سيشهد الشهر القادم الذكرى الخامسة والعشرين لأولى اتفاقيات أوسلو، بينما في وقت لاحق سيحتفل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بمرور عقد على وجوده في السلطة، وهي مواعيد تمنحنا الفرصة كي نتحقّق من مسألة التفكير من داخل الصندوق.
تتمثّل النظرة التقليدية في أن هذه الأرض تعجّ بالمستوطنين، ما جعل اليمين يستغل بقاءه فترة طويلة في السلطة لتعميق قبضته، كما تسبّب في احتضار حلّ الدولتين. لكن هل يُعدّ هذا مناسباً؟
لمعالجة هذه القضية، حلّلت صحيفة هآرتس انتشار السكّان المستوطنين في الضفة الغربية، وأجرت مقارنة بين أرقام المستوطنين في المراكز الاستراتيجية عشية صعود نتنياهو إلى السلطة بالأرقام الحالية. تمحور الاستقصاء حول سؤالين:
1) كم عدد المستوطنين الذين جرى إضافتهم إلى المستوطنات المعزولة على مدار العقد المنصرم؟
2) ما هو الحد الأدنى لعدد المستوطنين الذين يجب إخلاؤهم من أجل تقسيم الأرض ورسم الحدود بين إسرائيل وفلسطين؟
يشير التصوّر التقليدي عن اليمين إلى أن نصف مليون مستوطن قد خلقوا وضعاً لا رجعة عنه وأن تقسيم فلسطين التاريخية وإنشاء دولة فلسطينية لم يعد قابلاً للتحقيق. في كثير من الأحيان، بدا هذا الشعار وكأن العديد من الجماعات على اليسار بدأت في تبنّي ذلك.
قبل أربعة أشهر فقط، كتب الروائي إبراهيم جبريل يشوع في صحيفة هآرتس “فوق كل شيء، يتلاشى حلّ الدولتين بسبب التوسّع المستمر في المستوطنات في منطقة يهودا والسامرة. بالفعل، وفقاً للعديد من الخبراء المطّلعين على الواقع الديموغرافي والجغرافي، لم يعد من الممكن تقسيم أرض إسرائيل إلى دولتين منفصلتين ذاتا سيادة”.
لا يُعتبر يشوع الوحيد الذي تبنّى هذه الفكرة. أُصيب كاتب المقالات العمودية في صحيفة هآرتس جدعون ليفي بالدهشة من عدد المستوطنين، بغض النظر عن أماكن تركّزهم. ففي مقالة افتتاحية في أكتوبر عام 2015، قال إن حل الدولتين “قد فُقِد. كان من الواجب على هؤلاء الذين أرادوا دولة يهودية أن ينفّذوا هذا الحل عندما كان ذلك ممكناً. وفي الوقت الحالي، يجب على هؤلاء الذين بدأوا ذلك، بشكل متعمّد أو دون فعل أي شيء، أن ينظروا مباشرة وبصدق إلى الواقع الجديد”.
أذرع طويلة
لكن يشوع وليفي مخطئين. لننظر إلى الخريطة. اشتملت معظم الاقتراحات الإسرائيلية المتعلّقة بحل النزاع على الأذرع الإقليمية التي تمتد عميقاً في الأجزاء الفلسطينية من الضفة الغربية، ممّا يستلزم ضمّ الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل. ويوجد اثنان من هذه الأذرع في وسط البلد، ذراع لأرئيل وذراع آخر لكدوميم، عبر قرنية شمرون. ومن القدس تمتد ذراع إلى الشرق نحو مستوطنة معاليه أدوميم، وإلى الجنوب تجاه مستوطنة جوش عتصيون وإلى الشمال نحو مستوطنة بيت إيل.
في قمّة كامب دايفيد عام 2000، اقترحت إسرائيل مدّ ذراع طويل من بيسان إلى القدس ليبقى وادي الأردن داخل إسرائيل. وكانت هناك فكرة أخرى تتمثل في استئجار امتداد من الأرض لفترة طويلة والتي من الممكن أن تتضمّن العديد من مستوطنات مرتفعات الخليل ومستوطنة كريات أربع.
فإذا جرى اقتطاع هذه الأذرع، فإن ما يبقى يمثل المنطقة الفلسطينية التي تتمتّع بالوحدة أو الاتصال الإقليمي ويتضمّن 33 مستوطنة معزولة. وجرى تسجيل عدد سكان تلك المستوطنات، المنفصلة تماماً عن الكتل الاستيطانية، بنحو 46,000، مما يعني أنهم يمثلون 9,800 أسرة على الأكثر – وهو عدد يضاهي حي كبير في إسرائيل. وتعيش المزيد من الأسر في حي بسغات زئيف في القدس وحدها.
“لإفساد عملية التقسيم، يجب أن يزيد اليمين عدد المستوطنين الذين يعيشون في المناطق الواقعة بين المدن الفلسطينية، ممّا يحول دون وحدة الأراضي”
إن إجلاء 33 مستوطنة معزولة لن يكون كافياً للحصول على موافقة الفلسطينيين على إنهاء الصراع، وقد يدعو اتفاق الوضع النهائي إلى حلول معقدة. لكن من الممكن أن يكون ذلك كافياً لترسيم الحدود بين إسرائيل وفلسطين، سواء من جانب واحد أو من خلال اتفاقيّة لفترة محدّدة.
خلال العقد الماضي، أضعف اليمين نظام إنفاذ القانون، وحارب الإعلام وحرّض ضد اليسار والعرب، ولكن عندما يتعلّق الأمر بالاستيطان في عمق الأراضي الفلسطينية، فإنه لم يحقق أي تغيير استراتيجي. ففي الواقع، قامت حكومات نتنياهو بتوجيه الميزانيات نحو تمهيد الطرق التي ستعيق عملية التقسيم، فيما تعمل مؤسسات التخطيط من بعيد. لكن وصل معدّل النمو في المستوطنات المعزولة تحت حكم نتنياهو إلى 400 أسرة في العام – وهو رقم لا يغيّر الصفائح التكتونية.
إقرأ أيضاً: مئات المستوطنين دفنوا في أراضٍ فلسطينية خاصة
كيف يتباهى اليمين بمئات الآلاف من المستوطنين، في حين يمكن تقسيم الأرض وإجلاء 9,800 أسرة؟ هناك تفسيران لذلك. يتمثل أحدهما في أن الغالبية العُظمى من المستوطنات بُنيت بالقرب من الخط الأخضر لتوسيع أطراف المركزين الحضريين لإسرائيل، القدس وتل أبيب. وتقع التجمّعات الكبيرة للمستوطنات في شرق تل أبيب (بالقرب من الجدار العازل) وحول القدس – مستوطنة جوش عتصيون ومستوطنة معاليه أدوميم والمنطقة الواقعة على الطريق 443.
ويتمثل التفسير الثاني في أن أكبر زيادة في عدد المستوطنين كانت في أحياء القدس الشرقية وفي المدن الأرثوذوكسية المتطرّفة مثل مدينتي موديعين عيليت وبيتار عيليت المتاخمتين للخط الأخضر اللّتين ستظلان جزءاً من إسرائيل في جميع السيناريوهات، وبالتالي لا صلة لهما بمسألة التقسيم. منذ عقد مضى، توقف عدد المستوطنين في هاتين البلدتين عند 73 ألف شخص، وفي الوقت الحاضر، يتجاوز هذا العدد 130 ألف. ولا يزيد هذا أو يقلّل من الاحتمالات المتعلّقة برسم حد بين إسرائيل وفلسطين.
نمو ضئيل
لإفساد عملية التقسيم، يجب أن يزيد اليمين عدد المستوطنين الذين يعيشون في المناطق الواقعة بين المدن الفلسطينية، ممّا يحول دون وحدة الأراضي. لكن تظهر الخريطة أن الحكومات اليمينية قد تركت مناطق بأكملها خالية من المستوطنين تقريباً في كل من شمال وجنوب الضفة الغربية،.
بعد الانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية في عام 2005، تبقى فقط أربع مستوطنات في المثلّث الواقع بين جنين ونابلس وطولكرم – شافي شومرون وهرماش وإيناف وميفو دوتان. ربما توقّع البعض أن نتنياهو وحزب البيت اليهودي الذي يتزعمه نفتالي بنت يريدان تعزيز سيطرة إسرائيل في هذه المنطقة. لكن على مدار العِقْد الماضي، نمت هذه المستوطنات بأعداد ضئيلة تصل إلى 140 أسرة فقط.
كما يوجد وضع مماثل في جنوب الضفة الغربية. بين المداخل الجنوبية لبيت لحم، التي تمتد من شرق مستوطنة أفرات، والمداخل الشمالية للخليل، هناك مستوطنة واحدة فقط، وهي مستوطنة كرمي تسور. ففي السنوات العشر الأخيرة، نمت هذه المستوطنة الاستراتيجية بنحو 80 عائلة فقط.
هناك أسلوب آخر لإعاقة عملية التقسيم يتمثل في الاستيلاء على المرتفعات المحيطة بفلسطين الحضرية وإحاطتها بالمستوطنات اليهودية. جرى تطبيق هذا الأسلوب بشكل جزئي حول جميع المدن الكبرى في الضفة الغربية. وبالتالي تعتبر الون موريه وايتمار وبراخا من المستوطنات التي أُنشئت حول نابلس. إلى جانب الأسباب التكتيكية التي تهدف إلى تكثيف البناء فيها، كان لدى الحكومة سبباً آخراً لتطوير هذه المستوطنات: إِذْ جرى استهداف إيتمار والون موريه في اثنتين من الهجمات الإرهابية الخطيرة خلال العِقْد الماضي (مجزرة عائلة فوغيل)، عام 2011، ومقتل الزوجين هينكين، بعد أربع سنوات). يعلن نتنياهو والوزراء اليمينيون بشكل روتيني أن الرد على هذا الإرهاب سيكون بالبناء. لكن الإعلان شيء والتنفيذ شيء آخر. فعلى مدار السنوات العشر الماضية، انضمت فقط 350 عائلة جديد إلى هذه المستوطنات الثلاث.
لا تترك الخرئط والأرقام أي مجال للشك: فعندما يتعلق الأمر بالبناء في المستوطنات، يصبح نتنياهو مثل الثلاجة القديمة – التي تقوم بتجميد كل شيء تقريباً وتصدر الكثير من الضوضاء.
هذا الموضوع مترجم عن موقع صحيفة Haartez ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي.