“إمك أمية؟” هو السؤال الأول الذي يطرح عادة عندما أقول للآخرين إن أمي لا تستطيع القراءة، فأجيب: “يعني نعم ولا”.
أمي وُلدت في فنزويلا وأتت إلى لبنان وهي في العشرينات من عمرها، بعدما قررت عائلتها العودة إلى لبنان. وبقيت أمي في لبنان ثلاثين سنة تتكلم لغة عربية شبه مفهومة. لا تفرق بين الصاد والسين والظاء والزاي وأصعبها، بين القاف والكاف والألف. حاولت التعلم بعد فترة من قدومها. وبعد محاولات عدة، فشلت.
توسطت لها جدتي عند أحد أقاربها لتعمل موظفة في متجر ثياب كي تتعلم اللغة العربية عبر الحديث مع الناس، بعدما فشلت بتعلم القراءة والكتابة من خلال الكتب التعليمية. هكذا، تعرفت أمي على أبي.
على رغم الصعوبات اللغوية، أمضت أمي حياتها في لبنان. كونت أصدقاءها وعلاقاتها. أنجبت ثلاثة أطفال، أصرت على أن يتعلموا العربية بعمر صغير. سرعان ما أصبحنا القارئين المعتمدين لدى أمي. نقرأ الفواتير ورسائل الواتسآب والأوراق التي ترسلها المدرسة وحتى قائمة الطعام في المطاعم.
لكن قبل ذلك، لم نكن نعلم أبداً أن أمي لا تعرف القراءة. كانت تحمل كتاب اللغة العربية لتسمّع لنا دروسنا. تتبع الكلمات بعينيها بكل ثقة. وتطلب منا أن نعيد ما لم نقرأه بسلاسة. وعندما كنا نسألها أن تساعدنا في قراءة كلمة ما، كانت إجابتها الدائمة: “إقرئيها لوحدك. لو قرأتها عنك ستنسينها. تعلمي أن تعتمدي على نفسك”. بذلك، كنت ألجأ إلى الغش وأطلب من أبي أن يقرأ لي الكلمة التي لم أعرف أقرأها لأن أمي “قاسية بالتدريس”!
لا أذكر تماماً متى اكتشفنا أن أمي لا تعرف القراءة أو الكتابة بالعربية. أتجنب أن أقول أمية لأنها تعرف لغة أخرى. ولأن قدراتها المعدومة باللغة العربية لم تمنعها أبداً من العيش في لبنان حياة طبيعية جداً.
واظبت أمي على الذهاب إلى التجمعات الدينية على مدى سنوات، كانت خلالها الشيخة الوحيدة التي تقرأ كتاباً مكتوباً بالأحرف اللاتينية. وانضمت إلى المجموعات الدينية على الواتسآب، وكانت الوحيدة التي ترسل رسائل بالإنكليزية أو الأحرف اللاتينية
عملت أمي في لبنان لأكثر من عشر سنوات. تزوجت وأنجبت. تعلمت القيادة وحصلت على رخصة واجتازت الامتحان بلا رشوة عكس الكثيرين، لكنها قدمت الامتحان شفهياً، وهي الآلية التي كانت متّبعة سابقاً، وهذا من حسن حظي أمي التي كانت ستفشل بالامتحان النظري لو قدّمته اليوم.
لأمي دائرة علاقات يومية من موظفي البنك والعاملين في البقالة وموزعي الخبز وسائق الباص المدرسي والطبيب البيطري وغيرهم كثيرين، استهجنوا عند سماعها تتكلم للمرة الأولى، ثم اعتادوا على لكنتها الهجينة، التي أصبحت جزءاً من هويتها التي تتميز بها عن غيرها. هكذا، فشلت أمي بتعلم العربية لكنها علّمت الآخرين عربيّتها “المكسرة”.
مرّرت أمي سنوات حياتها بسلاسة لغتها المليئة بالأخطاء. وأصبحت حياتها العادية في بلد لا تعرف لغته، طبيعية للآخرين الذين اعتادوا عليها. حتى اتخذت أمي قرار الالتزام الديني. بالنسبة الى الأقلية الدرزية، التدين يعني أشياء كثيرة، أهمها، قراءة الكتاب المقدس لدى طائفتنا، وهو ما يسمى بكتاب الحكمة. ولأن ديننا تحيطه سرية معينة، لم يتسنّ لأمي قراءة الكتاب بالإسبانية، لغتها الأم، لأنه لم يترجم قط.
ولأنها لا تعرف العربية، لم يتسن لها أن تقرأه بالعربية أيضاً، ما دفعها الى نقل كتاب الحكمة بلغة الإنترنت. تطلب من صديقاتها الشيخات قراءة الكتاب وتكتبه مثلما تكتب على الواتسآب. فيصبح كتاباً غريباً لعله الكتاب المقدس الأول المكتوب بالعربية بأحرف لاتينية.
فصارت عبارات مثل Bismillahi Al Rahman Al Raheem، التي تجد أمي صعوبة بلفظها بسرعة، من العبارات الدينية العربية – العربية التي أدخلتها أمي إلى مجموعة صديقاتها المتدينات اللواتي لا مشكلة عندهن باللغة العربية.
في إحدى المرات، نسيت صديقة أمي كتابها الديني في المنزل. فجلست إلى جانبها كي تتبع معها القراءة لتتفاجأ أن كتاب أمي مكتوب بالأحرف الإنكليزية. وعلى رغم أن صديقة أمي على علم بأنها لا تعرف العربية وأنها لا تجيد اللفظ، فما بالك بالقراءة والكتابة؟! إلا أنها، لسبب ما، صعقت عند رؤية الكتابة بالأحرف اللاتينية، وسألتها بريبة: “ترجمتيه؟”. فأجابت أمي بابتسامة: “لا، نقلته”.
عندما أخبرتني أمي هذه القصة، اكتشفت أن قدرتها على استكمال حياتها على رغم أنها لا تعرف العربية ومواصلة نشاطات قائمة على اللغة العربية، جعلت المحيطين بها ينسون أنها لا تعرف العربية.
لا أعرف السبب وراء إصرار أمي على نقل كتاب ديني بالـ”عرابيزي”. ولا أعرف، أو بالأحرى، أصرّ على أنها لا تفهم كل ما تقرأه بدقة. حتى أنها لا تعرف أن تلفظ كل ما قرأته وعربته إلى الأحرف اللاتينية. لكن إصرارها على الانخراط بأي مجتمع ومواصلة حياتها اليومية والدينية على رغم عوائق النحو والصرف والإعراب والتعجيز اللغوي الذي تمارسه الكتب المقدسة على قارئيها، يعلمني شجاعتها بالانخراط في مجتمع تعرف جيداً أنه لا يفهمها وتعي تماماً أنها هي أيضاً لا تفقه منه شيئاً أحياناً. لكنها، بشجاعتها المعتادة، تواصل سيرها المتعرج بين الصعوبات اللغوية، لتجد لنفسها مكاناً ما، ولو صغيراً، في عالم تشوبه لهجتها الهجينة.
عندما أسأل أمي لماذا لم تتعلم العربية، تجيبني: “لا أحب اللغة العربية”. لا تعرف أمي أن هذا تابوه في العالم العربي، وأنها لغة مقدسة لدى كثيرين، وأن الأدباء والشعراء كتبوا مجلدات في حب اللغة العربية التي تجمع ملايين بل مئات الملايين من البشر.
على رغم ذلك، ظل اندماجها بالمجتمع الديني العربي ممكناً، وبقيت على يقين أن الله يفهم الصلوات بعربيتها المكسرة التي يشمئز منها المجتمع. وتصله الأحرف المعطوبة مثلما يصغي للفظ السليم.
واظبت أمي على الذهاب إلى التجمعات الدينية على مدى سنوات، كانت خلالها الشيخة الوحيدة التي تقرأ كتاباً مكتوباً بالأحرف اللاتينية. وانضمت إلى المجموعات الدينية على الواتسآب، وكانت الوحيدة التي ترسل رسائل بالإنكليزية أو الأحرف اللاتينية، وذلك طبعاً بعد أن نقرأ لها نحن الرسائل التي أرسلتها صديقاتها باللغة العربية الفصحى تارة والعامية طوراً. واستقبلت ضيوفاً من الملتزمين دينياً، الذين أبت أمامهم أن تقرأ نصاً دينياً لأنها تعي تماماً أنهم لن يعرفوا أي نص تقرأ.
سرعان ما لاحظت اختلاف نظرة الآخرين تجاه أمي “الأمية” مع تقدّمي، وتقدّمها، بالسن. وسرعان ما لمست أهمية اعترافها بأنها لا تعرف، لا من باب الخجل، بل من باب التأقلم. لم تنكفئ أمي على نفسها في منزلها لأن الآخرين يسخرون من لهجتها الثقيلة وجملها التي تخيب في جميع امتحانات اللغة. لم تخف من الحديث مع الناس قط. لم تحاول التظاهر بألا مشكلة لديها مع اللغة العربية. لم تلم أمها وأباها لأنهما لم يعلمانها العربية في المهجر. لم تتذمر من صعوبة اللغة أمامنا كي نتعلمها ولا نكرهها.
حياة أمي كلبنانية اغتربت عن وطنها الأم وعادت بعمر كبير، تتلخص بجملة واحدة: “أنا لا أعرف ولا بأس بذلك”. وربما لو أردت أن أعطي لتجربة أمي مع اللغة عنواناً من كلمة واحدة فسيكون “الاعتراف”. لم يكلفها اختلافها الملحوظ، والذي لا يمكن أن تتخلى عنه، إلا اعترافاً أمام نفسها وأمام العالم بأنها لا تعرف. ومضت قدماً بتقصيرها اللغوي بحجة “فليتعوّد العالم علي”.
وهذا ما حصل. تحولت “أمية” أمي باللغة العربية إلى لهجة “مهضومة” في عيون الناس. وأصبحت الشيخة الوحيدة في المنطقة، إن لم تكن في العالم، التي لا تعرف كيف تتكلم اللغة العربية. وتحول عار العيش طوال حياتها في دولة من دون أن تتعلم لغتها، إلى تفرد هويتها الشخصية التي تميزها عن غيرها من الشيخات.
اليوم، عندما أسأل أمي لماذا لم تتعلم العربية، تجيبني: “لا أحب اللغة العربية”. لا تعرف أمي أن هذا تابوه في العالم العربي، وأنها لغة مقدسة لدى كثيرين، وأن الأدباء والشعراء كتبوا مجلدات في حب اللغة العربية التي تجمع ملايين بل مئات الملايين من البشر.
“مرة خلصتو لجدك من مشكل بالبنك”، تردد أمي العبارة ذاتها كلما لمناها لأنها لا تعرف العربية. بالنسبة إليها، اللغة ليست عائقاً. “ليس ضرورياً أن أتعلم القراءة والكتابة، لأنني أعرف أن أدافع عن نفسي”، تقول أمي دائماً.
إقرأوا أيضاً: