وبعد غزوة الرينغ الثانية، شوهد مواطنون يعيدون نصب الخيم التي حطمها مناصرو حركة أمل وحزب الله، وتبادل لبنانيون رسائل خوف وتساؤل، عما إذا كان حزب الله قد قرر أن يستعيد المدينة منهم. وغزوة الأمس كانت أشد عنفاً من الغزوة التي سبقتها، ذاك أن الغزاة استهدفوا أيضاً المحال التجارية في الصيفي، وأحرقوا سيارات مركونة إلى جانب الطريق، والوقت الذي استغرقته غزوتهم الثانية استمرت حتى ساعات الصباح الأولى.
ما جرى بالأمس هو صورة عن حال الاستعصاء التي تعيشها السلطة في لبنان، فالعجز عن تشكيل حكومة تتولى إخراجها من الفضيحة التي انكشفت بفعل الإفلاس الوشيك، هو السمة الرئيسة لهذه المرحلة، وحزب الله عاجز عن أن يتصور نفسه خارج هذه الفضيحة، وهو سعى ويسعى إلى مداراتها، مستعيناً بشارعٍ أصابه خطاب الحزب بصدوع جوهرية، فانشق على نفسه ولم يبق للحزب سوى المشهد الميليشيوي يستعين به لمواجهة المأزق. وما القول أن تيار المستقبل والقوات اللبنانية هما من يحركان الشارع إلا صورة عن حال الاختناق التي وضع حزب الله نفسه بها.
في الصباح استيقظ أهل الخيمة التي صدر عنها كلام حب بالحزب ليكتشفوا أن خيمتهم قد حطمها مناصروه، وهذا ما ضاعف من مأزقهم العاطفي.
تيار المستقبل يعيش لحظة نادرة في تاريخه ومساره، فهو تمكن من إخراج نفسه من أزمة كان هو أحد المسؤولين الأساسيين عن وصول لبنان إليها. “المستقبل” كان شريكاً كبيراً في مسار الإفلاس الذي ننتظر وصولنا إليه في أي لحظة، ولكنه وخلافاً لحزب الله، غادر المركب قبل وقت قصير من غرقه، وهذا ما عجز الحزب عن القيام به. القول بأن الانتفاضة وراءها المستقبل والقوات فيه من الركاكة على قدر ما فيه من الكذب. فخلال هذا الشهر عقدت في ساحات وسط بيروت ندوات تناولت فساد شخصيات المستقبل من فؤاد السنيورة وصولاً إلى رفيق الحريري نفسه، ولم تعقد ندوة واحدة تناولت سلاح حزب الله. وفي الساحة أيضاً كان استهداف رئيس مجلس النواب نبيه بري في الشعارات يقرن بهتاف مواز يتناول خصومه في 14 آذار.
بذل حزب الله وإعلامه وحلفاؤه جهوداً هائلة لتصوير التظاهرة بصفتها امتداداً لانقسام سبقها. والحزب اذ لم ينجح بهذه المهمة، تحولت المنابر والصحف والتلفزيونات التي روجت لذلك إلى نكتة يتبادلها المتظاهرون، ويضيفون إليها شتائم لمن تزعم وسائل إعلام الحزب بأن المتظاهرين أنصارهم. ثم أن الخيم التي حطمها مناصروا الحزب للمرة الثانية بالأمس، نصب معظمها من لطالما ربطتهم بالحزب مودة واستتباع، وفي هذه الخيم تعقد لقاءات يتقدمها مناصرون لحزب الله ممن ما زالوا يعتقدون أن الحزب سيعود إلى رشده.
لجماعة منشقة، أو مشتقة من اتحاد قوى الشعب العامل الذي يتزعمه كمال شاتيلا، خيمة في ساحة الشهداء استضافت مساء أمس، أي في ليلة الغزوة، الإعلامي المنشق عن قناة الميادين والذي تربطه علاقة مودة واحترام مستمرة مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، سامي كليب. الإعلامي المنشق افتتح اللقاء، بإعلان تعلقه بخيار المقاومة، وبإيمانه بأن الثورة في لبنان تستهدف العدو الإسرائيلي قبل استهدافها الفساد والفاسدين من أهل السلطة الذين هم غير أهل الحزب. وأبدى كليب ذهوله من الحملة التي تعرض لها من قبل مجتمع المقاومة نتيجة إعلانه عن إيمانه بالثورة.
وللوزير “المعتذر” شربل نحاس خيمة إلى جوار الخيمة المشتقة عن شاتيلا. لكن لا بأس، فساحة الانتفاضة تتسع لمن يشاء، وشربل نحاس الذي شطب وجهه بتصريحات غير منسجمة، أصاب فيها جماعة أهلية تتعدى حزب الله، واعتذر عنها، لن تضيق به ساحة اتسعت لشذاذ آفاقٍ موازين، فتيار المستقبل يسرح ويمرح في محيط الساحة، وبالأمس حضر أيضاً التيار الوطني الحر وأراد أن ينصب خيمة في جوار خيمة “مواطنون ومواطنات”، وهو ما أثار ذهول المعتصمين في الساحة، ذاك أنهم بقبولهم التيار يفقدون الخصم الأول للانتفاضة، وهو رئيس التيار جبران باسيل.
لا شك أن قوى السلطة في لبنان، وبعد فشلها في اخماد الانتفاضة، قررت أن تحول الفساد، وهو الشعار الأول للمنتفضين، إلى فكرة من دون أشخاص وأسماء ووقائع. إنه الفساد، وجبران باسيل ضد الفساد، وكذلك نبيه بري والمقاومة، ناهيك عن تيار المستقبل وآل الحريري والكتائب والقوات اللبنانية. كل هؤلاء جاءوا و”جلسوا معنا في الخندق”!
لكم مفارقات ساحة الانتفاضة تمتد إلى خارجها، فشعب المقاومة المنشق عنها والمتمسك بالثورة بصفتها ضد الامبريالية، قرر بالأمس التظاهر أمام السفارة الأميركية بسبب كلام السفير السابق جيفري فيلتمان عن لبنان في الكونغرس الأميركي، وهي خطوة كان يمكن للمرء أن يرحب بها طالما أننا في مجال الانتقال إلى ثورة، وكلام فيلتمان يشكل تدخلاً، ولكن الداعين إلى الاعتصام فاتهم كلام مرشد الثورة في إيران علي خامنئي عن لبنان وعن انتفاضته التي اعتبرها مؤامرة على المقاومة يجب قمعها، والخطوة أمام السفارة الأميركية تملي مثيلاً لها أمام السفارة الإيرانية، وعدم القيام بها مؤشر على أن انخراط الداعين للتظاهر أمام السفارة الأميركية، هو انخراط هش هم بصدد مراجعته بعد أن كشف حزب الله لهم عيناً حمراء.
ثمة جهود هائلة يبذلها منخرطون في الانتفاضة اللبنانية لإبداء “حسن النية” تجاه حزب الله، وهي جهود لا يقابلها الحزب ومجتمعه إلا بمزيد من الخصومة والخطاب التخويني حيال هؤلاء الخارجين من خاصرته.
وفي الصباح استيقظ أهل الخيمة التي صدر عنها كلام حب بالحزب ليكتشفوا أن خيمتهم قد حطمها مناصروه، وهذا ما ضاعف من مأزقهم العاطفي.