توفي جدي لأبي منذ ٢١ عاماً، كدت أنساه مع مضي كل تلك السنوات، لم أتذكره كما حصل عندما وصلني تحذير إسرائيلي بإخلاء بعلبك ودورس المجاورة لها حيث منزل جدي… أول ما خطر لي أن عائلة والدي بأطفالها قد تذهب ضحية مجزرة، أرعبتني الفكرة وتسببت لي بإرهاق وألم في الرأس، أُخلي المنزل ليومين فقط، بحكم متطلبات النزوح، خشيت على جدرانه وكأني أقطن فيه وكأنه لن يكون لي مكان من بعده، شعرت بأنه يستحق البقاء أكثر من القصور التي توثّق قصصها.
هو بيت غير صغير لكنه متواضع، يحتضن جدتي التي عاشت حياة بسيطة ويجمع أبناءها وبناتها والأحفاد، أذكر كيف كان جدي كادحاً عفيف النفس، بعد عقود من العمل اشترى قطعة أرض، وبنى عليها منزلاً سكنه قبل أن يتمكن من إكمال تفاصيله، كان بعضها يكتمل شيئاً فشيئاً من اللحم الحيّ.
تذكرت طفولتي في ذلك المنزل المسكون بعزة النفس والهدوء، تذكرت وجه جدي بتفاصيله، أفراح ذلك البيت وأحزانه، ومشهد جدي الأخير فيه بعد أن تمكن منه المرض، تفاصيل السرير الذي وُضع عليه جثمانه قبيل التشييع إلى مثواه الأخير.
عاد أمامي مشهد تلك الزاوية التي ارتكبت فيها رذيلة طفلة حاولت تقليد الكبار، فاستلت سيجارة من كل علبة من علب منوعة وُضعت في صينية الضيافة، كما كانت العادة في بعلبك، وأشعلتها لتتذوقها من دون أن تعرف كيف يُسحب الدخان إلى الرئتين، طفلة كشفت العمة جريمتها وتسامحت معها لتمضي دون عقاب يذكر. بت أخاف على تلك الزاوية من التدمير وأتمنى أن أعود وأُشعل سيجارة هناك وإن أغضبت جدتي، عل خيوط السيجارة إذ تعلو تلتقي بتلك التي نفثتها الطفولة، ويصبح أقسى ما نحمله هم طفل بأن لا تُكشف جرائمه الصغيرة.
تُحيي الحرب فيّ رغبة في العودة إلى تلك الأمكنة، التيّ تغيّرت ملامحها بوحشية
أنا اليوم خارج لبنان
ثلاث سنوات مرت وأنا أحاول خلالها إنهاء مراسم الحداد على وطن هُجّرت منه قسراً. ثلاث سنوات وأنا أحاول التصالح مع فكرة أني خسرت وطني، مع ما تحمله عبارة من كلمتين فقط من عظيم المشاعر والأوجاع. حاولت التصالح مع فكرة أن لا عودة لي إلى لبنان في المدى المنظور، وحاولت التحايل على نفسي لإقناعها بقبول أنها لن تعود أبداً.
ظننت الأمر قابلاً للتحقق، ظننت أني بإغلاق الشاشة التي تُغرقني بأخبار لبنان، وبالسير تحت سماء ملونة يظلّل غيمها المحظوظين، لا تحمل معها موت الأطفال ولا تمطر قصفاً وبلاءً، يمكنني العيش بسلام. بذلت جهداً لتقبّل خسارة بحجم وطن، والتسليم بأنه ما عاد لي واحد اسمه لبنان، لتأتي الحرب وتنقّب عما طُمر من ذكريات، ولتعيد رسم تفاصيل الأحياء والماضي، متقصدة تعميق الجرح. تواجهني بحقيقة أن الوطن هو هويتنا الغارزة فينا، التي لا يمكن تخطّيها بمجرد التنعم بفرص نجاة وعيش أفضل.
تطوّرت الحرب إلى إبادة إسرائيل أحياء كاملة في مناطق في لبنان، اقترب الموت أمتاراً قليلة من دمنا المتبقي هناك. في تدمير أحياء عشنا فيها، أنا ومن صادقت وأحببت، اعتداء على ذاكرتنا هناك. اعتداء يُحيي ذكريات مضت طيّ تسارع الحياة ويوميات تبلور ذكريات جديدة، ظننا أنها ستطغى على ما سبقها. لكن صور الدمار توقظ فيّ مشاهد الماضي التي ظننتها مُحيت من مخيلتي، ذكرتني من أكون، أعادت إلى رأسي تنظيم شريط حياة يمرّ بطيئاً ليخبرني أين نشأت، كيف وماذا عشت منذ كنت طفلة تمتلك القدرة على التذكر حتى لحظة التهجير القاسية، وبينما يمرّ شريط الذاكرة يتملّكني خوف، من أن يكون هذا الشريط شريط حداد ووداع أخير لكلّ ما كان وما عاد بالإمكان أن يكون.
تُحيي الحرب فيّ رغبة في العودة إلى تلك الأمكنة، التيّ تغيّرت ملامحها بوحشية، رغبة لا أفهم إن كانت للبحث عما تبقّى من هذه الذكريات التي لم تعد إلا في رأسي فقط، أم أنها لإقامة عزاء فوق ما سيتبقى بعد انتهاء التدمير؟ أم هي مجرد رغبة ساذجة بتحدي الموت؟
يحمل أطفالنا اليوم أشلاء آبائهم، وتبقى المدن مهما قست علينا تذكرنا وهي تدمر أنّا منها وأنّا إليها دوماً مشدودون وعائدون. هي المدن، وإن كانت بعيدة يظل قتلها موجع حد انسلاخ الروح.
إقرأوا أيضاً: