أطبق العاشق عينيه بعدما شاهد الحكايات وغزلها. لم يبخل بخير العمل والكلام كما ولا باللاذع من النكات. أرخى كفيه بعدما بذر أشجاراً ارتفعت فوق الأيادي المتنمرة على الطبيعة. أطبق عينيه على شهوة للحياة لم تنطفئ أو تخبو برغم سنواته التي قاربت التسعين.
عبدالله زخيا كل الرجال!
عاشق المرأة، عاشق الزهور وخادمها. معشَق الحياة بكل الألوان وكل نكهة. الساقي حبيب التراب، الفارس ماشق السرو والغار وباسق النخل.
دافع عبدالله عن العدالة بكل وسيلة، وعندما لم يستطع إلى تحقيقها سبيلاً لم يصمت ولم يتعب من الاحتجاج على الظلم والظلامة. على طريقته وبقناعة راسخة استنبت العدل بحماية الأرض، ببعث الحياة فيها. خاض حروبه ضد الفساد والرياق والإسراف بالبذار، بالقلم، بالمعرفة، وبالتواضع.
كان شجاعاً في مناصرة الحق، الحكيم والمراهق الأبدي! المربي الذي عرف أن يكون أباً من دون أن يكون بطريركياً، وأن يكون زوجاً من دون ذكورية، شريكاً من دون قسمة، وصديقاً بلا قيود. أن يكون مالكاً من دون تملك، ملكاً بلا مُلك.
حاف، غرس قدميه في التراب كأنه مولود منه وندي مثله، مشع مثل شمس الأصيل، هكذا رأيته عندما التقيت به للمرة الأولى، منذ أكثر من ثلاثة عقود. مزروع وسط غابته، يمسك انبوب الري يسقي الزهور، يحتفي بالحياة. شعرت يومها بأنني وصلت للتو إلى مكان قد تراه فقط في تلك الأحلام التي تتمنى لو أنها تدوم. ما زلت أذكر ذلك الشعاع الذي غمرني وبقي يغمرني كلما نظرت إلى وجهه الطافح ببسمته، لن يخفت هذا الوهج. معد فرح عبدالله وشبقه وسعته.
من يومها، وكلما حط نظري على مدخل جنته الذي يعانق الأشجار، وقبل أن تلامس رجلي ترابها، يحل سحر “جنينة عبدالله”، أو كما نسميها، “جنينة الناس لبحبوا الأرض”، كما كان هو يدعوها- فأشعر “حرفياً” بأن شياطين المدينة تفر من جسدي. يفلت حذائي من رجلي وأستسلم لعملية تطهر وتحرر…
لا يتعرف عبدالله إلى زواره عبر الطرق المعتادة للتواصل بين الناس، إنما يأخذك في زيارة إلى حديقته يحط بك في الهند، كما في سنغافورة، في الصين وفي هاواي، في مصر وفي إيطاليا.
لا تزال “شجرة كوبا” تكبر وتمتد في الحديقة، الثرية العملاقة المتوهجة بزهرها الأصفر. أحضرها معه عندما قصد كوبا مع شريكته ليتزوجا مدنياً، “أفضل قانون مدني للزواج وأكثره عدلاً للمرأة هو المطبق في كوبا”، كما أخبرنا.
عبدالله وكذا على دربه ابنته وابنه (إلسا وكليمان نديم)، لا يحملون من أسفارهم متاعاً، بل يحتضنون شتولاً وبذوراً يلقحون بها الأرض.
دافع عبدالله عن العدالة بكل وسيلة، وعندما لم يستطع إلى تحقيقها سبيلاً
لم يصمت ولم يتعب من الاحتجاج على الظلم والظلامة.
تحظى بالتعرف إلى عالمه الأخضر المبهج ويتعرف هو إليك من مقاربتك المكان، من دعساتك على الأرض، من صمتك وسؤالك. ولا تخلو الرحلة من نهفات عبدالله المحببة في اختبار ملاحظتك ومشاعرك الحسية. يطلق قهقهة عالية إذا توقفت إلى جانب شجرة الغوافة الحمراء ولامست جذعها مداعباً. أما إذا مرَرت من دون أن تروادك نفسك بمداعبة هذا الجسد الأملس، سمعته يقول بود، “ولوه… وين نظرك!”.
ولما جاءه مرة من أراد مساومته على بيع دارته والأرض المحيطة بها لقاء مبلغ مالي معتبر، أجابه عبد الله بجملة واحدة، “ولك كيف بدي بيعك وانت ماشي باتجاهي كنت عم بتدعس ع الزهور!”. لم يدعه للجلوس. لم يساوم عبدالله على عدم مخالطة من لا يحترم الطبيعة.
لطالما تقاضى عبدالله بدل أتعابه مقابل مرافعة قانونية، نبتة، أو قطعة أرض بور حوّلها إلى جنة زهور، هنا أوهناك.
كأن يدا عبدالله لم تلمسا سوى البذور، الزهور، الكتاب، الاعشاب والشراب، المآكل اللذيذة وغليونه العزيز.
لا ضرورة للاستماع إلى الموسيقى في جنينة عبدالله، ستصلك الألحان من الشجر وسكانه من الطيور، من رفرفة أجنحة الفراشات، من الزواحف، وحتى الروائح تصلك نغماً. وإذا أردت أن تتعلم العزف على النبات فاسمع عبدالله يحرك شجرة “Golden Rain Tree”.
خذل الظلام عبدالله. تفطن ليلاً أن زهرة نادرة تتفتح في الحديقة في ذلك التاريخ، فخرج يتفقدها، تعثر ووقع. ورشٌ عبدالله ومشاغب! لم يثنيه كسر وركه عن التسلل على غفلة من ولديه ليتفقد زهوراً أخرى يعرف أنها تتفتح في ذلك التاريخ أو ذاك.
جلس الجنيناتي على الكرسي المتنقل، لم يحتَج، لم يتذمر يوماً، لم يشخ عقله ولم تترهل روحه. عاش عبدالله هانئاً حتى وهو مقعد. بقي يلعب مع الأشجار وجذوعها، والزهور وألوانها، والفاكهة ومذاقها. ويخبئ تحت مكتبه سلة من أفضل فاكهة الموسم وألذها طعماً، يكافئ بها أحبابه وهو يودعهم سائلاً إياهم ألا يتأخروا في العودة. تعود إلى المدينة محصناً كأنه زرع في قلبك نبتة، بسمة، أملاً، وحباً جديداً.
لم تخذله زهرة الدم القرمزية Haemanthus Coccineus، أزهرت يوم رحيله.
مطمئناً إلى أن الحديقة ستبقى بين أيدي ولديه عروساً دائمة تغير ألوانها كل يوم وتحتفي بكل الفصول، وأنها لن تخضع لمقص أو لقانون سوى ذلك الذي يعينها على البقاء في انسجام مع النظام البيئي، أسدل الجفون من دون وصية.
أنيس في جلساته، تتعلم منه وتسمع ما لم تسمعه أذنك وقلبك من قبل. “بتتعلم من عشرة الزهرة، أكثر من ما بتتعلم من عشرة أفهم إنسان”.
سألته إذا كانت الجنينة سر سعادته الدائمة، أجابني، “الجنينة فرحي وشغفي وأسلوبي في العيش وترجمتي له. لكن منذ أن تصالح الرجل في داخلي مع المرأة التي أنا هي كذلك، وجدت سعادتي الراسخة”.
كم نحبك، كم تحبك الأرض وكم ممتنة لك العصافير! أطبقت جفنيك ولم تمت. أتقنت فن البقاء في كل زهرة وحشرة وفراشة وورقة شجر، كما أتقنت فن الخلق والحياة. إنها تحولات!