منذ 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، بدأت فصائل من المعارضة السورية المقربة من تركيا مثل “هيئة تحرير الشام” و”الجبهة الشامية”، عملية عسكرية واسعة النطاق استهدفت مدينة حلب ومحيطها، مما أدى إلى تغيير جذري في المشهد العسكري والسياسي السوري. هذا التحرك جاء في ظل غياب تأثير أميركي واضح، في فترة انتقالية تسبق تسلم الرئيس دونالد ترامب ولايته الجديدة، ووسط غياب التصريحات الأوروبية والعربية، مما ترك الساحة الإقليمية والدولية مفتوحة لتأثيرات روسية وتركية.
لا شك أن هذا التطور المفاجئ وضع الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية، مثل دمشق وموسكو وأنقرة وطهران، أمام تحديات جديدة، بينما تسعى كل منها لتحقيق مكاسب استراتيجية وسط ديناميكيات متغيرة.
هذه المعركة لم تكن وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات من الجمود السياسي، وتعنّت نظام الأسد، والتوترات بين حلفائه وخصومه. مما دفع أنقرة وموسكو إلى خطوات تصعيدية لضمان مصالحهما في سوريا بعيداً عن تعنّت دمشق.
ولا يمكن في هذه الظروف تجاهل التعقيدات السياسية التي تتزايد في المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية الكردية “قسد”، ودورها في هذه المعادلة المتشابكة.
نظام الأسد: سياسة صفرية وانكشاف عسكري
سياسة نظام الأسد الصفرية ورفضه أية مبادرات إقليمية أو دولية لتطبيع العلاقات أو إعادة اللاجئين، أجبرت القوى الكبرى في الملف السوري، خاصة روسيا وتركيا، على التفكير في حلول بديلة، منها العمليات العسكرية الأخيرة.
بالإضافة الى أن النظام استغل الدعم الإيراني من دون تقديم أية تنازلات، لا سيما خلال الحرب اللبنانية الإسرائيلية التي خسرت فيها إيران أحد أقوى أذرعها الخارجية “حزب الله”، مما أضعف موقفه مع حليفته الأولى.
تعرض نظام الأسد أيضاً لضربات موجعة كشفت هشاشة قواته البرية، في ظل غياب الميليشيات الإيرانية التي تواجه ضغوطاً متزايدة في سوريا. وغياب التفوق الجوي، الذي كانت تديره روسيا سابقاً، الذي يعكس تحييداً متعمداً من موسكو، مما يفتح الباب أمام تساؤلات حول أهدافها الفعلية. هذا التراجع جعل النظام يبدو أقل مركزية في المشهد السوري، حيث بدا كأنه أداة ضمن صراع النفوذ بين تركيا وإيران وروسيا.
روسيا: ضبط الإيقاع بدون خسائر
حرصت روسيا على الحياد النسبي في التصعيد الأخير، لا سيما في الأيام الأولى من الهجوم، حيث اكتفت بتصريح حذر عبر المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، واعتبر ما يجري اعتداء على سيادة سوريا، من دون الإشارة إلى دور تركيا، في حين يشير تردد موسكو في الدعم الجوي، إلى رغبة موسكو في الضغط على دمشق وطهران لتمرير تفاهمات جديدة، مع أنقرة، وربما إعادة إحياء اتفاقية أضنة 1998 التي تضمنت ترتيبات أمنية بين أنقرة ودمشق، أو صياغة تفاهمات جديدة تضمن مصالحها في سوريا.
إقرأوا أيضاً:
تركيا لاعب متعدد الأدوار
هدف تركيا الرئيسي يبدو واضحاً: إعادة رسم خارطة النفوذ بما يتناسب مع مصالحها الإقليمية، خصوصاً مع اقتراب إدارة ترامب من استلام السلطة. لوحظ تدخل خجول للـ”الجيش الوطني السوري”، المدعوم من أنقرة، عن المعارك الحالية، هذه الخطوة قد تعكس استعداد تركيا للتخلي عن بعض الفصائل المشاركة في المعارك الأخيرة في حال تحقيق تفاهمات جديدة مع روسيا وإيران.
في ذات الوقت أطلق “الجيش الوطني السوري” عملية “فجر الحرية” واشتبك مع قوات كردية، ما يثير تساؤلات حول مصير هذه القوات إذا قررت تركيا المضي في تفاهمات قد تترك المعارضة تواجه مصيرها منفردة أو توظف في الاشتباك مع القوات الكردية المعادية لتركيّا، خصوصاً مع أخبار عن تهجير الآلاف الأكراد من ريف حلب، ومحاولة سيطرة الفصائل الكردية عى مطار حلب ثم تسليمه لفصائل “ردع العدوان”.
وصف نظام الأسد الهجوم بأنه مؤامرة دولية مدعومة من فرنسا وأوكرانيا وتركيا واتهم إعلام النظام فصائل المعارضة بأنها تعمل بإمرة نتنياهو، بينما حذرت إيران تركيا من المضي في دعم الفصائل، معتبرة ما يجري جزءاً من مشروع أميركي- إسرائيلي.
غياب الموقف الأميركي والأوروبي
غياب رد فعل واضح من الولايات المتحدة يعكس انشغالها بالفترة الانتقالية قبل تولي ترامب السلطة. يُتوقع أن تتابع واشنطن عن كثب التطورات دون تدخل مباشر، طالما أن العمليات لا تمس مصالحها في شرق سوريا.
الصمت الأوروبي والعربي يعكس تراجع اهتمام هذه القوى بالملف السوري، مما ترك الساحة مفتوحة أمام موسكو وأنقرة لإعادة ترتيب المشهد، وعلى الرغم من اتصالات قام بها الأسد مع دول أقليميّة كالإمارات والعراق، أكدت الأخيرة أن حدودها مغلقة كلياً مع سوريا، في تخوف دائم من خلايا داعش التي قد تظهر مرة أخرى للعلن، ناهيك بأخبار عن قصف قوات التحالف لأرتال عسكرية تابعة لمليشيات إيرانية وعراقية كانت في طريقها نحو سوريا.
أما في إسرائيل، على رغم تحذيرات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لبشار الأسد، استفاد النظام من سياسة إسرائيلية ثابتة بعدم السعي لإسقاطه، مما أثار تساؤلات عن دور إسرائيل في الصراع، خصوصاً أنها تنتظر أي فرصة لقصف المليشيات الإيرانية وميليشيات حزب الله في حال تحركها، كون اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان لم يشمل سوريا ما تحويه من عناصر مسلحة.
إعادة رسم خريطة النزوح والتغير الديموغرافي
تسعى تركيا لإعادة توطين ملايين اللاجئين في المناطق التي تسيطر عليها في شمال سوريا، مما قد يغير البنية السكانية ويثير توترات مع القوى الكردية ومع نظام الأسد. هذا التحرك يثير قلقاً دولياً بشأن إمكانية تصاعد الأزمات الإنسانية والأمنية.
أما مع وصول الفصائل إلى مدينة حلب، تواجه المعارضة المسلحة تحديات كبيرة تتعلق بإدارة منطقة تضم 4 ملايين نسمة من مشارب قومية ودينية وفكرية متعددة، خصوصاً الأقليات الدينيّة التي طمأنتها “هيئة تحرير الشام” لكن ذلك لا ينفي تاريخ هذه “الهيئة” في التعامل مع الأقليات الدينية والحقوق الفردية. كما سيكون تأمين الغذاء والخدمات الصحية وضبط الأمن، اختباراً رئيسياً لقدرة المعارضة على تقديم بديل فعال للنظام. خاصة في ظل غياب موارد دعم مستدامة.
في ذات الوقت هناك الأكراد الذين بعد سيطرة “الجيش الوطني السوري” على تل رفعت، وخوفاً من حرب والاشتباكات قرر الآلاف الاتجاه نحو مناطق شمال شرقي سوريا (الإدارة الذاتيّة)، على رغم تطمين “هيئة تحرير الشام لهم”، لكن لا نعلم إن كان “الجيش الوطني السوري” سيتفرد بالقرار فيما يخص العلاقة مع الأكراد أم يتبنى خطاب “الطمأنة” الذي تصدره “إدارة العمليات العسكريّة” وفي الوقت ذاته، قد تضطر “قسد” إلى تقديم تنازلات سياسية أو عسكرية لتجنب المواجهة المباشرة مع تركيا أو لتثبيت نفوذها في المنطقة.
في هذه الظروف، سيعتمد استمرار المعارضة في التقدم على قدرتها في إدارة المناطق المحررة، والحفاظ على زخمها العسكري، والاستفادة من دعم تركيا دون الوقوع ضحية لأي اتفاقيات سياسية محتملة. خاصة وأن الاعتماد المفرط على تركيا قد يجعل المعارضة عُرضة للضغوط إذا تغيّرت أولويات أنقرة.
القصف الجوي الروسي واستهداف المدنيين يُعتبران التحديين الرئيسيين أمام المعارضة، حيث تستخدم روسيا هذه الأساليب للضغط على تركيا والفصائل.تبقى الأيام المقبلة حاسمة في تحديد مسار المشهد السوري، حيث تُرسم الخطوط العريضة لمعادلات جديدة، مع تراجع دور النظام وتصاعد نفوذ القوى الإقليمية والدولية.
والمؤكد أن روسيا ستواصل لعب دور الوسيط، وقد تسعى لتحقيق توافق يضمن مصالحها ويخفف التوتر مع تركيا. لكنها ستحافظ على نهجها المرن في إدارة التصعيد، مع احتفاظها بخطوط حمر قد تؤدي إلى تدخل مباشر إذا تجاوز الهجوم مصالحها.
إقرأوا أيضاً: