fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عرس قرقوش وجحيم أقليات سهل نينوى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

العرس الذي تحوّل إلى “محرقة” أصاب فئة ضعيفة لا تقوى على محاسبة “الأكثريات الحاكمة”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليس قدراً ما أصاب المُحتفلين بالزفاف في بلدة قرقوش في قضاء الحمدانية التابعة لمحافظة نينوى، شمال العراق. إنهم مسيحيو سهل نينوى، جزء من أقليات هذا السهل التي لازمت الكوارث مصائرهم منذ مطلع القرن الفائت، وجميعها، كما الكارثة الأخيرة، لم تكن قدراً بل قضاء وراءه سلطة جائرة وفاسدة، وأكثرية متسلّطة، وطموح قومي أو ديني أو مذهبي.

نحن اليوم حيال 450 ضحية بين قتيل وجريح. الرقم ينطوي على فضيحة تتجاوز الإهمال، نحو طبيعة سلطة ما بعد “داعش”، وهي خليط من فاسدين ومتسلّطين من ميليشيات “المذهب المنتصر”، هؤلاء ليسوا من يقف وراء الحريق إنما يقفون وراء الاهتراء الذي أعقب “النصر على داعش”.

مسيحيو سهل نينوى، كما أيزيديوه وطائفة “الشبك”، هم سبايا السلطات المتعاقبة على حكم السهل. في زمن البعث، جرى تعريب قسري لهم، وفي زمن “داعش” انقسموا بين “كفار” و”ذميين”، وفي زمن الحشد الشعبي الشيعي، احتُلت مدنهم وقراهم وتم السطو على أملاكهم.

نعم، الكارثة ليست قدراً، فالموصل ومحافظتها تعيشان على شفير كارثة متواصلة. عرس يفضي إلى 150 قتيلاً و300 جريح، وعبّارة تهوي في نهر دجلة فتقتل مئة شخص كانوا في رحلة استجمام! روائح فضائح الفساد الذي أعقب “النصر” تزكم أنوف سكان المحافظة بأسرها. لا شيء بقي في مكانه. الموصل القديمة اقتُلعت، ومخلفات حكم “داعش” واضحة على الجدران، وإعادة البناء معطّلة بسلطة الحشد الشعبي الشيعي.

مدينة الحمدانية دمّرها “داعش” أثناء حكمه المحافظة بين العامين 2014 و2016، وبلدة قرقوش التي شهدت كارثة العرس، شهدت ذروة الاستهداف. كانت في أعقاب هزيمة التنظيم في العام 2016 كتلة من الركام تتوسطها بقايا كنيسة، والمرء إذ يتابع ما أصاب أهلها اليوم، يحضره ذلك الدمار، وتختلط في ذهنه أسئلة عن علاقة مقتلة اليوم بمقتلة العام 2014.

قرقوش نفسها التي زارها البابا في العام 2021 وحل ضيفاً على كنيستها المدمرة، اشتعلت بالأمس فيها قاعة الهيثم للأعراس. المدينة ذاتها التي أطلقت الحكومة العراقية منها وعوداً بإعادة بناء مدن المسيحيين وقراهم، وها هي اليوم تقف مكتوفة الأيدي حيال “مخالفة شروط السلامة”، تماماً كما وقفت مكتوفة الأيدي حيال ما كشفناه عن تلاعب بالسجلات العقارية لأملاك المسيحيين في الموصل، والتي يقف وراءها نافذون في سلطة “ما بعد داعش”.

الحكومة العراقية أشارت في بيانها، إلى أن الكارثة وراءها “إهمال ومخالفة لشروط السلامة”! لكن مَن المهمل ومَن الذي خالف شروط السلامة؟ لا شيء يفضي إلى المحاسبة في بلاد “الانتصارات”. صاحب المركب الذي غرق في العام 2019 جراء تحميله ضعف ما يتّسع، ما زال حراً طليقاً، وضباط الجيش العراقي الذين انسحبوا على نحو مخزٍ من أمام مئات قليلة من عناصر “داعش” في العام 2014 صاروا اليوم جنرالات.

العرس الذي تحوّل إلى “محرقة” أصاب فئة ضعيفة لا تقوى على محاسبة “الأكثريات الحاكمة”. والحمدانية محاصرة بالأكثريات، فالأكثرية الشيعية الحاكمة تقيم سلطتها على ضفاف مجتمع سني سبق أن مارس أكثريته في زمن “داعش”، وعلى حدود المدينة، وتحديداً في شمالها، تقيم الأكثرية الكردية، ووسط تغول الأكثريات، جرى تعريب الكلدان والأشوريين في زمن البعث، وتم تكريد الأيزيديين في زمن سلطة الأكراد، وها هي طائفة الشبك تتحول إلى الأثني عشرية في زمن الحشد الشعبي الشيعي.

هنا، تحضر قصة صديقنا المسيحي الموصلاوي الذي راح يحدثنا عن ظلامة مسيحيي الموصل التاريخية مع محيطهم، علماً أن أقلية يهودية كانت تقيم بجوار المنطقة المسيحية في المدينة، وحين سألناه عن علاقة المسيحيين باليهود، أجاب فوراً: “كنا نعاملهم كما يعاملنا المسلمون”!

حريق قرقوش جزء من خارطة الحرائق هذه، فـ450 ضحية من أقلية تعاني أصلاً من نزف ومن سياسات تمييز عرقي وديني، ليس رقماً أقل من الأرقام التي أجاد علينا بها “داعش” حين قتل وسبي ودمر بلاد أقليات سهل نينوى.      

27.09.2023
زمن القراءة: 3 minutes

العرس الذي تحوّل إلى “محرقة” أصاب فئة ضعيفة لا تقوى على محاسبة “الأكثريات الحاكمة”.

ليس قدراً ما أصاب المُحتفلين بالزفاف في بلدة قرقوش في قضاء الحمدانية التابعة لمحافظة نينوى، شمال العراق. إنهم مسيحيو سهل نينوى، جزء من أقليات هذا السهل التي لازمت الكوارث مصائرهم منذ مطلع القرن الفائت، وجميعها، كما الكارثة الأخيرة، لم تكن قدراً بل قضاء وراءه سلطة جائرة وفاسدة، وأكثرية متسلّطة، وطموح قومي أو ديني أو مذهبي.

نحن اليوم حيال 450 ضحية بين قتيل وجريح. الرقم ينطوي على فضيحة تتجاوز الإهمال، نحو طبيعة سلطة ما بعد “داعش”، وهي خليط من فاسدين ومتسلّطين من ميليشيات “المذهب المنتصر”، هؤلاء ليسوا من يقف وراء الحريق إنما يقفون وراء الاهتراء الذي أعقب “النصر على داعش”.

مسيحيو سهل نينوى، كما أيزيديوه وطائفة “الشبك”، هم سبايا السلطات المتعاقبة على حكم السهل. في زمن البعث، جرى تعريب قسري لهم، وفي زمن “داعش” انقسموا بين “كفار” و”ذميين”، وفي زمن الحشد الشعبي الشيعي، احتُلت مدنهم وقراهم وتم السطو على أملاكهم.

نعم، الكارثة ليست قدراً، فالموصل ومحافظتها تعيشان على شفير كارثة متواصلة. عرس يفضي إلى 150 قتيلاً و300 جريح، وعبّارة تهوي في نهر دجلة فتقتل مئة شخص كانوا في رحلة استجمام! روائح فضائح الفساد الذي أعقب “النصر” تزكم أنوف سكان المحافظة بأسرها. لا شيء بقي في مكانه. الموصل القديمة اقتُلعت، ومخلفات حكم “داعش” واضحة على الجدران، وإعادة البناء معطّلة بسلطة الحشد الشعبي الشيعي.

مدينة الحمدانية دمّرها “داعش” أثناء حكمه المحافظة بين العامين 2014 و2016، وبلدة قرقوش التي شهدت كارثة العرس، شهدت ذروة الاستهداف. كانت في أعقاب هزيمة التنظيم في العام 2016 كتلة من الركام تتوسطها بقايا كنيسة، والمرء إذ يتابع ما أصاب أهلها اليوم، يحضره ذلك الدمار، وتختلط في ذهنه أسئلة عن علاقة مقتلة اليوم بمقتلة العام 2014.

قرقوش نفسها التي زارها البابا في العام 2021 وحل ضيفاً على كنيستها المدمرة، اشتعلت بالأمس فيها قاعة الهيثم للأعراس. المدينة ذاتها التي أطلقت الحكومة العراقية منها وعوداً بإعادة بناء مدن المسيحيين وقراهم، وها هي اليوم تقف مكتوفة الأيدي حيال “مخالفة شروط السلامة”، تماماً كما وقفت مكتوفة الأيدي حيال ما كشفناه عن تلاعب بالسجلات العقارية لأملاك المسيحيين في الموصل، والتي يقف وراءها نافذون في سلطة “ما بعد داعش”.

الحكومة العراقية أشارت في بيانها، إلى أن الكارثة وراءها “إهمال ومخالفة لشروط السلامة”! لكن مَن المهمل ومَن الذي خالف شروط السلامة؟ لا شيء يفضي إلى المحاسبة في بلاد “الانتصارات”. صاحب المركب الذي غرق في العام 2019 جراء تحميله ضعف ما يتّسع، ما زال حراً طليقاً، وضباط الجيش العراقي الذين انسحبوا على نحو مخزٍ من أمام مئات قليلة من عناصر “داعش” في العام 2014 صاروا اليوم جنرالات.

العرس الذي تحوّل إلى “محرقة” أصاب فئة ضعيفة لا تقوى على محاسبة “الأكثريات الحاكمة”. والحمدانية محاصرة بالأكثريات، فالأكثرية الشيعية الحاكمة تقيم سلطتها على ضفاف مجتمع سني سبق أن مارس أكثريته في زمن “داعش”، وعلى حدود المدينة، وتحديداً في شمالها، تقيم الأكثرية الكردية، ووسط تغول الأكثريات، جرى تعريب الكلدان والأشوريين في زمن البعث، وتم تكريد الأيزيديين في زمن سلطة الأكراد، وها هي طائفة الشبك تتحول إلى الأثني عشرية في زمن الحشد الشعبي الشيعي.

هنا، تحضر قصة صديقنا المسيحي الموصلاوي الذي راح يحدثنا عن ظلامة مسيحيي الموصل التاريخية مع محيطهم، علماً أن أقلية يهودية كانت تقيم بجوار المنطقة المسيحية في المدينة، وحين سألناه عن علاقة المسيحيين باليهود، أجاب فوراً: “كنا نعاملهم كما يعاملنا المسلمون”!

حريق قرقوش جزء من خارطة الحرائق هذه، فـ450 ضحية من أقلية تعاني أصلاً من نزف ومن سياسات تمييز عرقي وديني، ليس رقماً أقل من الأرقام التي أجاد علينا بها “داعش” حين قتل وسبي ودمر بلاد أقليات سهل نينوى.