لم يكن وصول لاعب كرة القدم كريستيانو رونالدو إلى السعوديّة بداية النزعة المتنامية للاهتمام بالجسد الرياضي المصقول في المملكة العربية السعودية. فـidol كرة القدم، وأحد أكثر نجومها شعبيّةً وشهرةً عبر التاريخ، ليس الظاهرة الوحيدة لإعادة نظر السعوديّة والسعوديّين بقيمة الجسد.
لا نتحدث هنا عن الجسد بمعناه التسويقي فقط، فرونالدو يتجاوز فكرة كرة القدم، نحو ظاهرة أكثر تعقيداً، عصر الميديا والعلم الحديث يجعلان كريستيانو ضمن دائرة ضوءٍ عظمى، إذ نشاهد صدره وعضلاته على علب الشامبو، كما يظهر في إعلانات الساعات والثياب الداخليّة على حدّ سواء، بوصفه الرجل المعاصر المثالي. يمثّل كريستيانو للعالم بأسره ظاهرة جسديّة؛ العضلات الدقيقة، الانسياب والمرونة المثاليّة، القيمة الرياضيّة والأخلاقيّة أحياناً؛ باختصار، لرونالدو قيمة جسدية، لا بالمعنى الموضوعي للجسد بوصفه جهازاً عضويّاً، بل بوصفه جسداً يستطيع فيه الباحث فهم نجوميّة الرياضي، أو مثاليّته الجسدية التي تُكرّس له عالميّاً قيمة اجتماعيّة، فلسفيّة، وعلميّة أحياناً.
رونالدو تحديداً ليس نجماً رياضيّاً فقط، بل ظاهرة دُرست بدءاً من أخلاقيّة الجسد والاهتمام فيه، كتحدٍ للسن والنظام الغذائي الصارم، والثبات في المستوى، وصولاً إلى رسالة رونالدو في جعل الجسد يعيش المصاعب من أجل الاكتمال، وأن يصبح مثالاً يُحتذى. نحن إذاً أمام نموذج لرجولة، وليدة الملعب، أقدم مدارس “الرجال”.
رونالدو نموذج يُتنبى، تُعلق صوره في البيوت، تُقّلد قصة شعره، أسلوب حركته، نظامه الرياضيّ، في زمن “منزوع من السحر”، بحسب تعبير ماكس فيبر، يظهر رونالدو كنتاج لـ”شعوذة” العصر الحديث، تمارينه الرياضية المخصصة لكل عضلة، الحمية الغذائية القاسية، منتجات فاخرة، والأهم سيرة كرويّة منضبطة، ذات بعد درامي، قصة نجاح عصاميّة، هو “الإله الذي أرادت والدته إجهاضه”، والآن، هذا الإله ذو العضلات المفتولة، والشعوذة الاستهلاكيّة، تحول إلى Mascot واحدة من أكبر دول العالم إنتاجاً للنفظ.
Idol كرة القدم، وأحد أكثر نجومها شعبيّةً وشهرةً عبر التاريخ، ليس الظاهرة الوحيدة لإعادة نظر السعوديّة والسعوديّين بقيمة الجسد.
الجسد السعوديّ ضمن خطاب “الاستعراض”
ليس رونالدو وحده علامة على تخفف الجسد السعوديّ من قيوده السابقة، رومي القحطاني، أول ملكة جمال سعوديّة، شاركت في مسابقة “ملكة جمال المرأة” في روما.
هذه الأجساد سواء المحتفى بعضلاتها كرونالدو، او بـ”جمالها” الوطنيّ كالقحطاني، علامات على الانفتاح على الجسد وتحرّره في المملكة، ودلائل على نزع الجسد السعوديّ من ماضيه، المُخبأ إن كان مؤنثاً، أو مُذكراً.
إعادة تقديم الجسد السعوديّ إلى العالم بدأت مع إعادة النظر في فضاءات الاختلاط، والأهم، العروض القائمة على المهارة الجسديّة بأنواعها، كالمصارعة الحرة، نجوم الغناء، الحفلات الموسيقيّة، الصور التي أدهشت “العالم” حين ظهرت لا تتمثل بوجود ماريا كيري أو ليندسي لوهان أو نجوم الكاي بوب يقدمون عروضهم التقليديّة في السعوديّة، بل الجمهور نفسه، حشود من الجنسين “تختلط”، ترقص، تتلامس.
الأبدان إذاً خارج القيود السابقة، والصور النمطيّة التي اعتدنا عليها، لكن، حُرر الجسد السعودي مع شرط السيطرة عليه، بصورة أخرى، رسمت قنوات خاصة لتخليص الجسد المكبوت من حمولته، ضمن آلية صارمة، إذ اعتقلت الطالبة سلمى الشهاب بسبب تغريدة تنتصر فيها لحقوق المرأة، إذاً “حرية الجسد” محصورة ضمن خطاب، ترفيهي (الحفلات)، وطنيّ (ملكة الجمال)، عملياتي (السماح للمرأة بقيادة السيارة) واستعراضيّ، هذا الخطاب والمؤسسات التي تحركه مضبوطة سياسيّاً حكماً، ضمن ما يمكن اعتباره المواطنة الترفيهيّة، أي جعل استهلاك “ثقافة” العالم طريقاً للسعوديين وآلية لتفريغ دواخلهم وإعادة توزيع الأبدان ضمن الفضاءات العامة.
الجسد كقيمة
بدأ استعراض الجسد بوصفه يعكس هويّة السعوديّة الجديدة مع موجة الإصلاحات التي ظهرت منذ نحو 10 سنين، أصبح الجسد معياراً مهماً لانفتاح الذات وتكشّفها. ألغيت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المختصة بدقّة في ضبط الأجساد وأشكالها وحركتها.
سُمح للمرأة بقيادة السيّارة، والأهم الدراجة، أصبح للمرأة الحق في انتقاء ما يكون ملائماً للوصول إلى حاجاتها الشخصيّة بفرادةٍ وحماية قانونيّة. وذلك بعد تاريخ طويل من الفتاوى (الخطاب) الذي يمنع فتنة الجسد إن تنقّل، وهنا تظهر أهمية الدراجة، كونها تجعل للفرد معياراً أكثر خصوصيّةً ورحابة، وتجعل الأنثى أكثر جرأةً وتمكّناً من جسدها وانتقالها، بالتالي تسهل تعاملها الفردي مع الحياة أيضاً. إنه ليس بُعداً لحريّة الجسد فقط، بقدر ما يكون فيه الجسد حاملاً للغته، ومُتمثّلاً لذاتٍ تختار وتُمارس حريتها وتختار معايير ظهورها وتمثّلها. نتلمس هذا في فريق “التحدي”، مجموعة من سائقات الدراجات اللاتي وصفن بـ”الشجاعة” و”الجرأة” لركوبهن الدراجة، أي بصورة ما، وانتقالهنّ بصورة فرديّة بين المدن السعوديّة.
عام 2013، افتُتح مركز لتعليم الباليه للصغيرات، وصولاً إلى حفلات رقص الباليه ضمن المهرجانات، لاحقاً رأينا فتاة ترقص على العمود، وصولاً إلى ثقافة المهرجانات والحفلات العمومية، ولم يُستثنَ “الهالوين” و”الكريسمس” من هذا ضمن مجال عام مختلط.
خطاب الطاعة الاستهلاكيّة
نلاحظ أن الشائع في معايرة الحداثة السعودية يتطابق مع ما يبدو استهلاكيّاً، وكأنّ الحرّيات المُتاحة لا تحملُ سوى مناخات استثمارية وتجارية لجذب الجمهرة والترفيه عبر القدرات الماديّة، لكننا ننطلق هنا من المدرسة التعبيريّة لفهم الجسد السعودي الخاص، أي الحق في الفعل بوصفه تعبيراً عن الذات من دون قيود تُلغي الجسد، والأهم هو الانطباع الفردي والعام كنتيجة للتعبير الحر، وداخل حيّز المجتمع، وإرهاصات فهم إتاحة التعبير، لكن أي تعبير تحديداً؟ الاحتشاد واستهلاك الاستعراض، عبر مشاهدة فرقة “البلولوشي” الروسية للباليه، لا فرقة باليه سعوديّة، ربما هي قيد الإنشاء. إنما اللافت في الاستهلاك أن الأجساد تحتشد، تستهلك/ تشاهد في “الظلام”، فالنور على الخشبة فقط، الجسد السعوديّ الاستعراضي ما زال خجولاً في ظهوره، ولم تُقرَّر بعد “أعراف” الأداء الاستعراضي.
ألغيت قوانين وأقرت أخرى، ما أتاح مساحة لمسرحة الجسد في الرياضة، والاستعراض ونما الاهتمام فيه من باب تربوي، وتنافسي، يُحرّض العمل على الذات، لأن الجسد أصبح أداة وطنيّة، داخل السعوديّة وخارجها، علي القرني مثلاً، أول رائد فضاء سعوديّ، له مهمة وطنيّة، تقضي بمغادرة الغلاف الجويّ وحسب، السعودية لا تسعى لاكتشاف الفضاء بل “إثبات حضورها ” ضمنه.
طرح الجسد كمسؤوليّة، بدءاً من الحركة والحضور في الأماكن العامّة المختلطة، وصولاً إلى أشكال الزينة واللباس، محمد بن سلمان نفسه نموذج على ذلك، فحين ارتدى سترة (جاكيت) ثمنها 3850 دولاراً، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بهذا الخبر، لماذا؟ هل من المستغرب أن يرتدي واحد من أغنى أغنياء العالم سترة بهذا الثمن؟ لا، ولكن الجسد معطى ثقافي، وما أن يكون خاضعاً للفرجة والمعايرة والفعل، فإنه يؤثّر على الذات والمخيّلة والقدرة.
لا تُشكّل مدرسة الباليه مثلاً معياراً للاستهلاك، بل الحاجة إلى التيقّظ لدور البدن، وإلى الاهتمام به بوصفه حياةً ومطلباً. لكن لماذا الباليه؟ لانضباطه؟ لصرامة تعاليمه؟ الرقص المعاصر وقف بشدّة بمواجهة “الباليه” بوصفه فناً أبيض صرفاً، لا يتلاءم مع طبيعة الأجساد الممتلئة، ذات الأرداف والكرش، رفضت صرامته لما تحويه من استلاب لحرية الراقصة/ الراقص نفسه، فراقص/ راقصة البالية المثالي أشبه بدمية خشبيّة، بلا مشاعر، استعراض بحت للمهارة، للطاعة التامّة إن صح التعبير.
إقرأوا أيضاً:
سطوة مؤسسات ضبط الأبدان
اللافت أن شكل الحماية القانونيّة في السعوديّة أكثر فاعليّةً، وأكثر تأثيراً، وبالكاد تكون تأثيرات سلوكيات التحرّر لدى المرأة تتجاوز العنف الرمزي والإلكتروني، لكن من الصعب شيوع حالات عنفٍ جسدي للإناث الممارسات لحريّاتهن. بعض المقاطع التي تتسرب عبر الميديا للتنمر على النساء تبدو مُهينة، لكن شكل سلطة القانون قد يتيح عقاباً للمتنمرين، بخلاف سوريا مثلاً التي لا تملك أبعاداً للأمان الاجتماعي للمرأة، وبرغم شيوع ظاهرة الدراجة مثلاً في سوريا، إلا أنها مازالت تحوي غرابة واستهجاناً في بعض الأحيان.
هناك نرجسية حميمية يملكها سوريون ولبنانيون ومصريون تجاه انفتاحهم وحرياتهم مقارنة بأهل الخليج، لكنها لم تعد ذات قيمة، فكل ما يخص الانفتاح والحريات العامة والتقبل الاجتماعي أصبح أشبه بماضٍ لن يعود، عواصم الثقافة التقليديّة “دمشق، بيروت، القاهرة” انهارت، فقراً، تشديداً أمنيّاً، رقابة، والهدف الآن، السعوديّة، حيث المال والاستعراض.
المهرجانات العموميّة، أو الحفلات العامّة، أو عروض المصارعة الحرّة، والتي تسمح بحضور مختلط، تمثل بلا شك شكلاً من أشكال السلطة في السيطرة على نوازع المجتمع وطاقاته وتنميط سلوكه. إن شيئاً سلطوياً يطغى على المهرجانات، فدفع السعوديين للاحتفال في كل شيء يبدو ساذجاً أحياناً، بخاصة حين تظهر رموز السلطة أكثر من ظهور المختصين أو الأطراف الأكثر إلماماً في المواضيع المستهدفة.
“ضابط” الاستعراض
تركي الشيخ يقود حركة المسرح، والجلسات الافتتاحية لـwwe عروض المصارعة الحرة، ويستضيف الرياضيين أيضاً. وبخلاف الدولة الشمولية التي تمأسس كل شيء مُبرزة توسع الدولة، فإن السعودية تشخصن كل شيء في شخصية صديق ولي العهد. وعلى رغم أن تركي لن يظهر كتنويري جسدي، إلا أنه راعي تمسرح الأجساد وتقابلها وانزياحها عن حدود الشرع والحُرمان، وافتتاح الحدود والطرق للتفاعل العمومي المشترك، وشعور الذات بأنها تقابل ذوات أخرى تصنع شكلها، ومعاييرها للظهور العام، وهذا منطقي ضمن خطاب تحديد الأجساد وضبطها، تركي آل الشيخ، أبو ناصر، بحسب ويكيبيديا، دون الحاجة للبحث أكثر “تخرج من كلية الملك فهد الأمنية حيث نال درجة البكالوريوس في العلوم الأمنية، كما تلقى العديد من الدورات في علم الجريمة والتحقيق وإدارة المخاطر والإدارة”.
وأبو ناصر عارف في تكنولوجيا ضبط الأجساد، واحتجازها مثلاً في فندق الكارلتون عام 2017، حيث اتهم بتعذيب رجال أعمال، وإعادة تقديمهم بعدها للعلن بعد تجريدهم من ممتلكاتهم. وهو دور يواصل تأديته الآن إنما بأشكال مختلفة.
ما سبق جعل الانفتاح السعودي يحمل وجهين: وجه المعتني، ووجه التربوي حسب لغة فوكو؛ في إبرازه الفرق بين التربية والاعتناء، بين قدرة السلطة على تنميط المجتمع تربوياً في جعل معايير تواجد الجسد محكومة في المهرجانات العامة، مثلاً، ودور اعتنائي؛ بجعل حريّة الجسد محميّة قانوناً عبر مجال خاص نشط في إنتاج العناية بتمسرح الجسد، وجعله قادراً عبر أفراده على اكتشاف معالمهم الخاصّة، وعرض ذواتهم، وتحسين آليّة عرضها ضمن نزعة معرفيّة تحكيها بشكل أو بآخر الدولة الناظمة للقوانين.
من الصعب البحث مليّاً في نزعة الاهتمام بالجسد في السعوديّة، لكنّها تبدأ من حريّة المرأة في اللباس، وحريّة ارتياد الأماكن، وصولاً إلى دراسة الرقص واحترافه، من الباليه إلى الرقص الشرقي، أو الرياضات المُسمّاة روحيّة، كاليوغا والتأمّل. في الجانب الأنثوي يتمّ اكتشاف الجسد بشكل أفضل، بخاصّة أن النزعة الذكوريّة والاستهلاكيّة تُصيب رياضات الشباب وممارساتهم.
بحث الجسد عن مكانه في العالم
بدأ الجسد السعودي يستحوذ تقنياً على أجساد أخرى في الرقص واليوغا، لاكتشاف خروجاته من حركة الصلاة والركوع والطوف، خروج من السيّارة و المول والهواء المكيّف، خروج نحو جسد شخص مكتشف ويحاول أن يقتنص من دولته ما يجعله حُراً وقابلاً للتقابل والتفاعل. اليوغا والدراجة والرياضات التي تنتشر في السعودية، هي محاولات الجسد السعودي لزيارة العالم واكتشاف نفسه وطاقاته.
الجسد السعودي أمام عالم جديد، يكون فيه الجسد شديد الرغبة في مسرحة نفسه. نشأ هذا في السنوات العشر الأخيرة، بخاصة أنّه يدور في صراعٍ لا يبدو سهلاً على مناضليه، سواء من صراعاتٍ تُبرزها الساحات الإلكترونيّة عبر الميديا، أو عبر وسائل الإعلام التلفزيونيّة وغيرها، فالاستقطاب لا يتوقّف – وهذا شيءٌ إيجابي – من كونه متاحاً لتأكيد أهميّة الجسد والصراع من أجله، لكنّ شيئاً ما يحمله الشباب السعودي بإمكاننا التقاطه وفهمه بإيجابيّة، في أن يكون الجسد والتعبير من خلاله شيئاً جوهريّاً لا يُمكن التغاضي عنه، وهذا أكبر من جلب نجم جسديّ هائل كرونالدو.
ما يبدو فارقاً في السعودية ليس آليات السلطة الناجحة في اقتياد رغبات المجتمع وتفريغها، بل نجاح المجتمع الذي سيتطور غالباً نحو اكتشاف ذاته من خلال مسرحة جسده، وتضخم آلية التواصل بعيداً من الكبت الديني. في مكان آخر باستطاعتنا مراقبة الفنون السعودية المستقلة، من المسرح والسينما إلى الرياضات والرقص الإبداعي، فيظهر مجتمع ربما ينجو من آلية السلطة نحو اكتشاف نفسه وخلق شيء لم ترده أن يكون.
إقرأوا أيضاً: