“حدا خلق حتّى يقضّي عمرو بالفانات”، يقول جعفر الطفّار (أحد مؤدّي الراب اللبنانيين)، في أحدث أغنياته حول الأوضاع في لبنان، وعنوانها “نيترات”. تمسّني هذه العبارة بشكل شخصي، إذ امتنعت عن القيادة لأكثر من سبب، واعتدت ارتياد الحافلات والفانات، يومياً، من الشمال إلى بيروت، والعكس.
تآلفت مع السائقين والركّاب، ومعظمهم من الطبقة العاملة، يتوّجهون بشكل يوميّ نحو بيروت للعمل بأبخس الرواتب، أو طلّاب يرتادون الجامعة اللبنانيّة لعدم قدرتهم على دفع أقساط الجامعات الخاصّة، أو من اللاجئين الذين لا يملكون سيّارات.
ألفا ليرة كانت التسعيرة من بيروت وإليها في الحافلات الكبيرة، و3000 ليرة في الفانات الصغيرة. والخط شغّال 24/ 24.
السائقون في سباق دائم، يتزاحمون ويتناحرون لقطف راكب الذي بدوره يختار الحافلة التي تروق له. ولا تتعدّى مدّة الانتظار ثواني.
“بات الانتظار يتجاوز الساعة، كما تفاقمت أزمة النظافة ولم تعد الحافلات آمنة من ناحية وباء كورونا، ولا بديل”.
اختلف الوضع كلياً اليوم، إذ ازدادت التعرفة بشكل جنوني، وباتت توازي أجر العامل اليومي. فقد أصبحنا ندفع من بيروت إلى طرابلس 30 ألف ليرة لبنانية، وأحياناً 40 ألفاً، بحسب مزاج السائق. وزادت تعرفة الفانات بين 60 و70 في المئة.
أما بالنسبة إلى خطّ المحافظات، فالمشكلة أكبر. في هذا السياق، أعلنت “نقليات إسطفان” في 12 آب/ أغسطس، عن توقف رحلاتها اليومية، وذلك لعدم القدرة على تأمين المواد الأساسية والحيوية للنقل.
وتجدر الاشارة الى ان نقليات إسطفان التي تُعدّ صلة الوصل بين قضاء بشّري والساحل اللّبناني وصولاً إلى بيروت، لم تتوقّف عن العمل يوماً، حتّى خلال الظروف المناخيّة القاهرة من عواصف وثلوج وطرق يكسوها الجليد. وستعاود هذه النقليات نشاطها على خطّ بشري- بيروت قريباً، ولكن في ظلّ أزمة المازوت لا يمكن ضمان عدم توقف الرحلات من جديد، ما يضع مصير الكثير من العمّال في مهبّ الريح.
“شكل توقّف نقليات إسطفان عن العمل أزمة كبيرة بالنسبة إلي، فما عدت أملك وسيلة للذهاب إلى عملي”، تقول الشّابة وفاء يزبك، التي تتوجه يومياً من منزلها في منطقة كوسبا- الكورة إلى مركز عملها في Le Mall ضبية. وتضيف: “لا مجال للعيش في بيروت، فأسعار الشقق خياليّة، ورواتبنا لا تؤمّن لنا ترف الاستئجار”.
أما الشاب جورج بطرس، الذي يعمل في أحد منتجعات البترون في شمال لبنان، فيقول: “لا أنام ليلاً بسبب الحرّ الشديد وانقطاع التيّار الكهربائي، وعندما يأتي التيار الكهربائي صباحاً أضطر إلى الخروج باكراً جداً لانتظار حافلة لساعات كي أصل إلى عملي، الذي يبعد فعلياً 15 دقيقة من منزلي”.
الشّابة إيفا سمعان تصف تجربتها مع النقل العام بالسيئة جداً، لا بل من أسوأ التجارب التي مرّت بها: “بات الانتظار يتجاوز الساعة، كما تفاقمت أزمة النظافة ولم تعد الحافلات آمنة من ناحية وباء كورونا، ولا بديل”.
إقرأوا أيضاً:
والفانات التي كانت تنطلق بسرعة من الدورة باتت تقف في انتظار راكب “من غيمة” لساعات قبل الانطلاق في رحلة الهمّ إلى الشمال، ولا ينفكّ السائق يشكو من الأوضاع والمعارك والشجارات الجماعية والدامية على محطّات البنزين، وبطولات “المكاسرة” بالأسعار في السوق السوداء.
يلعب قطاع النقل وحركة المرور دوراً اقتصادياً واجتماعياً مهماً في المجتمعات الحديثة، ومع تقدم الأزمان، وتطور مظاهر الحياة في مختلف المجالات، تطوّرت وسائل النقل. لكن هذا التطور لا ينطبق على السيناريو اللبناني، فمع الأسعار الفاحشة والانتظار الطويل، تضاف أزمة النقل العام إلى لائحة الأزمات التي ينوء الشعب اللّبناني تحت أثقالها.
تستقل الحافلات وتراقب الوجوه، بين السائق المنهك من الانتظار في طوابير المازوت، ومن الرحلات المتكّررة من بيروت وإليها، كي يجمع حفنة من المال تكاد لا تكفي لابتياع القوت اليومي، وصولاً إلى العامل الذي يساوم على التسعيرة المتقلّبة سعياً للحفاظ على ما تبقى من يوميته.
حتّى الذوق الموسيقي الصاخب لأصحاب الفانات تلاشى، وبين الحواجب المعقودة والوجوه المستاءة، والبسمة الضائعة، ترانا أمّة معذّبة محرومة من أبسط حقوقها.
على هدير البوسطة، وهدير الأزمات المتتالية، ضاع العمر سدى على الطرق، ولا مواصلات متوفرة “من ضيعة حملايا على ضيعة تنورين”، ولم تعد “عيون عليا حلوين”، أكلهما الهم.
إقرأوا أيضاً: