قضى في القصف الإسرائيلي على بلدتي، شقرا، في قضاء بنت جبيل، 17 شخصاً معظمهم من المدنيين، ومن بينهم عائلتان، واحدة منهما من آل غريب استهدفها الطيران في منزلها في منطقة الحوش جنوب مدينة صور، والثانية من آل بدر الدين أبادتها طائرة في منزلها في شقرا. كما قُتل أفراد من عائلة من شقرا أيضاً تقيم في مدينة بنت جبيل. وقتلت الغارات يوسف الأمين في منزله، وهو أحد أقاربي ويقيم في بلدة عنقون في قضاء صيدا. يوسف الذي يجايلني، كنت ألتقيه في جل البحر في بيروت أمام مدرسة ابني، نشرب القهوة وليس بيننا سوى تبادل ابتسامات وصمت ومودّة.
هذه خريطة صغيرة لضحايا القصف ممن تربطهم بي علاقة تتفاوت بين القرابة الرحمية والقرابة الجغرافية، والتي لم يخفف انتشار أفرادها من احتمالات استهدافها. فخريطة استهداف المدنيين كانت فضفاضة بحيث قتلت شخصين من عائلة واحدة في مكانين مختلفين. نحن نتحدث عن ألف ومئة غارة حصلت في أقل من خمس ساعات! والهارب من الغارات من شقرا باتجاه بيروت، كان عرضة لغارة على طريق الغازية، أي على مسافة نحو 60 كيلومتراً من مكان الهروب الأول. هذا الأمر حصل فعلاً.
هذه التمارين الدموية لم يسبق أن اختبرها الجنوبيون، منذ افتتحت إسرائيل زمن الإغارات على بيوتهم وسياراتهم. تحذيرات الجيش الإسرائيلي للسكان من الابتعاد عن أمكنة خبأ فيها “حزب الله” سلاحاً، كانت أقرب إلى نكتة سمجة. من يعرف أين يخبئ حزب الله سلاحه؟ لا سلاح في محيط المنازل، ومن اكتشف وجود سلاح فعل ذلك بعدما قتلته الطائرة المغيرة.
معادلة القصف الإسرائيلي قضت بأن استهداف مقاتل أو عنصر في حزب الله يجب ألا توقفه “خسائر جانبية” من المدنيين قد تبلغ عشرة أضعاف الهدف. والمستهدفون من عناصر الحزب، لم يُستهدفوا على خطوط القتال، إنما أيضاً في منازلهم، مع عائلاتهم وجيرانهم، أو في سيارات الإسعاف وفي المستشفيات الميدانية. فلا ضوابط لشهية القتل.
ثم إننا نحن أبناء القرى المقيمين في بيروت لم نكن في منأى عن مشاهد الموت في قرانا. نقلتها إلينا هذه المرة هواتف أقاربنا ممن التقطوا الغارات بها على نحو أكثر قرباً مما تفعله كاميرات التلفزيونات. الفيديو يصلنا عبر هاتفنا متضمناً أصوات استغاثات من نعرفهم. إنه صوت حسين علي ذياب، ذاك الذي سمعته يصرخ قائلاً: “ولعت الدنيا كلها… نزلت بقلب البركة… ليك القزاز… ولعت الدنيا”. الصوت وصلنا مع مشاهد غبار كثيف في محيط البركة. التقط المشهد في لحظة سقوط القذيفة.
شقرا التي انتظرت سنة لكي تنضم إلى القرى المنكوبة في محيطها، جاءها القصف مرة واحدة. يوم واحد، بل ساعات قليلة، وانضمت إلى هلال الخراب الذي يزنّرها من جهات بلدات حولا وميس الجبل وبليدا. ساعات قليلة وأحالتها الطائرات إلى بلدة يغطّيها الغبار. وما هي إلا لحظات حتى بدأت الأخبار تصلنا عن عدد الضحايا.
ثم إننا، هذه المرة، جعلنا نرصد ما أصاب أهل قريتنا من خلال أصواتهم التي تصلنا على شكل استغاثات في مقاطع الفيديو الهاتفية. لعله ليس صوت حسين ذاك الذي سمعته يستغيث، ذاك أن شقيقي التقاه في صيدا، راكناً سيارته أمام القلعة البرية، وفي المقعد الخلفي للسيارة كانت هناك عجوز نائمة، قال له إنها أم زوجته، وهي مقعدة، وهو ينتظر من يرشده إلى إحدى المدارس لكي يأوي إليها. إذاً هذا ليس صوت حسين.
لم يعد التسمّر أمام شاشات التلفزيون وسيلتنا لمعرفة أخبار قرانا في ظل الحرب. الهواتف أكثر رشاقة وسرعة ودقة. غروبات الواتسآب أسرع من قناة “الجزيرة” في نقل مشاهد أضيق للغارات، فهي منصات متخصصة بمناطق أصحابها، بينما تنقل التلفزيونات المشاهد والأخبار العامة، وهي غير معنيّة بالمآسي الصغرى.
الهواتف التي اخترقتها إسرائيل وأرسلت إليها رسائل تهديد للسكان، نقلت هي نفسها صور الفظائع التي ارتكبتها. فيديوات كثيرة تصلنا ولا نقوى على إعادة إرسالها.
عائلة من آل بدر الدين قتلتها غارة بكاملها. حين وصلني الخبر، حاولت تفادي معرفة الأسماء، ذاك أن صديقة أمي ورفيقتها إلى الحج من آل بدر الدين، وأنا الآن وفي ظل الغارات لا أقوى على استعادة وجه تلك السيدة، وأفضّل ألا أعرف.
قررت لاحقاً أن أخرج من الغروب. الاقتراب إلى هذا الحد من الكابوس غير مفيد. فالخبر السيئ سيصلنا على كل حال، ومن غير المفيد أن نوثّقه بالصورة.
وصلني فيديو عن صلاة الجنازة لضحيتين من شقرا، جُمعت أشلاؤهما في كيسي نايلون، فيما وقف وراء إمام البلدة أثناء الصلاة عدد قليل من رجال الإسعاف، هذا المشهد لازمني منذ أن وصلني الفيديو. رجل دين حزين وخلفه مسعفون صامتون، وأمامه كيسا نيلون ضمّا أشلاء ضحيتين.