بعد أسابيع على تداعيات استياء “غير رسمي” عبر قنوات صحافية محلية تجاه الحكومة السورية، صعّد الأردن لهجة خطابِه السياسي علناً في نيويورك، تجاه دمشق بطريقة بدت وكأنها بداية انعطافة عن دبلوماسية ناعمة انتهجتها عمّان خلال العامين الماضيين. إذ كان الأردن “رأس حربة” دبلوماسية الاحتواء التي أفضت إلى كسر عزلة رئيس النظام السوري بشار الأسد عربياً بعد غياب 12 عاماً.
لم يخفِ ملك الأردن عبد الله الثاني في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة “خيبة أمله” من وأد مبادرة “خطوة مقابل خطوة”، التي أطلقتها بلاده كأساس للتعامل مع نظام الأسد على أمل تخطّي أزمة متناسلة قوامها محاولات تسلل وتهريب “مخدرات وأسلحة”، فوق أزمة اللاجئين السوريين وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية في المملكة.
الأردن “صبر طويلاً”
تلقي أزمة تهريب المخدرات بظلالها على دول المنطقة بأسرها، لكن يتلقّى الأردن أكبر قدر من تبعاتها سواء كان الأمر يتعلق بالمسيرات التي تحمل مخدر “الكريستال” أو الأسلحة التي تهرّب عبر الحدود. التبعات الأمنية والاقتصادية تشغل الجانب الأردني، خصوصاً أنها تتفاقم بصورة شبه يوميّة، على رغم اللقاءات رفيعة المستوى بين مسؤولي عمّان و دمشق، في ظل تجدّد المظاهرات في السويداء المتاخمة لحدود المملكة الشمالية وازدياد عمليات التهريب، وهو ما انتقده صراحة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في نيويورك.
في أول نشاط رسمي بعد عودته من الولايات المتحدة وبزيّه العسكري قائداً أعلى للقوات المسلحة، أعلن الملك أمام شخصيات سياسية وعشائرية أن خطابه في نيويورك كان إنذاراً للعالم من تداعيات الأزمة السورية وانفلات خاصرتها الجنوبية. كما أكد أن الأردن لن يتوانى عن فعل “ما يلزم” بهدف حماية حدوده.
يرى وزير الدولة الأسبق محمود الخرابشة في حديث إلى “درج” أن الأردن “صبر طويلاً” قبل أن يرفع صوته حيال المخاطر التي تهدّد المنطقة بسبب “سلبية الحكومة السورية”.
المشاهد السابقة تزامنت مع إعلان الجيش الأردني إسقاط طائرتين مسيّرتين محملتين بمخدر الكريستال من سوريا، ليرتفع إلى 14 عدد المسيرات المُسقطة منذ بداية العام الحالي منها 3 مسّيرات محملة بأسلحة ومتفجرات.
تلك الاختراقات والنبرة الدبلوماسية الصارمة، رفعتا منسوب الشعور من أن عمّان الرسمية “غسلت يديها” من جارتها الشمالية، وتتجه للاستدارة صوب حلول مختلفة وربما “قاسية”، كما يراها الوزير الخرابشة.
خلال سنوات الحرب، أدارت عمّان دفة علاقاتها مع سوريا بتوازن مضبوط على إيقاع بوصلة حماية أمنها الوطني، دون أن تقطع “شعرة معاوية” بينها وبين أي من الأطراف، لكنها اليوم مضطرة للبحث عن خيارات جديدة لحماية مصالحها الوطنية وصدّ التهديدات من بوابتها الشمالية.
“المنطقة العازلة” مستبعدة
لم يحسم الأردن بعد خياراته المطروحة في “حربه على الكبتاجون”، بحسب محللين تحدثوا إلى “درج”؛ لكن وزير الإعلام الأسبق سميح المعايطة يستبعد ما تروج له وسائل إعلام سورية معارضة، بخصوص التحضير لإقامة منطقة عازلة على الحدود.
يجادل المعايطة بأن المنطقة العازلة تستلزم دخول الجيش الأردني إلى سوريا والاستقرار فيها، مؤكدا أن الأردن تحاشى ذلك في ذروة الأزمة التي فرّخت تنظيمات إرهابية وميليشيات متطرفة وصلت “آثارها” صوب أراضيه. السبب الثاني، بحسب المعايطة، هو غياب أي أطماع لدى عمان حيال جارتها الشمالية “ولا حتى بالسيطرة على شبر من أراضيها”. كما يوضح أن الأردن لم يستنفذ جميع الوسائل لحماية حدوده لكي يتخذ مثل هذا القرار.
الأهم من ذلك، أن الأردن “لن يزج بجيشه في المستنقع السوري ليخوض معارك بالنيابة عن أحد”، كما يجزم الخبير العسكري جلال العبادي لـ”درج”.
لم يخفِ ملك الأردن عبد الله الثاني في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة “خيبة أمله” من وأد مبادرة “خطوة مقابل خطوة”، التي أطلقتها بلاده كأساس للتعامل مع نظام الأسد على أمل تخطّي أزمة متناسلة قوامها محاولات تسلل وتهريب “مخدرات وأسلحة”
صحيح أن عمان هي أول خطوط مواجهة التهريب والأكثر تضرراً وإنهاكاً، لكنها ليست الهدف الوحيد “لبعض عناصر الحكومة السورية وإيران ووكلائها”، كما حدّدها ملك الأردن خلال لقائه رئيس منصّة “المونيتور” في نيويورك. فعين إيران على السعودية أولاً تليها شقيقاتها من دول الخليج، بحسب العبادي، فيما تراجع ترتيب أزمات الشرق على مؤشر الاهتمام الدولي لمصلحة الحرب الروسية-الأوكرانية.
وفي خلفية المشهد تتصاعد التسريبات حول استيقاظ خلايا داعش “بقدرة قادر” في بعض مناطق سوريا والعراق، بالتزامن مع قدح شرارة ربيع عربي جديد في السويداء ودير الزور والساحل.
تبدو سوريا بحسب المعطيات والتحليلات وكأنها “قنبلة تُتَكتِك” في حضن العرب، فوق أنها أصبحت مسرحاً لـ “ثالوث أباطرة التهريب ورعاة الكبتاجون والكرِيستال ميث: إيران وحزب الله والفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق بشار”.
“مخلفات حرب” عصية على الحل
مؤشرات القلق السابقة المرتبطة كل خيوطها بسوريا، كان من الممكن اعتبارها “مخلّفات حرب” ثقيلة. يمكن التعامل معها ولو ببطء بعد كسر عزلة بشار الأسد عربياً، لولا أن انقلب الأخير في أول ظهور تلفزيوني له بعد أقل من ثلاثة شهور من اجتماعات قمة جدة المنعقدة في أيار/مايو الماضي، ليحمّل مسؤولية التهريب لمن عدّها “دولاً أسهمت في خلق فوضى سوريا” دون أن يسمّيها.
ذلك التصريح لم يبدّد افتراضات حسن النية م فحسب، بل أوحى أيضا بوجود دوافع “ثأرية” لديه تجاه الأردن وسائر العرب، من منظور الخبير العسكري جلال العبادي، وسط تسريبات حول تراجع الرياض إلى جانب عمّان، خطوة للخلف، لإعادة النظر في الملف السوري، وهو على ما يبدو ما أجل افتتاح السفارة السعودية في دمشق، بحسب التحليلات.
هنا تحديداً تتجلّى حقيقة مُرّة “لكنها حقيقة”، كما يصفها الفريق المتقاعد قاصد محمود لـ “درج”. فسوريا اليوم في الواقع ليست سوريا السابقة الموجودة في أذهاننا. ذلك أنها استحالت جغرافْيا يطوّعها محتلّوها للضغط على الأردن وقراره السياسي وتهديد عمق أمنه الوطني، حسبما يشرح.
هذه الحقيقة قد تدفع عمّان لحرف مسار حوارها وتفاعلاتها مع نظام “لا يملك قراره” أصلاً، صوب دول إقليمية فاعلة مثل روسيا وتركيا، عدا عن الضغط لاستثمار الإحياء الحذر للعلاقاتِ السعودية-الإيرانية، وفق رأي الفريق. وكذلك اللجوء لضرب الأهداف المرصودة على الرادار الاستخباراتي “الدقيق” جوياً ودون تردد.
خيار أخير
الوزير الأسبق محمود الخرابشة يشاطر الفريق المتقاعد رأيه حول ضرورة تكثيف الغارات الجوية على الأهداف التي رصدتها عمّان وتجاهلتها دمشق، على رغم إطْلاع دمشق على هذه الأهداف في اجتماعات أمنية رفيعة المستوى بين الجانبين، لكن النتيجة كانت تكثيف التهريب وتطور مستواه، بل ذهب المسؤولان السابقان في رأيهما إلى ضرورة دعم الدول على المستويين العربي والإقليمي لقرارات عمّان مهما كانت، إذ تلاصق وحيدة خط النار، بينما ينهمك الجميع بإدارة مصالحه وتحالفاته.
على الضفة المقابلة لهذا الرأي، يعتبر الباحث الأميركي المتخصّص بمنطقة الشرق الأوسط، سام هيلر، أن الأردن لا يخوض حربه على المخدرات وحيداً.
على الرغم من أنّ دول الخليج تفضل على ما يبدو الحلول الخاصة الأحادية لمكافحة المخدرات، من وجهة نظر هيلر، إلا أن الولايات المتحدة تساند الأردن في جهوده لمكافحة المخدرات عبر تقديم دعم عيني واستشاري لدعم رقابة معابر رسمية وحدود برية مع سوريا، كما قدمت الحكومة الأميركية لشريكها الأردني، كما يصفها هيلر، الدعم لبرامج تهدف للحد من الاتجار بالمخدرات وتعاطيها في الداخل الأردني.
في هذا السياق يرى محللون أن الدعم الذي تحتاجه عمان اليوم يتجاوز الحاجة إلى تقديم المشورة وبرامج التوعوية، على أهميتها. ويعتقد الباحث الأمريكي في حديثه لـ “درج” بأن الشركاء الدوليين للأردن يدعمون ضمنياً أي ضربات أردنية على أهداف تتعلق بالمخدرات، تماماً كما فعلوا حين قتل المهرب البارز والخطير “مرعي الرمثان” رغم أن السلطات الأردنية لم تؤكد مسؤوليتها عن الضربة.
بكل الأحوال.. الأيام المقبلة ستكشف “ما الذي سيحدث على الحدود الشمالية في الأردن؟”.. وهو السؤال الذي يتردد في أذهان الجميع اليوم.