في البيت عروس وعرس!
في الحرب؟!
نعم، والدنيا حرب!
لا أعرف لمَ يصير أو كيف يصير عرس في حرب!
تابع معي هذا المشهد…
فستان أبيض تلبسه عروس طبعاً… أراك تظن أننا لا نُلبس الأبيض إلا للجثث، حتى هذا توقف منذ شهور، ومن يجد جثة يدسها في قبر، ومن لم يجد يعتبر كل الجثث لعائلته، ويزور القبور ويمشي في الطريق ويرد السلام على كل القبور، هنا حيث كانت الحديقة، وهناك حيث كان المستشفى، وهنالك حيث كانت المدرسة…!
كل شيء صار فعله ناقصاً لا فعلاً تاماً، ينام أو يصحو أو حتى يزور المدينة منذ عام!!.
العروس تقف في منتصف البيت بفستان أبيض، على جانبها الأيمن وقرب أذنها اليمنى تحديداً، تقف إحدى ساكنات البيت، عند إحصاء صفات الحضور سيقول أصحاب البيت (نازحة عنا) ستقف وتغني الزعقة أو (المهاهاة) قرب أذن العروس اليمنى تحديداً، وبصوت منخفض جداً كصوت الأذان في أذن الطفل الذي وُلد للتو، لا داعي للزعقة…
“يهاهاي وارفعي راسك يا مرفوعة الراسِ”.
_ “يهاهاي لا فيكِ عيب ولا مقال الناسِ”.
_ “يهاهاي وارفعي راسك ولعريسك قولوليو”.
_ “يهاهاي واحنا الذهب والناس لباسِ”.
وعلى جانبها الأيسر تقف إحدى خالاتها؛ والخالات هن القريبات للبنات يوم عرسهن، ستطلق زغرودة مباشرة قرب انتهاء الزعقة، وكأننا نفعل ما يحدث للمولود من دون ضجيج، قرب أذن العروس فقط، كي تحفظ ذاكرتها السمعية أن هذا حدث، أو كما تقول جدتها: “شوية تفريحة”.
عروس ذات فستان أبيض وشعر مسرح وبعض المكياج صنعت هذا بسرعة…
في الحرب!
نعم في الحرب…
عام 2021 بعد انتهاء أيام حرب كهذه لكنها أخف شراسة منها، خرجنا من أيامها ناجين، وفي اليوم الخامس من بعد انتهائها كان المشهد في مدينة غزة حرارة حزيران/ يونيو، تقترب من؟؟؟ والناس في بعض الشوارع يزيلون ركام بيوتهم، وتفتح البلدية الطرق ويمر موكب عرس من أمام هذا كله، وفي الزفة يغني المغني: “وامرق ع غزة وبوسلي رملها، أهلها نشامى ورجالها جبارة”، ويختفي الصوت ويتوقف العمال عن إزالة الركام كي يسمحوا للموكب أن يمر…!
أذكر أنني صبغت المدينة في ذهني بهذا المشهد، وكتبت:
لا وقت لأي شيء في الحياة هنا، لأننا نعيش في غزة حالة الفجعة تجاه الفرح، إننا ندخله دائماً بقلب جائع ونأكله بنهم، إذ بعد حين قد تعيد الحرب كرتها مرة أخرى.
منذ طالت أيام هذه الحرب، أسمع جملة مكررة في حديث الناس في المواصلات (الكارة، التوكتوك، السيارة، الشاحنة، وشاحنة نقل المواشي، والباص): “تخلص الحرب من هان وبعد يومين، رح تلاقي الأعراس عادت والحفلات مسكرة الشوارع؛ في إشارة إلى حفلات العرس التي تسبق العرس بيوم أو يومين، وكأن شيئاً لم يكن”.
أستغرب هذا كله، كيف يفكر الناس بشكل الحياة التي تنتقل بسرعة البرق هذه، بين موت وعرس فجأة.
أسمي الحالة هذه وبعض الصديقات بـ “مفجوعين على الحياة نحن” ما إن تسمح لنا الفرصة أن ندخل إلى فرح، ترانا ننفجر.
انتصف الأسبوع، رافقت العروس لتختار فستان العرس الأبيض، وكانت قد اشترطت “بدلة”، وهي ما تبقى أصلاً من صورة العرس في البلد. في زقاق بين شوارع ضيقة مررنا على حي قُصف بالكامل، رائحة الموت ما زالت تنتشر، وما زالت هناك جثث تحت الركام، وهو ما صار متعارف عليه، بيت مَن تحت ركامه ذاب أو تبخر، وفق ما رصد الدفاع المدني أخيراً بأن حوالى 1760 جثة في غزة تبخرت، فلم يجد الناس من أصحابه إلا البيت، الذي صار كشاهد القبر يرقد تحته خمسة، سبعة، عشرة، أو أنقذنا كل من كان وبقي طفلان أو رجل واحد.
مررنا بخيمتين على الطريق، لا ربما ثلاثة، لم أستطع أن أعد، غطاء كبير مقسم على أجزاء وهو شكل بات معروفاً أن في المكان نازحين أياً كان عددهم…
زحام سائقي العربات وأصواتهم تعلو، ونحن نمشي وكأن يوماً قبل هذا الخراب يحدث، نمشي ونغني في بالنا معاً: “تمختري يا عروس…!”، ولكن ع السكت، من دون أن يسمعنا أحد، فقط نسمع صوتاً في داخلنا ولا نسمح لشفاهنا بأن تتحرك.
الحرب
الموت
الزحام
الخوف
تجعلك خجلاً من أن ترفع صوت غنائك، قال بائع الخبز وهو ينظر إلينا: “النار مش راضية تولع، حتى النار حادة على الشهدا!”
شعرنا أنه سمع ذاك الصوت، فأنذرنا ألا نغني لعرس في حرب!
تقف العروس الآن في عرض البدلة في بيت ضيق جداً، محل فساتين العرس قُصف، واستطاع صاحب المحل أن ينقذ بعض الفساتين من تحت ركامه.
ارتدت العروس فستانها في عرض (البروفا) شيء من يوم كان تمضي العروس قبل العرس بيومين، يستقبلها المحل بصوت الأغاني، الصبايا العاملات هناك يظهرن على (سنجة عشرة) وكأنهن الحاضرات للعرس، بعد حين تدير إحداهن مؤشر جهاز الصوت تعلو زغاريد، تصفق الشاهدات المشاهدات (صديقات، بنات الحما، الأخت، الأم) وتدور العروس بفستانها في غرفة البروفا!!
هذا لم يحدث!!
لا وقت لأي شيء في الحياة هنا، لأننا نعيش في غزة حالة الفجعة تجاه الفرح، إننا ندخله دائماً بقلب جائع ونأكله بنهم، إذ بعد حين قد تعيد الحرب كرتها مرة أخرى.
دارت العروس أمام السيدة في البيت الضيق جداً، السيدة ذات الزوج المفقود، قمحية البشرة شاحبة جداً، بابتسامة شاحبة أكثر قالت للعروس: مبروك! بصوت خافت خرج مخنوقاً أكثر.
صوت ما زال يصدح في داخلنا أنا وشقيقة العروس فقط، الطريق المزدحم بالحرب لا يتسع لأكثر من هذا!
“تمختري يا عروس…!”.
اهتزت الأرض تحتنا وسمعنا صوت انفجار بعيد عن مكان الفساتين أو مكان مرورنا، لكنه يبدو أنه قريب من بيت العروس.
نادت سيدة أخرى على حفيدها بلهفة الخوف: “علي، تعال هنا، ما تروح ع الشارع صوت الانفجار بيخوف!”.
هذا الذي ظل لي بعد أمه وأبيه… ومضت تشك الإبرة في فستان عرس آخر، تجري بضع تعديلات طلبتها عروس أخرى.
غمزنا بعضنا بعضاً وأشرنا إلى الصوت الذي في داخلنا أن يتوقف عن الغناء في بيت فساتين العرس أيضاً.
ففي بيت الفساتين حزنُ!
مضينا ننتظر اليومين المتبقيين لموعد العرس، تجهزنا في البيت لأن نشدو صوت فرح من بعيد. فالعروس مضى على خطبتها ما يقارب السنتين منذ كانون الثاني/ يناير 2023. قررت وعريسها العرس في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه، لكن الحرب استعرت، أجّلا العرس، حتى تنهي الحرب مهمتها بالقتل والحزن.
الحرب لم تنتهِ
وبيت الزواج صار جاهزاً، وقد يخسرانه في أية لحظة، مثلما حدث مع كل الذين سبقوهما.
قتلت الحرب أبناء العائلة، وبيوت العائلة، ودمرت محلات فساتين العرس، وصارت قاعات الأعراس بيوت نزوح، واكتظت بيوت الأعراس بالنازحين.
وانتظرا، حتى ينقضي هذا الحزن عن عائلتيهما.
لكن الحرب لم تنتهِ، بل لا تريد أن تنتهي.
والعرس ما زال ينتظر… بالنهاية سيمسك العريس بيد العروس نحو بيت العرس، الفارق أنه لن يحدث عرس!
بلا زفة، بلا ضجة، بلا ليالي عرس ثلاث، واحدة لأم العروس وأخريان لأم العريس، بلا حمام عريس، بلا بروفات فساتين عرس، بلا ليالي السمر قبل العرس، بلا صندوق عروس هدية أهل العريس للعروس ليلة حنتها.
تنازل العرس عن كل مظاهره، واكتفى بمشهد عروس تقف في منتصف البيت بفستان أبيض على جانبها الأيمن ستقف (النازحة) وعلى جانبها الأيسر خالتها، ومن دون ضجيج، واحدة ستردد المهاهاة، والأخرى ستزغرد، لكن بصوت قرب أذنها فقط، لا داعي لأن يُسمع الصوت خارج الباب!
ظهر اليوم الذي سبق موعد العرس، أسطوانة إخلاء للبيت وللمربع السكني كله، تجاهلنا ذلك كي نتمسك ببعض الحجج التي لن يكسرها القدر، دعونا نتمم العرس البسيط هذا فقط، أيهون على القدر أن يكسر هذه الصورة، عروس بدفي منتصف البيت تقف بفستان أبيض، واحدة عند أذنها اليمنى تزعق، وأخرى عند الأذن اليسرى تزغرد؟
لقد هان هذا على القدر فعلاً، فقتلت الحرب بيتاً في الحي، ومن عائلة العروس، وقصفوا البيوت القريبة والطريق في لحظة واحدة، وبعد إشارة الإخلاء بنصف ساعة فقط.
افترق كل من في البيت، خمس عائلات كنا قد عدنا في بداية الأسبوع، من أصل ست عائلات، بعدما فقدنا الأمل في إيجاد مأوى، وقبل أن ينتهي الأسبوع ويتم العرس، جددنا النزوح والإخلاء، وقبل أن يتم العرس افترقنا…!
العروس وأهلها صاروا في بيت العريس، كنازحة دخلته لا كعروس…!
والبقية تفرقوا في بيوت أخرى.
يوم العرس المحدد تحول المشهد من عروس بفستان أبيض، على جانبها الأيمن تقف النازحة تغني (المهاهاة) وعلى جانبها الأيسر خالتها تقف لتزغرد.
ارتدت العروس فستاناً أبيض بشعر مسرح، وبعض المكياج وجلست على كرسي في بيت الزوجية، الذي دخلته كنازحة، وأمام الحاضرين من أهل العريس جلس العريس بجوارها، وصار العرس ع السكت….!
يقال وفق بعض الإحصائيات إن ثلاثة آلاف زواج حدث خلال شهر في غزة، لكل زواج حكايته وحالته الاضطرارية.
ففي حالة البحث الاجتماعي يقال أيضاً إن في حالات الكوارث والحروب تصير العملية الجنسية الرفاه الوحيد المتوفر في المجتمعات، التي تعتمد في صراعها على التكاثر.
وبعيداً عمن يرى في ذلك واقعاً رومانسياً خالصاً بأن الحب هو الدافع، أخبرك بكل تجرد، أنه لا وقت ولا رفاه لطقوس الحب في الحرب، فكل ما يحدث هو فعل الاضطرار الذي أوجد غزة في حالة اسمها “مفجوعين نحو الحياة”…
أغسطس 2024
فصول الدهشة ومحاولات النجاة.