“علاوي حبيب قلبي، أبو حسين، أنت عندك نقص بشخصيتك…”، نصيحة مريبة تسلّلت عبر فيديو قصير إلى عوالم السوشيال ميديا العراقية تحديداً.
تبدو “النصيحة” الموجّهة إلى المدعو علاوي امتداداً (ربما) لإشاعة انتشرت إبان تأسيس “الحشد الشعبي” في العراق، عن موجة كهراطيسيّة، أو سلاح سريّ، يهدد الأجهزة الإلكترونيّة. بحسب الإشاعة، تتفعل هذه الموجة/ السلاح في منتصف الليل، وتحول كل الأجهزة الإلكترونيّة من الهواتف النقالة إلى “لمبات” السقف إلى أجهزة تشّع “سرطاناً” يهدد كل من حولها.
نعلم عن هذه الإشاعة مجهولة المصدر عبر تسجيل صوتي قصير ينصح فيه متحدث لا نراه شخصياً، اسمه “علّاوي” يلقب بـ”أبو حسين”، ينصح المتحدث علاوي قائلاً إن مكتب علي السيستاني، الذي أفتى بتأسيس الحشد الشعبيّ عام 2014، اتصل به، وطلب منه إطفاء الهواتف والأجهزة الكهربائيّة خوفاً من السرطان.
لاحقاً، اقتُبس هذا المقطع الصوتي، وأعيد توليفه والتلاعب به ليتحوّل إلى ظاهرة انتشرت في عوالم وسائل التواصل الاجتماعيّ، لا نعلم بالضبط متى ظهر التسجيل الجديد إلى العلن، لكن يكفي أن نسمع عبارة “علاوي حبيب قلبي أبو حسين…” حتى يبدأ الضحك. التسجيل القصير تحوّل إلى جزء من ثقافة الإنترنت في العالم العربي، يطبّق على فيديوهات متعددة، تبدو للوهلة الأولى جديّةً، تظهر أمامنا أثناء دفق “الريلات” اللامتناهي.
تحوّل تسجيل علاوي إلى فخّ نقع به، مثلاً، يظهر ريل بعنوان “آخر كلمات ركاب الغواصة الغارقة”، وما إن تمضي ثوان حتى نسمع: “علاوي حبيب قلبي…”. الأمر ذاته مع تسجيل لأصوات الجحيم في قاع الأرض، وما إن ننصت حتى يرنّ الصوت: “علاوي حبيب قلبي أبو حسين…”، نقرأ أيضاً عن تسجيل خاص اكتشفه الجيش الروسي حين اقتحام مقر مرتزقة فاغنر في سانت بيترسبورغ ، وما أن نضغط عليه حتى نسمع: “علاوي، حبيب قلبي، أبو حسين…”، صاحب الصوت ذو اللهجة العراقيّة أصبح في كل مكان، هو “خادمكم الصغير…” لكل من يبحث عن نصيحة.
نحاول من وجهة نظر “فلسفة البوب” أو الفلسفة الشعبية، أن نقرأ هذا التسجيل. فالواضح أنه رسالة مسجّلة، أرسلها أحدهم إلى المدعو علاوي، حبيب القلب، لتقديم نصيحة مفادها أن لديه نقصاً في شخصيته، ويتعرض للتنمر، ولا بد له من إيجاد عمل في حياته. اللافت، هو إشكالية الرجولة المفترضة في هذه الرسالة، فالفيديو الأشهر الذي يحوي سمكة تتكلم، مصدره مسلسل “سوبرانوز” حين يبدأ توني سوبرانو بالهلوسة، ضمن المسلسل الذي يناقش انهيار النموذج الرجولي، حسبما تشير الصحافية أنمار حجازي.
بصورة ما، الرسالة إلى علاوي دعوة الى أن يكون “رجلاً”، وأن يشتدّ، ويتجاوز ما يمر به وما يختبره من تنمّر، لكنْ هناك سؤال حول النصيحة نفسها التي قدمها المتحدث، وهو: ما الذي قام به علاوي حتى يجد نفسه في موضع تلقّي النُصح؟ ما هو السياق الذي يدفع أحدهم الى تقديم نصيحة سايكولوجيّة، تحوي تحليلاً نفسياً، مفادها “أنت لديك نقص في شخصيتك؟”.
“علاوي حبيب قلبي، أبو حسين، أنت عندك نقص بشخصيتك…”، نصيحة مريبة تسلّلت عبر فيديو قصير إلى عوالم السوشيال ميديا العراقية تحديداً.
أزمة عدم اكتمال “الأنا”
هناك يقين لدى المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، مفاده أن النفس البشريّة ناقصة لا محالة، هي تسعى نحو الاكتمال المستحيل، ومن هذا النقص، وسوء التفسير اللغويّ للأنا المكونة من كلمات تأسّست في مرحلة المرآة، يتّضح معنى النصيحة الموجّهة إلى علاوي، فأن يقول له أحدهم “عندك نقص بشخصيتك”، يعني أنه اكتشف نقصاً يختلف عن ذاك المشترك بين “الجميع”، نقصاً لا بد من الإشارة إليه، وتنبيه من يعاني منه.
لكن تحديد النقص هذا لدى الآخر، يدفع المشكك الى مساءلة يقينه الذاتي بنقصه، أي أن النقص لدى علاوي مفاجئ ويهز الكيان إلى حد أن الناصح نفسه يعيد النظر في نفسه ربما، طارحاً سؤال: هل أعاني نقص علاوي ذاته؟.
لا نستطيع أن نعرف الإجابة، إذ شكلت قضية علاوي معضلة، وقد تدفع “الناصح” والمستمع الى التسجيل، الى التفكير بنقصه الذاتي، أيمكن أن يكون هو ذا نقص شبيه بذاك الذي لدى علاوي من دون أن يدركه؟ والأهم، وهنا السؤال المرعب: كيف ينصح أحدهم علاوي ويشير إلى نقص من دون أن يتيقّن أنه لا يمتلكه؟
مواجهة علاوي بالنقص، يعني أن الناصح رأى لدى علاوي ما لا يمكن السكوت عنه، نقص يتجاوز ذلك المشترك بين الإنسان وأخيه الإنسان، نقص بدأ باسم العلم، علاوي، ثم صيغة التحبب “حبيب قلبي”، لينتهي بإعلان وإشارة بالبنان “أنت لديك نقص!”، من يمتلك جرأة كهذه ليتّهم الآخر بالنقص؟.
ما هو هذا النقص الذي يحتاج تحبباً ثم مواجهة أدائيّة؟ يمكن تفسير ذلك إن اعتمدنا المقاربة اللغويّة الخاصة بـ”تعابير الشغف”، أي تلك العبارات التي نقولها ولا تنتظر رداً من الآخر لتوكيدها، أثرها ذاتي فقط، بصورة ما هي الآراء الجماليّة أحياناً أو ما نشعر به وحدنا، كالألم والحبّ، وهنا السؤال، هل كان الناصح ينتظر من علاوي رداً، هل اعترف علاوي بالنقص، أم أنه من وجهة نظر المتحدث فقط؟.
صفعة النقص غير المتوقعة
تنويع الفيديوهات والفرضيات المرافقة لتسجيل “علاوي حبيب قلبي…”، تكشف أن هناك مفاجأة من نوع ما، مواجهة أحدهم بالنقص لا يمكن أن تكون هكذا، هي أزمة في الطبيعة البشريّة ووهمها بالكمال، لذا نرى أن تسجيل علاوي ضمن عالم “الريلات” يظهر فجأة، من حيث لا نتوقع، ربما هي صيغة ساخرة لطبيعة الفردانيّة التي نختبرها في عصرنا هذا، حيث “أنا أعرف عن نفسي كذا وعليكم القبول بذلك…”.
ضمن عالم تصعد فيه نزعات الهويات المفرطة، يأتي تسجيل علاوي هنا كصفعة بوجه هذه الفردانيّة، ففي اللحظة الأقل توقعاً، حيث يركز الانتباه لثوان على “الريل” ذي العنوان اللافت، يأتي الصوت فجأة، واضعاً المشاهد أمام مواجهة لا فكاك منها: أنت، يا من تستمع، في وضعك المريح الحالي أمام شاشتك، ستواجه بحقيقة لا يمكن لك توقعها. وهنا تأتي الصفعة بينما نقرأ وصف فيديو عن تسجيل صوت الحيتان وهي تبكي في عمق المحيط، نتوقع أنيناً لكن يأتي الصوت من بعيد : “أنت عندك نقص بشخصيتك…”.
نصيحة الحشد الشعبي لتفادي السرطان
التسجيل الأقدم والخالي من التلاعب، يحمل تتمة مختلفة للتسجيل الشهير، إذ نسمع ” تدرون بينه احنه اندوم بل حشد الله شاهد عليه هسه اجانه نداء مكتب السيد علي السيتاني…”، ليتابع المتحدث عن سلاح سريّ غامض، يهدد الأجهزة الكهربائيّة، يضرب في منتصف الليل، لتأتي النصيحة، بإطفاء كل “اللمبات” والأجهزة الكهربائيّة كالموبايلات، خوفاً من السرطان.
النصيحة موجّهة من شخص لآخر في الحشد الشعبي، أتت من أوامر عليا، من مكتب علي السيستانيّ، تنبيه يهدد الحياة، ألا وهو السرطان، أي انقسام غير طبيعي في خلايا الجسد.
يمكن قراءة النسخة الخاصة بالحشد الشعبي والإشاعات “المسرطنة” ومقارنتها مع تلك الخاصة بـ”النقص في الشخصيّة”، لنفهم أن كل النصائح الموجّهة الى علاويّ تحاول أن تحافظ على حياته واستمراره، والأهم، الناصح نفسه مدرك للنقص في الشخصية/ الخطر الإشعاعي، يحاول أن ينجي زميله أو حتى رئيسه من الهلاك، هذا ما يفسر كلمة “أنا أخوكم الصغير”، هي محاولة للتحبّب والتواضع.
النصيحة حين مقارنة التسجيلين هدفها أن تنجو بحياتك، نصيحة لا يمكن لنا تجاهل قيمتها، مفادها “اطفأ الموبايل” سواء كنت تخاف من موجة كهراطيسية، أو التبس عليك العالم بسبب كم الريلات التي تشاهدها يومياً، أو تطيع أوامر علي السيستاني، النصيحة من “الأخ الصغير” إلى علاوي وإلينا نحن جميعاً، تُختزل بجملة واحدة: أطفئ الموبايل.