fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عن الألم السوري: الشرّيرة أو السلطة الاستبدادية… 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الزمن لا يُعاش فقط كمدّة زمنية، بل يُبنى سيميائياً وثقافياً، ويُستدعى ويُستحضر عبر الرموز والحنين والتصوّرات. نظام الأسد، كان وما يزال هو الشرّيرة في قصّة “بياض الثلج” السورية، في عقود مستمرّة ومتواصلة، عرف فيها كيفية استخدام الأقنعة قاصداً القتل، مرّة يأتي بمشط مسموم، ومرّة بتفاحة مسمومة، ومرّة يُرسل صياداً ليقنص قلب بياض الثلج (الشعب السوري) هذا الماضي لن يجعل السمّ في أي حال من الأحوال قابلاً للبلع، لا في الماضي ولا في الآتي.  

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميْتٍ/ إنّما الميْتُ ميِّتُ الأحياءِ. الشاعر الأندلسي ابن عبد ربه (860-940).

نعيش نحن السوريين في مفارقة زمنية شديدة الغرابة منذ سقوط نظام الأسد، وما تبعه من تعقيدات تخصّ مجازر الساحل. وعلى الرغم من أننا، ظاهرياً، أبناء زمن واقعي واحد، أي لحظة سياسية وتاريخية معروفة، محسوبة بالدقائق وبالضحايا وبالتقارير، فالواقع أعمق وأكثر تشظياً، إذ يسكن كلّ واحد منّا زمناً مختلفاً. البعض ما يزال يعيش في وهم الزمان الآتي ملتمّعاً مثل ذهب خالص، وآخرون يعلّقون آمالهم على عدالة مؤجّلة، فيما تتجمّد شرائح واسعة من الوعي في زمن الألم، بلا ماضٍ محسوم، ولا خطى آتية واضحة. هذا التوتّر بين المعنى والرمز، حيث يبدو الزمن عند السوريين وكأنه يحمل وجهي الحياة والموت معاً، ويتحوّل إلى مساحة يتجاور فيها الأمل والخذلان، والانتظار واليأس، إلى عنف يليه عنف.

الزمن لا يُعاش فقط كمدّة زمنية، بل يُبنى سيميائياً وثقافياً، ويُستدعى ويُستحضر عبر الرموز والحنين والتصوّرات. نظام الأسد، كان وما يزال هو الشرّيرة في قصّة “بياض الثلج” السورية، في عقود مستمرّة ومتواصلة، عرف فيها كيفية استخدام الأقنعة قاصداً القتل، مرّة يأتي بمشط مسموم، ومرّة بتفاحة مسمومة، ومرّة يُرسل صياداً ليقنص قلب بياض الثلج (الشعب السوري) هذا الماضي لن يجعل السمّ في أي حال من الأحوال قابلاً للبلع، لا في الماضي ولا في الآتي.  

لم ينل “الصيّاد أو القنّاص” من قلبنا الطيب، فلم نمت جميعاً. في القصّة الأصلية، يقدّم الصيّاد للملكة الشرّيرة قلب خنزيرٍ برّي، بدلاً من قلب بياض الثلج، وفي ظنّه، طبعاً، أنها ستموت جوعاً في الغابة، أي أنه لم يتركها شفقة عليها، بل جبن أمام براءتها.

نخوض في هذه القصّة التي تُستخدَم كتمرين ذهني نفسي في مجال التحليل النفسي، ليستطيع الشخص الطيّب الساذج الذي يُصادف الشرّير/ الشرّيرة، التي هي غالباً ما تتمثّل جوهرياً برمز السلطة: الأمّ أو الأب، أو السلطة السياسية، أو المعتدي… إلخ، يهدف التمرين إلى مساعدة من تُسقَط عليه صورة بياض الثلج، من أجل الخروج الآمن من مرحلة السذاجة La naïveté إلى مرحلة الوعي، من دون خدش الطيبة La bonté، تلك الخصلة الأساسية في جوهر إنسانيتها، فإن فقدت تلك الطيبة ما عادت بشرية، بل انعكست في صورة الشرّ، حطاماً، وتوليداً لعنف داخلي بدلاً من تفريغ له.

الشعب، في المقابل، يملك زمناً آخر: زمناً مستحضَراً، زمناً يُعاد فيه سرد الحكاية من جديد، كلّ مرّة بالأمل نفسه، بالسذاجة نفسها، بالرغبة في الخلاص نفسها. نكتب الزمن، نُنتج الزمن، ونعيشه لكن لا نتحكّم فيه. وفي سياقنا هذا، فالسذاجة ليست مأخذاً، بل هي تمثّل شخصية طبيعية بسيطة وحقيقية، وجمالياتها في الصدق وفي تصديق الآخر، دون الشك، إلا أنها لا تصلح في السياسة، ولا تصلح في أوقات الخطر، بل تصبح هي الخطر. 

الكاتب السوري، القارئ السوري، السوري، كلّ منهم يعيش تداخلاً بين: زمن إنتاج الألم (temps de production) وزمن تنظيم الخطاب حوله (temps de la disposition) وزمن التلقّي (temps de la réception) كيف يتلقّى الآخرون حكايتنا؟ أو كيف نتلقّاها نحن أنفسنا؟ الزمن ليس فقط مدّة، بل هو ثقافة، وذاكرة، وتمثيل رمزي. الزمن السوري إذاً  ليس من نوع واحد، إنه نصّ متعدّد الأصوات، تتصارع فيه الأزمنة أكثر من الأجساد.

هناك رابط بين سذاجة بياض الثلج، التي تتكرّر رغم الإنذارات، وبين طيبة الشعب السوري الذي رغم المآسي المتكرّرة، يظلّ يأمل بسلطة سياسية لطيفة، ساحرة، وديمقراطية. حاله كحال أي شعب. 
بياض الثلج تعرف عدوّتها وإلا لما كانت اختبأت في الغابة، مثلما يعرف طفل سوري عمره ستّ سنوات، من مخيّم كفرنبودة، من هو عدوّه، ومن قتل أهله، يقول: “نحنا بشّار الأسد نهبنا، قتلنا، أشو نحنا عملنالو؟”، يسأل بطيبة، محاولاً تفكيك الشرّ: “ماذا فعلنا لبشّار الأسد ليقتلنا؟ وبالعامية السورية: “أشو نحنا عملنالو؟”، يسأل الطفل غير دارٍ أن القاتل والمعتدي لا يحتاج إلى سبب للقتل، وربما أغراه جمال السوريين ونبضهم، عفويتهم وصدقهم، أصالتهم وذكاؤهم. اليوم يخرج السوريون من السذاجة، لكن تُلازمهم الطيبة، طيبة كبيرة لا يمكن لها استيعاب هول الشرّ. 

في حكاية “بياض الثلج”، تتكرّر السذاجة كما لو أنها قدر. الفتاة الطيبة، رغم كلّ التحذيرات، تستقبل المرأة الشرّيرة ثلاث مرات، وتُصاب كلّ مرّة بشرّ قاتل “بتفاحة، بمشط، وبحزام”، وتغرق في غيبوبة مؤقتة لا تُوقظها إلا المعجزة. لكنّ هذه المعجزة غالباً، ليست كما تصفها حكايات الأطفال، يمكن للشرّ أن يكون أنيقاً، مترافقاً مع كلّ ما يشوّش ذهن هذه الفتاة البريئة، ولِمَ ستحتاج هذه الصبية أميراً، بعد كلّ ما واجهته؟

كما في نهاية حكاية “بياض الثلج”، لا يكفي مجرّد الانتظار ليتحقّق الخلاص، بل لا بدّ من كسر الحلقة، من رفض استقبال المرأة الشرّيرة مجدّداً، حتى لو جاءت متنكّرة بلغة جديدة، وابتسامة ناعمة ماكرة معتذرة.

هذه الحكاية، بتكرارها شبه العبثي، ليست مجرّد قصّة أطفال. إنها، في شكل مأساوي، تُشبه المسار الزمني للشعب السوري. منذ أكثر من نصف قرن، والسوريون يعيشون على أمل التغيير، الأمل بأن الحاكمة الشرّيرة، يمكن لها أن تتغيّر، أمل الإصلاح، وفي كلّ مرّة تأتي “المرأة الشرّيرة” في هيئة جديدة، بلغة جديدة، وباسم جديد.

هنا تبرز أهميّة فهم الزمن، فالزمن ليس فقط تسلسلاً من الأحداث، بل هو بنية تحمل دلالات مختلفة، وفي التعمّق قليلاً في الزمن السوري، يظهر الزمن الموضوعي أو الثيماتي (le temps thématisé) ذلك الزمن السردي الذي يُعيد نفسه كأننا داخل رواية أو أسطورة دائرية. الزمن السوري، في كثير من وجوهه، أصبح زمناً ذا طابع موضوعي: قصّة تتكرّر بلا نهاية، بشخصيات تختلف بالأسماء لا بالأفعال، وكأننا نعيش داخل نص كُتب سلفاً، لا نملك فيه سوى التفرّج.

وهنا أيضاً، تشتدّ ضرورة فهم زمن الترتيب أو التنظيم (le temps de la disposition) الزمن الذي يُنتج من خلال ترتيب الأحداث داخل وسائل التعبير: في الصحافة، في السرد، أو في الخطاب السياسي أو حتى الثقافي. هذا الزمن، في الحالة السورية، يُعاد ترتيبه كلّ مرّة بطريقة تخدع الناظر والسامع، يتمّ تقديم الحدث الثاني قبل الأول، وقد يُجمَّل القاتل، وتُشوَّه الضحيّة.

أما الزمن الواقعي أو الحقيقي (le temps réel) فهو زمن المعاناة اليومية. زمن الساعة والدقيقة، زمن خَبْز الرغيف المستدير، زمن انفجار قنبلة، زمن الهروب في التهجير. إنه الزمن الذي لا يمكن تأجيله أو تحويره، والذي يعيشه السوري العادي في جسده، في ذاكرته، في خوفه، وفي لجوئه، وفي عودته؛ حتى نصير أمام الزمن الذاتي (le temps subjectif) زمن إنساني مرتبط بالأمل والخلاص، بأحلام بسيطة، حسية بشرية. إنه الزمن الذي يُعيد تشكيل الواقع، لا بحسب ما نرغب، لكن بحسب ما هو واقع وحقيقي. السوريون، في لحظة ما، صدّقوا أن الشرّيرة ستتغيّر، وكأن تغييرها جزء من لحظة استيقاظ بياض الثلج، بعد الاختناق بتفاحة مسمومة. 

هذا الأمل، رغم خيانته المتكرّرة للجوهر، يعود ويتجدّد. ربما لأن الذاكرة السورية، مثل بياض الثلج، تنسى الألم بسرعة، وتضحك وتضحك، بسذاجة خانقة، ببراءة مُعيبة، في هذه المرّة. أو أنها تأبى أن تصدّق أن الشرّ لا يتغيّر، ويعود في وجوه أخرى غير وجه زوجة الأب، الشرّيرة الأبدية، السلطة الاستبدادية، ولا تُلام البراءة في براءتها.

وفي المقابل، هناك زمن الساعات والتقويمات، أو بالفرنسية (le temps des horloges) الزمن الذي لا يتوقّف ولا يهتمّ بما إذا كنّا مستعدّين له أم لا. الزمن السوري، ليس واحداً إذاً، هو متاهة من أزمنة متداخلة: زمن مروي موصوف كموضوع (thématisé) زمن يُرتّب (disposition) زمن يُعاش (réel) وزمن يُتخيّل في ذهن فردي (subjectif).

كما في نهاية حكاية “بياض الثلج”، لا يكفي مجرّد الانتظار ليتحقّق الخلاص، بل لا بدّ من كسر الحلقة، من رفض استقبال المرأة الشرّيرة مجدّداً، حتى لو جاءت متنكّرة بلغة جديدة، وابتسامة ناعمة ماكرة معتذرة.

إن الزمن لا يُقاس فقط بما نعيشه، بل بما نستحضره ونتمثّله ثقافياً. فالسوري، وإن عاش زمن المجزرة، قد يسكن زمن أُميّة، أو زمن “البعث”، أو زمن ما قبل الانهيار، أو حتى زمناً مستقبلياً لم يأتِ بعد، ولا يعني عيشه، عدم رفضه.

إنه يعيش زمناً، ويحنّ إلى زمن آخر. لكن، في كلّ مرّة، تكون النتيجة واحدة: لدغة، غيبوبة، وإعادة إنتاج للألم. إن الزمن يُستخدَم كسلاح رمزي، زمن مستحضَر (évoqué) في يد السلطة، أو المعارضة، أو حتى الشعب. وفي النهاية، الزمن ليس مجرّد تعاقب للأيّام، بل إنه يتحوّل إلى أداة رمزية؛ تستخدمه السلطة لتبرير قمعها، وتستدعيه المعارضة للتغيير وللكفاح بعد غضب وظلم، ويتمسّك به الشعب بحثاً عن معنى يُبرّر من خلاله انتظاره، أو يُعزّي خيبته، أو يُحاكم من ظلمه.

وحده زمن الألم يتجلّى منحسراً، إن امتدّت أيدٍ كثيرة حول المتألم أو المنكوب، أيدٍ تأخذه إلى الرحمة والطيبة، اللتين في قلبه، وقلبِّ أيّ بشري حوله، لم ينلْ منه شرّ هذا العالم.

24.04.2025
زمن القراءة: 6 minutes

الزمن لا يُعاش فقط كمدّة زمنية، بل يُبنى سيميائياً وثقافياً، ويُستدعى ويُستحضر عبر الرموز والحنين والتصوّرات. نظام الأسد، كان وما يزال هو الشرّيرة في قصّة “بياض الثلج” السورية، في عقود مستمرّة ومتواصلة، عرف فيها كيفية استخدام الأقنعة قاصداً القتل، مرّة يأتي بمشط مسموم، ومرّة بتفاحة مسمومة، ومرّة يُرسل صياداً ليقنص قلب بياض الثلج (الشعب السوري) هذا الماضي لن يجعل السمّ في أي حال من الأحوال قابلاً للبلع، لا في الماضي ولا في الآتي.  

ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميْتٍ/ إنّما الميْتُ ميِّتُ الأحياءِ. الشاعر الأندلسي ابن عبد ربه (860-940).

نعيش نحن السوريين في مفارقة زمنية شديدة الغرابة منذ سقوط نظام الأسد، وما تبعه من تعقيدات تخصّ مجازر الساحل. وعلى الرغم من أننا، ظاهرياً، أبناء زمن واقعي واحد، أي لحظة سياسية وتاريخية معروفة، محسوبة بالدقائق وبالضحايا وبالتقارير، فالواقع أعمق وأكثر تشظياً، إذ يسكن كلّ واحد منّا زمناً مختلفاً. البعض ما يزال يعيش في وهم الزمان الآتي ملتمّعاً مثل ذهب خالص، وآخرون يعلّقون آمالهم على عدالة مؤجّلة، فيما تتجمّد شرائح واسعة من الوعي في زمن الألم، بلا ماضٍ محسوم، ولا خطى آتية واضحة. هذا التوتّر بين المعنى والرمز، حيث يبدو الزمن عند السوريين وكأنه يحمل وجهي الحياة والموت معاً، ويتحوّل إلى مساحة يتجاور فيها الأمل والخذلان، والانتظار واليأس، إلى عنف يليه عنف.

الزمن لا يُعاش فقط كمدّة زمنية، بل يُبنى سيميائياً وثقافياً، ويُستدعى ويُستحضر عبر الرموز والحنين والتصوّرات. نظام الأسد، كان وما يزال هو الشرّيرة في قصّة “بياض الثلج” السورية، في عقود مستمرّة ومتواصلة، عرف فيها كيفية استخدام الأقنعة قاصداً القتل، مرّة يأتي بمشط مسموم، ومرّة بتفاحة مسمومة، ومرّة يُرسل صياداً ليقنص قلب بياض الثلج (الشعب السوري) هذا الماضي لن يجعل السمّ في أي حال من الأحوال قابلاً للبلع، لا في الماضي ولا في الآتي.  

لم ينل “الصيّاد أو القنّاص” من قلبنا الطيب، فلم نمت جميعاً. في القصّة الأصلية، يقدّم الصيّاد للملكة الشرّيرة قلب خنزيرٍ برّي، بدلاً من قلب بياض الثلج، وفي ظنّه، طبعاً، أنها ستموت جوعاً في الغابة، أي أنه لم يتركها شفقة عليها، بل جبن أمام براءتها.

نخوض في هذه القصّة التي تُستخدَم كتمرين ذهني نفسي في مجال التحليل النفسي، ليستطيع الشخص الطيّب الساذج الذي يُصادف الشرّير/ الشرّيرة، التي هي غالباً ما تتمثّل جوهرياً برمز السلطة: الأمّ أو الأب، أو السلطة السياسية، أو المعتدي… إلخ، يهدف التمرين إلى مساعدة من تُسقَط عليه صورة بياض الثلج، من أجل الخروج الآمن من مرحلة السذاجة La naïveté إلى مرحلة الوعي، من دون خدش الطيبة La bonté، تلك الخصلة الأساسية في جوهر إنسانيتها، فإن فقدت تلك الطيبة ما عادت بشرية، بل انعكست في صورة الشرّ، حطاماً، وتوليداً لعنف داخلي بدلاً من تفريغ له.

الشعب، في المقابل، يملك زمناً آخر: زمناً مستحضَراً، زمناً يُعاد فيه سرد الحكاية من جديد، كلّ مرّة بالأمل نفسه، بالسذاجة نفسها، بالرغبة في الخلاص نفسها. نكتب الزمن، نُنتج الزمن، ونعيشه لكن لا نتحكّم فيه. وفي سياقنا هذا، فالسذاجة ليست مأخذاً، بل هي تمثّل شخصية طبيعية بسيطة وحقيقية، وجمالياتها في الصدق وفي تصديق الآخر، دون الشك، إلا أنها لا تصلح في السياسة، ولا تصلح في أوقات الخطر، بل تصبح هي الخطر. 

الكاتب السوري، القارئ السوري، السوري، كلّ منهم يعيش تداخلاً بين: زمن إنتاج الألم (temps de production) وزمن تنظيم الخطاب حوله (temps de la disposition) وزمن التلقّي (temps de la réception) كيف يتلقّى الآخرون حكايتنا؟ أو كيف نتلقّاها نحن أنفسنا؟ الزمن ليس فقط مدّة، بل هو ثقافة، وذاكرة، وتمثيل رمزي. الزمن السوري إذاً  ليس من نوع واحد، إنه نصّ متعدّد الأصوات، تتصارع فيه الأزمنة أكثر من الأجساد.

هناك رابط بين سذاجة بياض الثلج، التي تتكرّر رغم الإنذارات، وبين طيبة الشعب السوري الذي رغم المآسي المتكرّرة، يظلّ يأمل بسلطة سياسية لطيفة، ساحرة، وديمقراطية. حاله كحال أي شعب. 
بياض الثلج تعرف عدوّتها وإلا لما كانت اختبأت في الغابة، مثلما يعرف طفل سوري عمره ستّ سنوات، من مخيّم كفرنبودة، من هو عدوّه، ومن قتل أهله، يقول: “نحنا بشّار الأسد نهبنا، قتلنا، أشو نحنا عملنالو؟”، يسأل بطيبة، محاولاً تفكيك الشرّ: “ماذا فعلنا لبشّار الأسد ليقتلنا؟ وبالعامية السورية: “أشو نحنا عملنالو؟”، يسأل الطفل غير دارٍ أن القاتل والمعتدي لا يحتاج إلى سبب للقتل، وربما أغراه جمال السوريين ونبضهم، عفويتهم وصدقهم، أصالتهم وذكاؤهم. اليوم يخرج السوريون من السذاجة، لكن تُلازمهم الطيبة، طيبة كبيرة لا يمكن لها استيعاب هول الشرّ. 

في حكاية “بياض الثلج”، تتكرّر السذاجة كما لو أنها قدر. الفتاة الطيبة، رغم كلّ التحذيرات، تستقبل المرأة الشرّيرة ثلاث مرات، وتُصاب كلّ مرّة بشرّ قاتل “بتفاحة، بمشط، وبحزام”، وتغرق في غيبوبة مؤقتة لا تُوقظها إلا المعجزة. لكنّ هذه المعجزة غالباً، ليست كما تصفها حكايات الأطفال، يمكن للشرّ أن يكون أنيقاً، مترافقاً مع كلّ ما يشوّش ذهن هذه الفتاة البريئة، ولِمَ ستحتاج هذه الصبية أميراً، بعد كلّ ما واجهته؟

كما في نهاية حكاية “بياض الثلج”، لا يكفي مجرّد الانتظار ليتحقّق الخلاص، بل لا بدّ من كسر الحلقة، من رفض استقبال المرأة الشرّيرة مجدّداً، حتى لو جاءت متنكّرة بلغة جديدة، وابتسامة ناعمة ماكرة معتذرة.

هذه الحكاية، بتكرارها شبه العبثي، ليست مجرّد قصّة أطفال. إنها، في شكل مأساوي، تُشبه المسار الزمني للشعب السوري. منذ أكثر من نصف قرن، والسوريون يعيشون على أمل التغيير، الأمل بأن الحاكمة الشرّيرة، يمكن لها أن تتغيّر، أمل الإصلاح، وفي كلّ مرّة تأتي “المرأة الشرّيرة” في هيئة جديدة، بلغة جديدة، وباسم جديد.

هنا تبرز أهميّة فهم الزمن، فالزمن ليس فقط تسلسلاً من الأحداث، بل هو بنية تحمل دلالات مختلفة، وفي التعمّق قليلاً في الزمن السوري، يظهر الزمن الموضوعي أو الثيماتي (le temps thématisé) ذلك الزمن السردي الذي يُعيد نفسه كأننا داخل رواية أو أسطورة دائرية. الزمن السوري، في كثير من وجوهه، أصبح زمناً ذا طابع موضوعي: قصّة تتكرّر بلا نهاية، بشخصيات تختلف بالأسماء لا بالأفعال، وكأننا نعيش داخل نص كُتب سلفاً، لا نملك فيه سوى التفرّج.

وهنا أيضاً، تشتدّ ضرورة فهم زمن الترتيب أو التنظيم (le temps de la disposition) الزمن الذي يُنتج من خلال ترتيب الأحداث داخل وسائل التعبير: في الصحافة، في السرد، أو في الخطاب السياسي أو حتى الثقافي. هذا الزمن، في الحالة السورية، يُعاد ترتيبه كلّ مرّة بطريقة تخدع الناظر والسامع، يتمّ تقديم الحدث الثاني قبل الأول، وقد يُجمَّل القاتل، وتُشوَّه الضحيّة.

أما الزمن الواقعي أو الحقيقي (le temps réel) فهو زمن المعاناة اليومية. زمن الساعة والدقيقة، زمن خَبْز الرغيف المستدير، زمن انفجار قنبلة، زمن الهروب في التهجير. إنه الزمن الذي لا يمكن تأجيله أو تحويره، والذي يعيشه السوري العادي في جسده، في ذاكرته، في خوفه، وفي لجوئه، وفي عودته؛ حتى نصير أمام الزمن الذاتي (le temps subjectif) زمن إنساني مرتبط بالأمل والخلاص، بأحلام بسيطة، حسية بشرية. إنه الزمن الذي يُعيد تشكيل الواقع، لا بحسب ما نرغب، لكن بحسب ما هو واقع وحقيقي. السوريون، في لحظة ما، صدّقوا أن الشرّيرة ستتغيّر، وكأن تغييرها جزء من لحظة استيقاظ بياض الثلج، بعد الاختناق بتفاحة مسمومة. 

هذا الأمل، رغم خيانته المتكرّرة للجوهر، يعود ويتجدّد. ربما لأن الذاكرة السورية، مثل بياض الثلج، تنسى الألم بسرعة، وتضحك وتضحك، بسذاجة خانقة، ببراءة مُعيبة، في هذه المرّة. أو أنها تأبى أن تصدّق أن الشرّ لا يتغيّر، ويعود في وجوه أخرى غير وجه زوجة الأب، الشرّيرة الأبدية، السلطة الاستبدادية، ولا تُلام البراءة في براءتها.

وفي المقابل، هناك زمن الساعات والتقويمات، أو بالفرنسية (le temps des horloges) الزمن الذي لا يتوقّف ولا يهتمّ بما إذا كنّا مستعدّين له أم لا. الزمن السوري، ليس واحداً إذاً، هو متاهة من أزمنة متداخلة: زمن مروي موصوف كموضوع (thématisé) زمن يُرتّب (disposition) زمن يُعاش (réel) وزمن يُتخيّل في ذهن فردي (subjectif).

كما في نهاية حكاية “بياض الثلج”، لا يكفي مجرّد الانتظار ليتحقّق الخلاص، بل لا بدّ من كسر الحلقة، من رفض استقبال المرأة الشرّيرة مجدّداً، حتى لو جاءت متنكّرة بلغة جديدة، وابتسامة ناعمة ماكرة معتذرة.

إن الزمن لا يُقاس فقط بما نعيشه، بل بما نستحضره ونتمثّله ثقافياً. فالسوري، وإن عاش زمن المجزرة، قد يسكن زمن أُميّة، أو زمن “البعث”، أو زمن ما قبل الانهيار، أو حتى زمناً مستقبلياً لم يأتِ بعد، ولا يعني عيشه، عدم رفضه.

إنه يعيش زمناً، ويحنّ إلى زمن آخر. لكن، في كلّ مرّة، تكون النتيجة واحدة: لدغة، غيبوبة، وإعادة إنتاج للألم. إن الزمن يُستخدَم كسلاح رمزي، زمن مستحضَر (évoqué) في يد السلطة، أو المعارضة، أو حتى الشعب. وفي النهاية، الزمن ليس مجرّد تعاقب للأيّام، بل إنه يتحوّل إلى أداة رمزية؛ تستخدمه السلطة لتبرير قمعها، وتستدعيه المعارضة للتغيير وللكفاح بعد غضب وظلم، ويتمسّك به الشعب بحثاً عن معنى يُبرّر من خلاله انتظاره، أو يُعزّي خيبته، أو يُحاكم من ظلمه.

وحده زمن الألم يتجلّى منحسراً، إن امتدّت أيدٍ كثيرة حول المتألم أو المنكوب، أيدٍ تأخذه إلى الرحمة والطيبة، اللتين في قلبه، وقلبِّ أيّ بشري حوله، لم ينلْ منه شرّ هذا العالم.

24.04.2025
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية