوز للمسلمين تبنيها، ويؤمن بأن العلمانية قيمة غربية تتعارض تعارضاً تاماً مع شمولية الإسلام وضرورة خضوع المسلم للشريعة، ويرفض الخطابان رفضاً تاماً أن يطالب المسلم بقيم حقوق الإنسان أو المواطنة، لأن المسلم لا يفهمها والإسلام يتعارض معها. وهكذا في خلطة عجيبة نادراً ما تحدث في التاريخ التقى اليسار الغربي ما بعد الحداثي مع اليمين الأصولي الإسلامي، على مستوى الفكر والتحالفات.
كنت أظن حتى ذلك الحين أن اليسار الفرنسي هو أغرب أشكال اليسار الغربي المتحالف مع الفاشية الإسلامية، والرافض لتبني المسلمين أي شكل من أشكال الحداثة، لكن اتضح لي أن هناك يساراً صاعداً قد تجاوزه بمراحل، هو اليسار الأميركي.
لكن قبل مناقشة ذلك، أريد شرح جذور هذا اللقاء الغريب بين اليسار الأوروبي والإسلام السياسي وكيف انتقلا من التناقض في المنطلقات والأهداف، إلى تكوين تحالف عالمي موحد.
تعود نقطة البداية في التحالف اليساري- الإسلاموي إلى أعمال ميشيل فوكو المفكر الفرنسي الذي ستؤدي أفكاره الى سيطرة تيار “معاداة التنوير” أو تيار “معاداة الحداثة”، المعروف إعلامياً بتيار “ما بعد الحداثة” على الفكر الأوروبي.
وجّه فوكو نقده إلى أفكار التنوير الأوروبية الكبرى (العقل، عالمية حقوق الإنسان، المساواة، العلم، التقدم)، وقال إنها لم تؤد الى سعادة الإنسان وتحرره، بل على العكس من ذلك، أدت إلى التحكم في حياة الإنسان، عبر بيروقراطية الدولة الحديثة واستعمار الشعوب الأخرى ونهبها وترسيخ سيطرة الذكر الأبيض على المرأة، والرجل الأبيض على بقية الأعراق.
لم يكن فوكو أول من انتقد أخطاء التنوير الأوروبي والاستعمار، لكنه أول من طرح أن الحل هو التخلي تماماً عن الحداثة وقيم التنوير، باعتبار أن المشكلة لم تكن في انحراف الحداثة، بل في الحداثة نفسها، ولم تكن المشكلة في الخروج على قيم التنوير، بل في قيم التنوير نفسها.
أسس فوكو لتيار “معاداة التنوير” counter enlightenment، داخل اليسار بعدما كانت معاداة التنوير والحداثة محصورة داخل بعض أجنحة اليمين المتطرف. بل إن معاداة التنوير والحداثة وعالمية حقوق الإنسان تحولت بعد فوكو الى نزعة رئيسية داخل طروحات اليسار العالمي. وتوسع تيار معاداة التنوير والحداثة داخل صفوف اليسار الأوروبي ابتداء من مدرسة فرانكفورت (هوركهايمر وادورنو) إلى يسار ما بعد الحداثة الفرنسي (ليوتارد، ديريدا، بارت)، وصولاً إلى اليسار الأميركي والليبرالية الأميركية، بعد انتقال ممثلي مدرسة فرانكفورت (ماركيوز) إلى أميركا.
مع ذلك، ظلت أفكار ميشيل فوكو هي أساس انتقال اليسار الأوروبي من صف التنوير والعقلانية والتقدم، الى صف معاداة التنوير والعقل والتعلق بكل ما هو قديم وما قبل حداثي. نقد فوكو العقل واعتبره مجرد وهم لا يقل وهماً عن الخرافة، وكان هذا أحد أسباب تركيزه على دراسة الجنون. فبالنسبة إليه لا يقل الجنون موثوقية عن العقل، بل قد يتجاوزه أهمية. وانتقل فوكو من معاداة العقل إلى رفض العلم، فبالنسبة إليه، حتى العلوم الطبيعية كالطب، مجرد أبنية اجتماعية متحيزة ولا تمكن الثقة في موضوعيتها. ثم انتقل من رفض العلم إلى رفض المعرفة عموماً، وفق مبدئه الشهير “المعرفة سلطة” بمعنى أن المعرفة كانت دائماً وسيلة للسيطرة على الفرد والمجتمع، وبناء على ذلك رفض علوم الطب الحديثة وعلوم الاجتماع، واعتبرها مجرد “خطابات” للسيطرة على الإنسان والمجتمع. وفي النهاية رفض فوكو مبدأ التقدم واعتبر أن البشرية تتدهور وتمضي من سيئ إلى أسوأ، وتسهل ملاحظة ماضوية فوكو وتقديسه كل ما هو قبل حداثي وقديم.
إقرأوا أيضاً:
تحولت أفكار فوكو الى أيديولوجيا شمولية لليسار الجديد. تخلى اليسار عن تقدميته، وصار يؤمن بأن الماضي أجمل من الحاضر والمستقبل هو حالة تدهور مستمرة، ملتقياً مع اليمين الديني المتعلق بصورة الماضي الذهبي “خير القرون قرني ثم الذي يليه…”. وتخلى اليسار عن عقلانيته وصار يشكك في العقل ويدافع عن المعرفة البديلة القائمة على الروحانيات والحدس والتقاليد، والتقى هنا مرة أخرى مع اليمين الديني الذي يسفه العقل، ويركز على أولوية الوحي والنص الديني ويرفض أي قدرة للعقل على تكوين معرفة نافعة. وتخلى اليسار عن مفهوم عالمية حقوق الإنسان، واقتنع بأن الحرية والديموقراطية والفردية للغرب فقط، وبأن الإنسان غير الأوروبي لا يحق له تبني هذه المفاهيم الاستعمارية! وتخلى اليسار عن العلم وصار يهاجم خطابه، ويشكك حتى في علوم الطب والفلك والهندسة والبيولوجيا، معتبراً أنها “أبنية اجتماعية” أيديولوجية وعرقية مشكوك فيها، ملتقياً في ذلك مرة أخرى مع خطاب اليمين الديني الإسلامي المتطرف المشكك في موضوعية العلم ونتائجه، خوفاً من تأثيرها في قدسية النص.
لم يكن هذا التحول العميق لليسار بعيداً من السياسة. فقد حصل على خلفية فشل التجارب الماركسية في الاتحاد السوفييتي والصين والعالم الثالث من ناحية، وصعود نجم الرأسمالية والليبرالية من ناحية أخرى، ذلك الصعود الذي تم بتبني الرأسمالية مفاهيم عصر التنوير. صار التقارب النظري شديداً بين اليسار الأوروبي والأصولية الإسلامية منذ سبعينات القرن الماضي، لكنه لم يترجم بعد إلى تحالف عملي وعلني، وكان لا بد من حدث صاعق يحول التقارب النظري الى حقيقة سياسية وتحالف استراتيجي وكان هذا الحدث هو الثورة الإيرانية.
لا يزال تأييد ميشيل فوكو المطلق للثورة الإيرانية حتى بعدما تكشفت وحشيتها وبدأت إعدام المعارضين وفرض الحجاب على النساء وتقليص حقوقهن المدنية من المواقف الغامضة في نظر المعجبين بفوكو. ويحلو للمدافعين عنه الحديث عنه باعتباره خطأ لم تتح لفوكو فرصة الاعتذار عنه قبل وفاته. لكن الحقيقة أن تأييد فوكو الخمينية، لم يكن تأييداً لجانبها الإيجابي (الإطاحة بديكتاتورية الشاه) بل كان إعجاباً بجانبها السلبي (الحكم الديني للخميني، معاداتها الحداثة، ومعاداتها الغرب، وقطيعتها التامة مع قيم الديموقراطية والمدنية والعلمانية والحرية). يمكن القول إن الخمينية كانت التطبيق العملي لأفكار فوكو المعادية للحداثة وللعقل والقيم الإنسانية العالمية. كان فكر فوكو قد وصل الى أكثر مراحله تطرفاً باعتباره أن كل شيء حديث سلبي ويجب رفضه، وأي سياسة علمانية وعقلانية تجب محاربتها، لأنها ستمارس سلطة أعلى على المجتمع. وكان قبل الثورة الإيرانية تحدّث عن “الروحانيات السياسية” وطرح فيها رفضاً مبطناً لعلمانية الدولة الحديثة. كان فوكو تحول من “محافظ صغير” على حد تعبير “هابرماس”، إلى رجعي كبير وكان تأييده المطلق للتجربة الخمينية بكل وحشيتها اعترافاً بالتطبيق العملي الممكن لأفكاره.
توفي فوكو عام 1984 لكنه كان سحب اليسار الجديد بأكمله الى مربع التحالف مع الرجعية والفاشية. وستظهر طلائع اليسار الجديد الذي يطالب بتحرير العالم الثالث من “الاستعمار الثقافي” المتمثل في القيم الغربية للديموقراطية وحقوق الإنسان والعقلانية والعلم، ويرى أن حليفه الأهم في هذه المهمة هو الحليف الإسلامي الذي صار يشترك معه في رفض الحداثة بكل صورها.
بعد ذلك سينتقل التحالف بين اليسار الأوروبي الجديد والفاشية الإسلامية إلى قلب أوروبا على خلفية الصراع بين الليبرالية الجديدة واليسار الجديد، وإلى قلب أميركا على خلفية الصراع بين الجمهوريين والديموقراطيين. سيبدأ اليسار الجديد باستخدام سلاح “الأقليات” ضد اليمين الأوروبي، ولأن المسلمين إحدى الأقليات في أوروبا، وبسبب نمو ظاهرة الإسلام السياسي هناك، سيصير الإسلام السياسي هو ايديولوجيا الأقلية الإسلامية في الغرب، وسيصبح تحالف اليسار مع الفاشية الإسلامية تحالفاً استراتيجياً في الصراع السياسي ضد اليمين.
بعد تفجيرات نيويورك بشهر نشر الفرنسي “جان بودريارد” مقالاً يقول فيه إن تفجيرات أيلول/ سبتمبر حققت حلمه وهو تدمير قوة بحجم أميركا وضحامتها، وقال إن الانتحاريين حققوا حلماً للبشرية كلها سيؤدي الى إشاعة الراديكالية في العالم بما يؤدي إلى سقوط النظام الرأسمالي العالمي. وكرر جاك ديريدا المعاني ذاتها في مقال نشر في الفترة ذاتها، وكان مضمون المقالين إحساس اليسار المتعاظم بالقوة الكامنة داخل الإسلام السياسي، تلك القوة التي يمكن التحالف معها من أجل إسقاط منظومة الرأسمالية من الداخل.
ثم جاءت الاختلافات السياسية الأخيرة حول الهجرة والأقليات والاندماج لترسخ تحالف اليسار مع جماعات الإسلام السياسي في أوروبا وأميركا، وتحصينها بمفاهيم مثل “الإسلاموفوبيا” و”الصوابية السياسية”، وليتحول الكثير من المثقفين اليساريين والليبراليين إلى مدافعين عن النبي محمد والمقدسات الإسلامية، رافضين رفضاً تاماً أي حديث عن تجديد الإسلام والإصلاح الديني، باعتبار هذه المطالبات “الإسلاموفوبيا” وكراهية للمسلمين، ليتحول التحالف إلى تبادل هزلي للأدوار يتحول فيه يساريون علمانيون ملحدون إلى أشد المدافعين عن الشريعة والمعتقدات وفرض الحجاب ودونية المرأة المسلمة “التي تحب أن تكون كذلك”!
يؤمن اليسار الجديد مثله مثل الاستشراق التقليدي، بعبء الرجل الأبيض، لكنه عبء معكوس. فإذا كان عبء الرجل الأبيض في الاستشراق التقليدي هو تحضير الشعوب المتخلفة وتحديثها، فإن عبء الرجل الأبيض عند اليسار الجديد هو تحرير الشعوب الأخرى من الحداثة الغربية، وإعادتها مرة أخرى إلى حالة التخلف التي كانت عليها قبل أن تطرق الحداثة أبوابها.
بالنسبة إلى عبء الرجل الأبيض الجديد، الحداثة خطيئة غربية يجب أن تنتهي، وعلى الرجل الأبيض الجديد أن يتحالف مع القوى المعادية للحداثة، من أجل تحقيق هذا الهدف.
إقرأوا أيضاً: