“على حاجز الهيئة وقبل بضع خطوات من نقطة العبور غير الشرعي إلى لبنان، همس المهرّب في أذني ألّا أقول لعنصر الهيئة إنني علوي إن سألني عن ديانتي، وأن أظهر بشكل أقلّ توتّراً، ولكنني لم أستطع إخفاء توتّري فأنا مصاب متلازمة التوحّد، وعندما سألني العنصر قلت له إنني سنّي، وكانت هذه اللحظة الوحيدة التي خفت فيها على حياتي، رغم كلّ سنوات الخوف التي مرّت”.
بهذه الكلمات يصف جهاد (اسم مستعار) رحلة هروبه إلى لبنان، بعد الانتهاكات في الساحل السوري بحقّ أبناء الطائفة العلوية، تلك التي راح ضحيّتها حسب تقديرات “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، أكثر من ألفي قتيل، ما دفع بآلاف هناك، إلى عبور النهر الكبير نحو الأراضي اللبنانية بطريقة غير شرعية.
يقول جهاد لـ “درج” : “ولدت في مدينة اللاذقية لأسرة كانت تخاف من التعبير عن رأيها، وتفضّل عدم الخوض في السياسة، فوالدي يعمل مدرّساً في الجامعة، ووالدتي قرّرت أن تعتني بنا، أما أنا فقد كنت صاحب موقف ضدّ النظام، وحينما سقط نظام بشّار الأسد شعرت بالتفاؤل حيال المرحلة المقبلة، ولكن سرعان ما بدأ هذا التفاؤل يتلاشى، إلى أن بدأت الأحداث في الساحل، ووجدت نفسي مجبراً على مغادرة هذه البلاد إلى غير رجعة، ركبت في البولمان من اللاذقية إلى حمص، ومن هناك دخلت إلى لبنان”.
في جبل محسن في طرابلس، تصل يومياً عشرات الأسر الهاربة من الساحل السوري إلى البلدة، ولكن خوف اللاجئين العلويين لم يتبدّد، لا سيّما مع تصاعد الخطاب المحرّض تجاههم من قِبل بعض الأصوات في “عاصمة الشمال” تحت ذرائع عديدة، أبرزها إلصاق تهمة “فلول النظام” بهم، خصوصاً بعد تداول تسجيلات عن وجود ضابط من جيش الأسد في أحد مستشفيات طرابلس، فضلاً عن التوتّرات الأمنية في المنطقة التي استدعت تدخّل الجيش اللبناني.
“طرابلس لم تعد كما كانت عليه منذ سنوات”
هربت رجوى (60 عاماً) إلى جبل محسن برفقة ابنها الوحيد من صافيتا، قلقة من اشتعال الوضع في المنطقة، تقول لـ”درج” : “هربت بحثاً عن الأمان عند أقربائنا هنا، ومعي ابني الوحيد الذي لم يخدم في صفوف جيش النظام، وزوجي مفقود منذ بداية الحرب قبل 12سنة، حملني ابني على ظهره وعبر بي النهر ووصلت إلى هنا بشقّ الأنفاس، ورغم أنني وصلت إلى مكان لا يوجد فيه هيئة ولا قتل، فأنا خائفة على ابني هنا في طرابلس، و أخاف أن يخرج من جبل محسن ولا يعود ويصبح عندي مفقودان”.
رحلة عبور النهر الكبير التي خاضتها رجوى قام بها الآلاف، الذين هربوا نحو منازل أقاربهم في القرى الحدودية، إذ قالت غرفة إدارة الكوارث والأزمات في محافظة عكار، إن إجمالي عدد النازحين من الساحل السوري وصل إلى نحو 21 ألف، بينهم أسر لبنانية توزّعوا في القرى الحدودية، في حين تابع البعض نحو جبل محسن، الذي يصف الناشط أحمد حمّاد الحال فيه، قائلاً لـ “درج”: “إن استقبال اللاجئين في جبل محسن لم يتمّ على أساس طائفي؛ بحكم أن جبل محسن ذو غالبية علوية، بل على أساس إنساني، وبحكم الروابط الاجتماعية وصلات القرابة بين أبناء الجبل والساحل السوري، أما الأصوات التحريضية فلا يمكن أن تُؤثّر أو تُعيد الوضع بين سنة طرابلس وعلوييها إلى ما كانوا عليه قبل سنوات، وذلك بفضل الجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية بالتشبيك مع الجمعيات والفاعليات في الجبل وخارجه”.
هل من احتمال للعودة؟
أشارت وسائل إعلام سورية محلّية إلى عودة بعض العائلات العلوية من لبنان إلى طرطوس عبر معبر حكر ضاهر، لكن ما زال الوضع الأمني في مناطق الساحل متوتّراً، خصوصاً مع استمرار حالات الخطف، ما جعل الكثيرين يفضّلون البقاء في لبنان على العودة، تقول رجوى :”الأقارب هنا في جبل محسن يقولون إن خوفي فيه شيء من المبالغة، وإن الأمور اليوم في طرابلس لا تشبه ما كانت عليه قبل سنوات، إلا أنني أشعر بالقلق على ابني أكثر من نفسي، خصوصاً بعد عدّة فيديوهات كنت قد شاهدتها على تيك توك، تدعو إلى اللحاق بنا في لبنان وقتلنا، ولدت وترعرعت وتزوّجت وأنجبت في صافيتا، إلا أنني لم أعد أرغب في العودة إليها، وأفضّل البقاء هنا في جبل محسن إلى أن تتغيّر الأحوال”.
رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام أشار إلى موضوع اللاجئين السوريين في لقائه الأخير في دمشق مع الرئيس السوري غير المنتخب أحمد الشرع، إذ كتب عبر X: “تمّ التداول في تسهيل العودة الآمنة والكريمة للاجئين السوريين إلى أراضيهم ومنازلهم بمساعدة الأمم المتحدة، والدول الشقيقة والصديقة”، لكن لم يُوضح سلام ولا الشرع بدقّة أي لاجئين يتمّ الحديث عنهم، هل أولئك الذين تركوا سوريا منذ 2011 هرباً من بطش النظام السوري، أم النازحين الجدد الذين فرّوا من مجازر الساحل؟