fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عثرنا على هند، فماذا عن الصغار الآخرين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتجه العالم يوماً بعد يوم للتطبيع والتأقلم مع ما يعيشه الصغار في غزة، بكونه جزءً من هذا الصراع، ونتيجةً حتميةً لا مفر منها، و يأرشف معاناتهم كحصيلة مفتوحة قابلةٍ للزيادة في كل ثانيةٍ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ عامين تماماً، في الأول من فبراير 2022، ضج العالم بأسره بحكاية “ريان” الطفل المغربي  البالغ من العمر 5 أعوام، والذي سقط أثناء لهوه في بئرٍ قرابة منزله في قرية إغران في إقليم شفشاون شمالي البلاد.

 أثارت القضية حينها تعاطفاً عالمياً ومتابعةً واسعةً من مختلف وسائل الإعلام الدولية، وتفاعل مع قصته رؤساء دول وأمراء ومشاهير في مجال الفن والرياضة، وجلس الملايين متسمرين أمام شاشاتهم لمتابعة محاولات الإنقاذ التي استمرت لأيام معدودة، قبل أن يُفجع العالم بخروج ريان ميتًاً أمام عدسات الكاميرات والأعين المترقبة وفجيعة والديه وأقاربه.

حظيت الطفلة الفلسطينية هند رجب باهتمام العالم أيضاً. حفظ المؤثرون والناشطون اسمها وقصتها وتداولوها على أمل أن يؤدي ذلك إلى إنقاذها قبل فوات الأوان، لكن لم يستطع أحد أن يحول هذا الكلام إلى فعلٍ، فالقاتل هذه المرة ليس بئرا إرتوازيا، أو وادياً سحيقاً، أو أياً من عوامل الموت الطبيعي المألوف. القاتل هو جيش إسرائيلي لم يترك حجراً ولا بشراً في قطاع غزة المنكوب إلا وفتح عليهم نيرانه.

بعد إثني عشر يوماً على فقدان أثرهم، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، العثور على جثمان هند مع 5 من أفراد عائلتها، والطاقم الطبي الذي أوكل إليه مهمة الوصول إلى هند وإنقاذها، بعد أن حوصرت وعائلتها داخل سيارتهم التي أغرقها الجيش الإسرائيلي بوابل من الرصاص، جعل إمكانية نجاةِ أي من أفرادها مستحيلًا. إلا أن هند استطاعت البقاء على قيد الحياة والاتصال بالجهات المعنية لإغاثتها، وقد أوحت إسرائيل بالأمان للمسعفين للبحث عن هند وسحبها من السيارة، قبل أن تقوم بقتلهم فور وصولهم إلى مكان الحادثة.

اثنا عشر يوماً، ونحن نناشد العالم العثور على هند، الطفلة التي لا تتجاوز أعوامها الستة، ونستغيثه أن يضع حداً لخوفها الذي شعرنا به من بعيد، في مكالمتها الهاتفية الأخيرة، وترجمته لنا بكلماتٍ خافتةٍ مرتجفة “أنا خايفة، أمانة تعالي خديني، رني عليهم يجوا ياخذوني”. 

اثنا عشر يوماً وهذه العبارة الثقيلة تنتظر من العالم أن يعطيها أذنه، وأن يحرك لأجلها ساكناً. إثنا عشر يوماً، وأكثر من أربعة أشهر، ونحن ننتظر العالم  لإنقاذ أطفالنا ونساءنا ورجالنا وأرواحنا، أطفالنا الذين يستحقون الحياة والأمان وأن لا يروا كل هذا الخوف والألم والموت الذي لا ينتهي.

إثنا عشر يومًا، وصوت هند يؤكد لنا المؤكد، ما نكتبه و ما نقوله وما نفعله، وكل صراخنا الإفتراضي العالي غير قادرٍ على إنقاذ طفلٍ من براثن الموت المحقق، ما دام العالم قرر أن موت طفلٍ إضافي في غزة، لن يشكل فارقًا في حسابات الموت المعقدة للحرب، وما دام العالم، لا يكترث فعلًا، لصورةِ طفلة صغيرةٍ، تجلس مذعورة بين جثث أقاربها، مغطاةً بدمائهم، لا ترى بعينيها سوى الخطر الداهم و فوهة البنادق ودبابة ثقيلة، كانت لحد أشهر قليلةً تراها في إحتمالين فقط، لعبةً بلاستيكيةً أو مشهداً بعيداً في نشرة الأخبار.

صفعتْ هند بوجهها الطفولي البريء العالم لبرهةٍ، وذكرته بأن في غزة أطفالٌ يموتون كل يوم بوحشية غير معقولة، أو على الأقل، طفلةٌ واحدةٌ، بإسمٍ يعرفونه وملامح راسخة في الذاكرة، تصارع الموت وحيدةً لكنها لم تقو عليه.

 أما اليوم وقد انتهى الأمر، وتحول الخبر على محركات البحث وشبكات الإنترنت، من محاولة العثور إلى العثور، فسيعود العالم إلى صمته المعهود، سينسى الباقين على قيد الحياة، المهددين بالموت أيضًا، المبتورة أطرافهم دون تخدير، المرتجفون خوفًا من هدير الطائرات، العالقون تحت الركام، وسينتظر قصة “مشوقة جديدةً”، ليترقب نهايتها المفتوحة ويتفاعل معها كما لو كانت مسرحيةً أو مشهدًا في فيلم.

ليس غريبًا على إسرائيل ما فعلته، فحرب غزة ليست إلا تجليًا واضحًا وتكثيفًا لما يمثله الاحتلال القائم على جرائم حرب موصوفة، من قتل الفلسطينيين وتهجيرهم وتعذيبهم وتجويعهم، وتحويل حياتهم إلى سلسلة من العذابات والكوارث التي لا تطاق، وهذا ليس تاريخًا نقرأه في الكتب والمدونات ونشرات الأخبار، إنما هو صور ومشاهد موثقة، نتابعها بأم أعيننا على مدار سنوات طويلة، ونراه اليوم، ويراه العالم بأسره، بالصوت والصورة وأحدث التقنيات، أكثر من أي وقتٍ مضى، وبما لا يمكن التشكيك به.

لم تنسى والدة هند المفجوعة بصغيرتها أطفال غزة، فخاطبت العالم على لسانهم :” أنقذونا.. كل أطفال غزة ينادون: أنقذونا من الظلم والقتل والجوع”. لعل العالم ينصت جيدًا إلى هذا النداء الإستباقي، قبل فوات الأوان، ولعل كل طفلٍ يتحول إلى قضية، فيضج العالم بالصغار أكثر من غيرهم.

طفولةٌ مستباحة

أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن التقديرات تشير إلى أن 17 ألف طفل فلسطيني في غزة فقدوا ذويهم أو انفصلوا عن عائلاتهم، بينهم أطفال لم يبلغوا سن إدراك أسمائهم أو معرفة أفراد عائلاتهم، وآخرون مسؤولون اليوم بشكل مباشر عن رعاية إخوتهم الأصغر سنًا. وقد انتجت حرب غزة في قاموس اللغة مصطلحًا جديدًا، يختصر ب (WCNSF)، أي “طفل جريح ولا عائلة على قيد الحياة لرعايته”. بالإضافة إلى أن حوالي ألف طفل بترت أطرافهم، في عمليات جراحية مستعجلة دون تخدير أو رعاية طبية كافية لتخفيف هذا الألم والفقد الذي سيحمل الطفل تبعاته إلى آخر يومٍ في حياته.

لا تقتصر معاناة أطفال غزة على ما ذُكر، فالناجون من كل هذا، يعانون من اضطرابات نفسية حادة كالقلق والعجز عن النوم وتناول الطعام، ويمرون بنوبات انفعالية عند سماع دوي إنفجار أو هدير الطائرات، ناهيك عن حرمانهم من كافة مقومات الطفولة السليمة كالغذاء والتعليم والرعاية  الأسرية والصحية اللازمة.

تُعد مرحلة الطفولة هي الأهم في تكوين شخصية الفرد وملامحه مستقبله، ويستلزم تخطي صدمات الطفولة سنوات طويلة من حياة الإنسان، ومع غياب العوامل المساعدة، يحمل الطفل معاناته وأوجاعه  السابقة إلى الممات، دون أن تتاح له فرصة معرفة شكل الحياة المفترضة لولا خوضه لهذه التجارب، الحياة الهادئة الأمنة الخالية من الألم والقلق وصوت الرصاص وموت الأقرباء.

يتجه العالم يوماً بعد يوم للتطبيع والتأقلم مع ما يعيشه الصغار في غزة، بكونه جزءً من هذا الصراع، ونتيجةً حتميةً لا مفر منها، و يأرشف معاناتهم كحصيلة مفتوحة قابلةٍ للزيادة في كل ثانيةٍ، دون أن يأخذ بعين الإعتبار، أن هذه الحرب قضت تماماً على معنى الطفولة البريئة في غزة، وأن هذا الألم سيظل محفوراً في ذاكرة ونشأة الأجيال القادمة، ولا سبيل للحد من ذلك إلا بوقف هذه الحرب ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. 

الموت الجماعي

طفلٌ ينام على صدر والدته المغطاة بكفنٍ أبيض، وسيدةٌ تحمل طفلها بين ذراعيها جثة هامدة ملفوفةً بقماشة بيضاء، صورتان لإثنين فقط من ضحايا العنف الأخير،، صورتان تجسدان فاجعة الخسارة الفردية حيث يفقد الطفل عائلته، أو تفجع العائلة بطفلها، وقد صدرت اسرائيل شكلًا آخرًا من الموت في غزة، حيث يموت الجميع دفعةً واحدة، فلا تبكي الأم صغارها، ولا يعيش الطفل حياته مكلوما بفقدان عائلته التي كان يحتمي بكنفها، من بطش الحياة والاحتلال والحصار.

إحدى عشر ألف طفلًا، ومئات العائلات التي مُحيت من السجل المدني بعد أن مات جميع أفرادها، وأطفالٌ ينامون في المكان نفسه كي ينجو الجميع أو يموت الجميع سويًا، ورجلٌ عاد حاملًا الخبز ليجد أطفاله ميتين تحت الركام، كلها مشاهد من مشاهد كثيرة للموت الثنائي والجماعي الذي جعلته حرب غزة مشهداً عادياً، حيث تلتحم الأرواح الصغيرة والكبيرة وتصعد إلى راحتها الأبدية، في عالمٍ يسوده الصمت والوحشية والانصياع للواقع المجحف.

عثرنا على هند، وقرأنا كل الكتب التي تقول بما لا شك فيه، أن الأطفال لا ينبغي أن يكونوا وقودًا للحروب، وأن هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشها أبناء غزة، سيسدد فاتورتها الأكبر الصغار، من جيوبهم الصغيرة المثقوبة بالموت والخسارة والخوف، ولم يتبقى لدينا سوى أن نسأل العالم: متى ستحرك ساكنًا، من أجل الطفولة، لا من أجل شيء آخر؟

14.02.2024
زمن القراءة: 5 minutes

يتجه العالم يوماً بعد يوم للتطبيع والتأقلم مع ما يعيشه الصغار في غزة، بكونه جزءً من هذا الصراع، ونتيجةً حتميةً لا مفر منها، و يأرشف معاناتهم كحصيلة مفتوحة قابلةٍ للزيادة في كل ثانيةٍ.

منذ عامين تماماً، في الأول من فبراير 2022، ضج العالم بأسره بحكاية “ريان” الطفل المغربي  البالغ من العمر 5 أعوام، والذي سقط أثناء لهوه في بئرٍ قرابة منزله في قرية إغران في إقليم شفشاون شمالي البلاد.

 أثارت القضية حينها تعاطفاً عالمياً ومتابعةً واسعةً من مختلف وسائل الإعلام الدولية، وتفاعل مع قصته رؤساء دول وأمراء ومشاهير في مجال الفن والرياضة، وجلس الملايين متسمرين أمام شاشاتهم لمتابعة محاولات الإنقاذ التي استمرت لأيام معدودة، قبل أن يُفجع العالم بخروج ريان ميتًاً أمام عدسات الكاميرات والأعين المترقبة وفجيعة والديه وأقاربه.

حظيت الطفلة الفلسطينية هند رجب باهتمام العالم أيضاً. حفظ المؤثرون والناشطون اسمها وقصتها وتداولوها على أمل أن يؤدي ذلك إلى إنقاذها قبل فوات الأوان، لكن لم يستطع أحد أن يحول هذا الكلام إلى فعلٍ، فالقاتل هذه المرة ليس بئرا إرتوازيا، أو وادياً سحيقاً، أو أياً من عوامل الموت الطبيعي المألوف. القاتل هو جيش إسرائيلي لم يترك حجراً ولا بشراً في قطاع غزة المنكوب إلا وفتح عليهم نيرانه.

بعد إثني عشر يوماً على فقدان أثرهم، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، العثور على جثمان هند مع 5 من أفراد عائلتها، والطاقم الطبي الذي أوكل إليه مهمة الوصول إلى هند وإنقاذها، بعد أن حوصرت وعائلتها داخل سيارتهم التي أغرقها الجيش الإسرائيلي بوابل من الرصاص، جعل إمكانية نجاةِ أي من أفرادها مستحيلًا. إلا أن هند استطاعت البقاء على قيد الحياة والاتصال بالجهات المعنية لإغاثتها، وقد أوحت إسرائيل بالأمان للمسعفين للبحث عن هند وسحبها من السيارة، قبل أن تقوم بقتلهم فور وصولهم إلى مكان الحادثة.

اثنا عشر يوماً، ونحن نناشد العالم العثور على هند، الطفلة التي لا تتجاوز أعوامها الستة، ونستغيثه أن يضع حداً لخوفها الذي شعرنا به من بعيد، في مكالمتها الهاتفية الأخيرة، وترجمته لنا بكلماتٍ خافتةٍ مرتجفة “أنا خايفة، أمانة تعالي خديني، رني عليهم يجوا ياخذوني”. 

اثنا عشر يوماً وهذه العبارة الثقيلة تنتظر من العالم أن يعطيها أذنه، وأن يحرك لأجلها ساكناً. إثنا عشر يوماً، وأكثر من أربعة أشهر، ونحن ننتظر العالم  لإنقاذ أطفالنا ونساءنا ورجالنا وأرواحنا، أطفالنا الذين يستحقون الحياة والأمان وأن لا يروا كل هذا الخوف والألم والموت الذي لا ينتهي.

إثنا عشر يومًا، وصوت هند يؤكد لنا المؤكد، ما نكتبه و ما نقوله وما نفعله، وكل صراخنا الإفتراضي العالي غير قادرٍ على إنقاذ طفلٍ من براثن الموت المحقق، ما دام العالم قرر أن موت طفلٍ إضافي في غزة، لن يشكل فارقًا في حسابات الموت المعقدة للحرب، وما دام العالم، لا يكترث فعلًا، لصورةِ طفلة صغيرةٍ، تجلس مذعورة بين جثث أقاربها، مغطاةً بدمائهم، لا ترى بعينيها سوى الخطر الداهم و فوهة البنادق ودبابة ثقيلة، كانت لحد أشهر قليلةً تراها في إحتمالين فقط، لعبةً بلاستيكيةً أو مشهداً بعيداً في نشرة الأخبار.

صفعتْ هند بوجهها الطفولي البريء العالم لبرهةٍ، وذكرته بأن في غزة أطفالٌ يموتون كل يوم بوحشية غير معقولة، أو على الأقل، طفلةٌ واحدةٌ، بإسمٍ يعرفونه وملامح راسخة في الذاكرة، تصارع الموت وحيدةً لكنها لم تقو عليه.

 أما اليوم وقد انتهى الأمر، وتحول الخبر على محركات البحث وشبكات الإنترنت، من محاولة العثور إلى العثور، فسيعود العالم إلى صمته المعهود، سينسى الباقين على قيد الحياة، المهددين بالموت أيضًا، المبتورة أطرافهم دون تخدير، المرتجفون خوفًا من هدير الطائرات، العالقون تحت الركام، وسينتظر قصة “مشوقة جديدةً”، ليترقب نهايتها المفتوحة ويتفاعل معها كما لو كانت مسرحيةً أو مشهدًا في فيلم.

ليس غريبًا على إسرائيل ما فعلته، فحرب غزة ليست إلا تجليًا واضحًا وتكثيفًا لما يمثله الاحتلال القائم على جرائم حرب موصوفة، من قتل الفلسطينيين وتهجيرهم وتعذيبهم وتجويعهم، وتحويل حياتهم إلى سلسلة من العذابات والكوارث التي لا تطاق، وهذا ليس تاريخًا نقرأه في الكتب والمدونات ونشرات الأخبار، إنما هو صور ومشاهد موثقة، نتابعها بأم أعيننا على مدار سنوات طويلة، ونراه اليوم، ويراه العالم بأسره، بالصوت والصورة وأحدث التقنيات، أكثر من أي وقتٍ مضى، وبما لا يمكن التشكيك به.

لم تنسى والدة هند المفجوعة بصغيرتها أطفال غزة، فخاطبت العالم على لسانهم :” أنقذونا.. كل أطفال غزة ينادون: أنقذونا من الظلم والقتل والجوع”. لعل العالم ينصت جيدًا إلى هذا النداء الإستباقي، قبل فوات الأوان، ولعل كل طفلٍ يتحول إلى قضية، فيضج العالم بالصغار أكثر من غيرهم.

طفولةٌ مستباحة

أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن التقديرات تشير إلى أن 17 ألف طفل فلسطيني في غزة فقدوا ذويهم أو انفصلوا عن عائلاتهم، بينهم أطفال لم يبلغوا سن إدراك أسمائهم أو معرفة أفراد عائلاتهم، وآخرون مسؤولون اليوم بشكل مباشر عن رعاية إخوتهم الأصغر سنًا. وقد انتجت حرب غزة في قاموس اللغة مصطلحًا جديدًا، يختصر ب (WCNSF)، أي “طفل جريح ولا عائلة على قيد الحياة لرعايته”. بالإضافة إلى أن حوالي ألف طفل بترت أطرافهم، في عمليات جراحية مستعجلة دون تخدير أو رعاية طبية كافية لتخفيف هذا الألم والفقد الذي سيحمل الطفل تبعاته إلى آخر يومٍ في حياته.

لا تقتصر معاناة أطفال غزة على ما ذُكر، فالناجون من كل هذا، يعانون من اضطرابات نفسية حادة كالقلق والعجز عن النوم وتناول الطعام، ويمرون بنوبات انفعالية عند سماع دوي إنفجار أو هدير الطائرات، ناهيك عن حرمانهم من كافة مقومات الطفولة السليمة كالغذاء والتعليم والرعاية  الأسرية والصحية اللازمة.

تُعد مرحلة الطفولة هي الأهم في تكوين شخصية الفرد وملامحه مستقبله، ويستلزم تخطي صدمات الطفولة سنوات طويلة من حياة الإنسان، ومع غياب العوامل المساعدة، يحمل الطفل معاناته وأوجاعه  السابقة إلى الممات، دون أن تتاح له فرصة معرفة شكل الحياة المفترضة لولا خوضه لهذه التجارب، الحياة الهادئة الأمنة الخالية من الألم والقلق وصوت الرصاص وموت الأقرباء.

يتجه العالم يوماً بعد يوم للتطبيع والتأقلم مع ما يعيشه الصغار في غزة، بكونه جزءً من هذا الصراع، ونتيجةً حتميةً لا مفر منها، و يأرشف معاناتهم كحصيلة مفتوحة قابلةٍ للزيادة في كل ثانيةٍ، دون أن يأخذ بعين الإعتبار، أن هذه الحرب قضت تماماً على معنى الطفولة البريئة في غزة، وأن هذا الألم سيظل محفوراً في ذاكرة ونشأة الأجيال القادمة، ولا سبيل للحد من ذلك إلا بوقف هذه الحرب ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. 

الموت الجماعي

طفلٌ ينام على صدر والدته المغطاة بكفنٍ أبيض، وسيدةٌ تحمل طفلها بين ذراعيها جثة هامدة ملفوفةً بقماشة بيضاء، صورتان لإثنين فقط من ضحايا العنف الأخير،، صورتان تجسدان فاجعة الخسارة الفردية حيث يفقد الطفل عائلته، أو تفجع العائلة بطفلها، وقد صدرت اسرائيل شكلًا آخرًا من الموت في غزة، حيث يموت الجميع دفعةً واحدة، فلا تبكي الأم صغارها، ولا يعيش الطفل حياته مكلوما بفقدان عائلته التي كان يحتمي بكنفها، من بطش الحياة والاحتلال والحصار.

إحدى عشر ألف طفلًا، ومئات العائلات التي مُحيت من السجل المدني بعد أن مات جميع أفرادها، وأطفالٌ ينامون في المكان نفسه كي ينجو الجميع أو يموت الجميع سويًا، ورجلٌ عاد حاملًا الخبز ليجد أطفاله ميتين تحت الركام، كلها مشاهد من مشاهد كثيرة للموت الثنائي والجماعي الذي جعلته حرب غزة مشهداً عادياً، حيث تلتحم الأرواح الصغيرة والكبيرة وتصعد إلى راحتها الأبدية، في عالمٍ يسوده الصمت والوحشية والانصياع للواقع المجحف.

عثرنا على هند، وقرأنا كل الكتب التي تقول بما لا شك فيه، أن الأطفال لا ينبغي أن يكونوا وقودًا للحروب، وأن هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشها أبناء غزة، سيسدد فاتورتها الأكبر الصغار، من جيوبهم الصغيرة المثقوبة بالموت والخسارة والخوف، ولم يتبقى لدينا سوى أن نسأل العالم: متى ستحرك ساكنًا، من أجل الطفولة، لا من أجل شيء آخر؟