يدرك “حزب الله” أنه حوّل أغلب اللبنانيين إلى مُحدِثي تحليل عسكري، وتحديداً في بيئته، ويعرف أيضاً أن من هم خارج وعي حروبه؛ وهم قلة على الأرجح، وحدهم في غفلة عن امتلاكه مخزوناً حربياً أكبر بكثير مما سيَّله في حربه الراهنة، ويعرف “حزب الله” كذلك أن السياق الميداني لوقائع “الميني” حرب الحالية فيه اختلال لصالح إسرائيل.
“حزب الله” يعرف كل هذا وأكثر، وهي معرفة اقتضت منه إطلاق مشهديات حربية كان باشرها مع مسيرات “الهدهد”، وراهناً من “خزائننا جبالنا”.
ونعرف نحن اللبنانيين؛ أو يفترض أن نعرف، أن المشهديات الأخيرة لم تسقط على أعيننا بلا دلالات، وأنها حمالة رسائل تتقاطع بالضرورة مع المنسوب المفترض لهذه الحرب، وتحديداً في راهن يطفو عليها كما لو أنها قيد المباشرة.
وأولى الدلالات، أن آخر المشهديات المبثوثة تأتي كسياق متمم لمشهديتي “الهدهد” السابقتين، مما يشي بأن الحزب في استعراض مواقع القوة لديه، يطلق مؤشرات تتفاوت كثيراً عن قدراته العسكرية خلال الأشهر العشرة الأخيرة من عمر الحرب، والتي أدرجت في المعارف أعلاه.
إنها والحال مشهديات حمالة أوجه، وتقول الشيء ونقيضه، فحين يفترض منطق الأمور أنها استعراض قوة قبل حرب كاملة المواصفات، يحتمل وجهها الآخر رسالة تشي بما هو أقرب إلى وعي عام يمتد من لبنان إلى إسرائيل، وإلى عقل الأطر الدبلوماسية العربية والعالمية، لا يريد “حزب الله” الحرب، ولكن هو لها إذا ما فرضت عليه، وهي إرادة عبر عنها أكثر من مرة أمينه العام.
في لقائه الأخير برئيس مجلس النواب نبيه بري، قال الموفد الأميركي آموس هوكستين عبارة بالغة الدلالة عن مآل الحشود البحرية الأميركية في المياه المتقاطعة مع جغرافيا الحرب، “آمل ألا نستعملها” قال هوكستين لبري، معللاً الحشود كأحد موانع الأخيرة.
أغلب الظن أن عبارة الموفد الأميركي تصح أيضاً كتورية لغوية عند “حزب الله”، فحين لا يريد الأخير الحرب، يُفترض بالضرورة ألا يستعمل ما يدأب على استعراضه كمؤشر على قوة مكنونة قادرة على تعديل الاختلال الراهن لوقائع المشاغلة الراهنة، والانتقال إلى إلحاق الهزيمة بإسرائيل، والأخيرة لا تني تتأتى كيقين مؤسس ليقينيات كثيرة تقوم عليها إيديولوجيا الحزب.
افتراض هزيمة إسرائيل يقتضي حرباً لا يزال “حزب الله” “متعففاً عنها على الأرجح، وذلك ربطاً بوقائع لبنانية وإيرانية، وإرادتها بالتعويل على مظاهر المشهديات البصرية الراهنة، يفترض أيضاً معرفة الحزب بمشهديات لم تتوان إسرائيل ولن تتوانى عن عرضها، إنما في الحرب وليس قبلها.
لا شك أن استنتاجات كثيرة خرج بها “حزب الله” في أشهر الحرب العشرة . أدرك الحزب أن وقائع حرب المشاغلة لم تتقاطع مع تثمير ميداني بُني في جزء وازن منه على وقائع حرب العام ٢٠٠٦، ويدرك بالتجربة الحالية أن إسرائيل استفادت من وقائع تلك الحرب ومآلاتها وهي تفرض الاختلال الراهن في ميزان القوة.
معيار آخر يتأتى هذه المرة من الخطاب المؤسس للحرب هنا وهناك، فغالباً ما أضفى كلام الأمين العام للحزب وقيادييه، تكثيفاً للإثارة على المشهديات الأخيرة، ولغايتين، الأولى تفترض تماسكاً أكثر لوعي بيئة تعترف ضمناً باختلال مؤشر القدرة بين حزبها وبين إسرائيل، والثانية تشاغب على الدولة العبرية بما ستؤول إليه وقائع الحرب عليها، ويندرج في سياق هذه المشاغبة أمر جوهري يمس الإسرائيليين كشعب مسكون بالذعر.
خطاب كهذا عن معايير القوة عند “حزب الله” يواجَه طردياً بخطاب من “خلية الحرب” في إسرائيل، الأخيرة استخدمت أقل من نصف قدرتها العسكرية والتدميرية في غزة، وهو أمر يفترِض ملاحظة انخفاض منسوبه على حربها الراهنة في لبنان .
والحال، من مشهديات “الهدهد”، إلى “خزائننا جبالنا”، يقول “حزب الله” إنه لا يريد الحرب الشاملة، ويفترض أن هذه المشهديات قد تتبدى كإحدى موانع الانزلاق إليها، حتى مع يقينه باستثمار بنيامين نتنياهو في “الميني حرب” الحالية وكلفتها على بيئته ومقاتليه، وعلى لبنان.