استهدفت إسرائيل يوم الأحد في السابع من هذا الشهر، كلاً من الصحافيين مصطفى ثريا وحمزة وائل الدحدوح أثناء عملهما الصحافي في منطقة رفح غرب قطاع غزة، بعد استهداف السيارة التي كانت تقلّهما بصاروخ من مسيّرة، ليرتفع بذلك عدد ضحايا العاملين في القطاع الإعلامي إلى 109 صحافيين في غزة، بالإضافة الى كل من المراسلة فرح عمر والمصوّرين ربيع المعماري وعصام عبدالله في جنوب لبنان.
هذه الحرب هي الأعنف على الصحافيين حسب لجنة حماية الصحافيين الدوليّة، وعلى رغم المناشدات الدولية لحماية الصحافيين، وكل التقارير التي أكدت أن إسرائيل تعمدت قصف الصحافيين بشكل مباشر، ما يقع تحت خانة جرائم الحرب، لا تزال إسرائيل مستمرة في استهدافاتها، في نية واضحة بحجب كل من ينقل وقائع المقتلة التي ترتكبها داخل القطاع، وما يتعرض له أهل غزة من عدوان يرتقي إلى “إبادة جماعية” دخلت شهرها الرابع على التوالي.
استهداف الصحافيين المحليين يأتي في ظل عدم وجود صحافة عالمية تغطي مجريات الحرب من داخل القطاع، إذ تمنع إسرائيل دخول الصحافيين إلى القطاع المحاصر، كما تجاهلت رسالة موقعة من 11 مؤسسة إعلامية عالميّة تطالب حكومتي مصر وإسرائيل بالسماح لمراسليها بدخول القطاع لأن ” التقارير الوحيدة الموثوقة جاءت من عدد صغير من الصحافيين الشجعان بشكل لا يصدق الذين يعملون على توثيق الأحداث هناك”.
وفي ظل انحياز وسائل الإعلام الغربية الى الرواية الإسرائيلية وتبنيها، والمساهمة في ترويج وتثبيت كل ما يتم تداوله أو نقله من وسائل الإعلام الإسرائيلية، وإقصاء ومحاسبة وطرد كل من يتجرأ من موظفيها على تكذيب الدعاية الإسرائيلية واتهامه بـ”معاداة السامية” و”دعم الإرهاب”، فضل كثيرون الصمت أو الاستقالة رفضاً للقيود المفروضة عليهم واحتجاجاً على سياساتها.
وائل الدحدوح: قبل الحرب وبعدها
يتساءل كثيرون، كيف يقف وائل الدحدوح بهذه الصلابة أمام الكاميرا لمرتين، لاستكمال عمله الصحافي في تغطية الحرب، بعدما فقد أولاده وعائلته، وابنه البكر، والسؤال مشروع، أمام ما نعرفه عن أنفسنا، التي ستعجز غالباً، عن الوقوف في مشهدٍ مشابه، وأمام أننا لا نجرؤ حتى على تخيل أنفسنا في موقف أي واحدٍ ممن يعيشون حرب غزة، فما بالنا بأن يطرح الصحافي منا على نفسه سؤالًا، ماذا لو وقعت الحرب هنا، وفقدت معظم أو كل أفراد عائلتي في قصف إسرائيلي، هل سأقف أمام الكاميرا لاستكمال عملي في نقل الرسالة؟
الإجابة على السؤال تأتي بالقول إن الحرب لا تغير النفس البشرية، إنما هي اختبار حقيقي لها، وتكشفٌ واضحٌ لشخصية الفرد قبلها، وتموضع أكبر للمقاتلين فيها، فوائل، المولود في حي الزيتون، أقدم أحياء غزة، والذي سجنه الاحتلال لسبع سنوات في شبابه، حصل فيها على شهادته الثانوية، اختار الصحافة لفضح الاحتلال ومواجهته، وبدأ العمل فيها فيما كان عدد الصحافيين في غزة لا يتجاوز أصابع اليدين.
كرس الدحدوح حياته المهنية بكاملها لتغطية انتفاضة الأقصى وحروب غزة وتبعات الحصار الإسرائيلي على القطاع في الأيام العادية، لذا فهو يعرف إسرائيل جيداً، ويعرف أنها تريد كسره والانتقام منه بقتل عائلته، لذا يقف أمامها مجدداً، فوق جراحه وخساراته، ليخبر عنها العالم، بما فعلته به، وبما تفعله بأهالي غزة جميعاً.
استهداف الصحافيين المحليين يأتي في ظل عدم وجود صحافة عالمية تغطي مجريات الحرب من داخل القطاع، إذ تمنع إسرائيل دخول الصحافيين إلى القطاع المحاصر، كما تجاهلت رسالة موقعة من 11 مؤسسة إعلامية عالميّة تطالب حكومتي مصر وإسرائيل بالسماح لمراسليها بدخول القطاع.
غزة كما هي
ساهم صحافيو غزة، المستقلون منهم والعاملون في وسائل إعلام محلية ودولية، في دحض وتكذيب الرواية الإسرائيلية في مواضع عدة، لا سيما تلك المتعلقة بوجود مقرات عسكرية داخل المنشآت المدنية، أو استخدام مقاتلي “حماس” لها كغطاء لعملياتها القتالية، أو استخدام المدنيين العزل كدروع بشرية.
كذلك، ساهم ما نقلته عدسات الكاميرات في غزة على توثيق انتهاكات الجيش الإسرائيلي والتأكيد على أنها جرائم حرب موصوفة خلال الغزو البري، من استهداف للنازحين في ممرات صُنفت بالآمنة، وإعدامات ميدانية، وتنكيل بالجثث عبر دهسها بالجرافات، وعمليات قنص، ومهاجمة مراكز إيواء ومستشفيات واستهداف النازحين بشكل مباشر.
ويمكن، من خلال جولة بسيطة على حساب أحد الصحافيين على “إنستغرام”، رؤية بالعين المجردة، فظاعة ما يمارسه الجيش الإسرائيلي بحق أهالي غزة في تعمدٍ واضح، ضمن ما يسميه “حربه الضرورية في دفاعه عن نفسه”، وسعيه الحريص إلى القضاء على “حماس” وحماية المدنيين الفلسطينيين.
من جهة أخرى، استطاعت صحافة غزة أن تكشف للعالم مأساوية الوضع الإنساني في غزة، فلا شيء يوصف المجاعة كمقطع مصور لطفلة تلعق بقايا الطعام من وعاء فارغٍ في مركز إيواء، ولا شيء يعبر عن انهيار المنظومة الطبية في القطاع كمشهد طبيبٍ ينظر إلى طفله وهو ينازع على أرض المستشفى، وهو وجميع من حوله غير قادرين على أي مساعدة طبية لمحاولة إنقاذ حياته، بينما يحاوطهم في الصورة عدد هائل من الجرحى الغارقين بدمائهم، وأطباء في حيرةٍ إلى أين يذهبون أولاً، وماذا بوسعهم أمام هذا النقص في المعدات والكوادر الطبية.
استطاع، كل واحدٍ منهم، بقصته الشخصية التي كان للحرب أثر بالغٌ عليها، أن يجسد ويعكس صورة الآلاف من أهالي غزة، ممن لا يمتلكون منبراً لروايتها، وتحول كل واحدٍ منهم إلى نموذج حي، يقاس على اسمه ما فعلته إسرائيل خلال حربها على غزة.
وائل الدحدوح اليوم، هو ألف رجلٍ في غزة، فقد معظم أفراد عائلته، ومؤمن الشرافي هو ألف شابٍ فقد والديه وأشقاءه وعدداً من أفراد عائلته، والصحافية حنين القشطان هي ألف شابة قتلتها إسرائيل مع عائلتها في منزلها، وبيسان هي آلاف النازحين ممن ينامون في خيم بلاستيكية لا تقيهم البرد ومطر الشتاء، في أسوأ الظروف وأحلكها، ولا يجدون مهرباً من الموت الذي يلاحقهم من مكانٍ إلى آخر، ومعتز هو ألف شابٍ قضت الحرب على أحلامه ورأى بعينيه كل ويلاتها.
عن اليأس والسعي الى النجاة
في الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مصور لرجلٍ يبحث عن ناجين فوق ركام مبنى تعرض للقصف منذ فترة قصيرة، وهو يصرخ في وجه شابٍ يصور موقع سقوط الصاروخ ليسأله: ” لمين قاعد بتصور؟”، وهو سؤالٌ لا ينتظر سائله إجابة عنه، إنما هو يعبر عن خيبة الغزاويين ويأسهم من هذا العالم الذي يقف صامتاً أمام هذه الصور ولا يحرك ساكناً من أجلها.
تكررت هذه المشهدية مرات عدة، حينما خلع صحافيون ستراتهم وخوذهم على الهواء مباشرةً، أمام جثامين زملائهم، وأمام مجازر لا يستوعب العقل البشري أنها تحدث أمامه اليوم، ويتعامل معها العالم الخارجي كضررٍ جانبي لمعركة عسكرية. وعبر عنها الصحافي أنس النجار، الذي أعلن عقب استهداف الدحدوح، اعتزاله العمل الصحافي، بحثاً عن الأمان مع عائلته، والذي هو خيرٌ له من البحث عن خبرٍ وإيصاله إلى “عالمٍ لا يعرف معنى الإحساس ولا الإنسانية”.
وبين استكمال التغطية واعتزالها في هذه الحرب “الهوجاء” على حد قول أنس، يعود القرار إلى الصحافي نفسه، الذي هو أدرى ألف مرةٍ من العالم المتفرج، بما ينبغي قوله وفعله في هذه الحرب، لا سيما أن العالم الذي يريد الصورة، غير قادرٍ على تغييرها، إنما يريدها ليراها فقط، ولعل هذه الإشكالية عبرت عنها تلك السيدة التي صرخت أمام عدسات الكاميرا في مركز الإيواء قائلةً: “احنا مش فرجة للعالم، ما بدناش حد يصورنا في غزة”.
التوثيق للمحاسبة
استطاعت الصور والمقاطع المصورة التي خرجت من غزة أن تزعزع التأييد الغربي الشعبي لإسرائيل، فقد رأى كثيرون للمرة الأولى مشاهد سبق لنا كشعوب المنطقة أن رأيناها وعرفناها واختبرنا ما يشابهها، في صراعنا الطويل مع إسرائيل، فخرجت مسيرات حاشدة للضغط على الحكومات لوقف دعمها إسرائيل في حربها، وللمطالبة بوقفٍ عاجلٍ لإطلاق النار في غزة. واتخذ ناشطون خطواتٍ تصعيدية كالتوجه إلى مصانع الأسلحة ومحاولة عرقلة إرسال شحنات إلى إسرائيل، وغيرها من إجراءات لم تثمر حتى اليوم أي تغيير حقيقي في مجريات الحرب.
كما انتشرت مقاطع مصوّرة لمحتجين يواجهون مسؤولين سياسيين بالصور والفيديوات التي شاهدوها على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي، ويسألونهم عن دورهم في وقف هذه الجرائم، كونهم يمثلونهم في موقع المسؤولية. وقد أكد كثيرون أنهم سيأخذون بالاعتبار مجريات هذه الحرب لتحديد خياراتهم السياسية مستقبلاً.
وضعت حرب غزة العالم أمام اختبار إنساني في بدايتها، ومع مرور الوقت، واتساع المجال أمام كل راغبٍ في البحث أكثر ومعرفة الحقيقة، وتكشف وحشية اسرائيل بما لا يقبل ولا يمكن التشكيك فيه أو التغاضي عنه، أصبح واضحاً لكل فردٍ معني بهذه القضية، أين يجب وأين ينبغي أن يكون، وما عليه القيام به إذا ما كان صادقاً مع نفسه، ليتحول من متفرجٍ إلى مؤثرٍ فاعل، وربما، ربما، يوماً ما، ستدفع إسرائيل ثمن ما ارتكبته بحق الفلسطينيين وشعوب المنطقة، منذ الـ48 حتى حرب غزة اليوم.
إقرأوا أيضاً: